مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الاثنين، 2 نوفمبر 2009

السيدة العجوز .... ( الجزء الثاني )

الجزء الثاني


( ٦ ) دعاء

تحلق الابناء حول امهم ، مازالت ابنتها تبكي ، تمضغ الكلمات المجدوله بالامنيات تناشدها البقاء ، تشفق علي ابنتها ، تكاد تطلب اذنها للرحيل ، ارهقت ياابنتي وارهق الجسد الواه معي ، كفايانا حياه ، دعينا نرحل ، لكنها تعرف ابنتها عنيده مثل ابيها ، لاتستسلم بسهوله ، مقاتله ، هكذا ربتها ، لا تتنازلي عن حقوقك ، لاتتراجعي ، لاتستسلمي ابدا ، قاومي حتي الرمق الاخير ، تعرف ابنتها لن توافقها ابدا ، لن تمنحها الاذن بالرحيل ، ستذكرها بكلماتها ، قاومي حتي النفس الاخير قاومي حتي النفس الاخير...

كانت الابنه دعاء تمتم بنفس الكلمات في نفس اللحظه ، تبكي خوفا علي امها لكنها تذكرها باقوالها ، تناشدها المقاومه حتي النفس الاخير الذي تتمناه لايخرج ابدا ، اقتربت دعاء من امها قبضت علي اصابعها ، سرت الحياه في الجسد الوهن ، ابتسمت هانيه ، هذه المقاتله هي ابنتها الحبيبه ، ابنتها التي علمتها اسرار البقاء في الحياه القاسيه ، سلحتها بمايلزمها لمواجهه الاوجاع والهم ، كفانا هزائم ، كانت هانيه تعيش كل احلامها في الابنه التي اثبتت وجودها في الحياه ، لم تسمح لرجل يكسر ارادتها ، لم تسمح لمجتمع يحاصرها ، لم تسمح لقلبها يوهنها فتضيع بين اقدام الاحبه كالكره الباليه ، كانت هانيه تعيش حياتها الضائعه في وجود دعاء وحضورها الطاغي ، كانت تراها فتبتسم ، انها الفرحه في زمن تبكي فيه الامهات انجاب البنات ، لكن دعاء اتت استجابه لادعيه امها للرحيم ان يمنحها من رحمها ابنه حانيه فاستجاب الله ليله القدر لادعيه هانيه ومنحها الدعاء الذي حلمت به وانتظرت تحققه ، ابنه لم يكسر الزمن اضلعها ولم يكسر الرجال نفسها ولم تكسر الحياه كينونتها ...

تحلق الابناء حول الجسد الوهن ، تسمع هانيه بكاء دعاء ، تشفق عليها ، لاتبكي فانت باقيه وانا باقيه فيكي ، لاتبكي فانا لن ارحل فروحي داخل روحك وافكاري تحتل عقلك وحنان قلبي يمتزج مع حنان قلبك ، انا انت ، طالما بقيت ومن بعدك كل بناتك انا باقيه ... لكن دعاء لاتسمع امها ولا تتوقف عن البكاء ، وحين يدخل الطبيب بروائحه العطريه وشعره اللامع ، تنقض عليه تكاد تنهش قلبه ، تطالبه بمداواة امها ، تبتسم هانيه ، لاتقسي عليها ، لن يداويني ، فكل علمه اعجز من اعاده الحياه لذلك الجسد الوهن الذي يشتاق للرحيل والراحه ...
يشرح لهم الطبيب بعبارات بارده ان " الحاله مستقره " وان " الشفاء من عند الله " و" ماتقلقوش " تبتسم هانيه ، صغير قليل الخبره هذا الطبيب ، لو كنت مكانه لطلبت منهم ان يعيدوني للمنزل ، اموت في منزلي بدلا من ارهاقه بالاسئله التي لايعرف لها اجابات ، تمنت لو احتضنت رضيعتها التي ماتت بعد ايام من ولادتها ، اجتاحها الشوق ، تعثرت الخطوط في الشاشات الطبيه ، لاتخافوا انه الشوق ، اشتاق لصغيرتي التي حرمت منها ، شقيقتكم التي طالما حدثتكم عن جمالها لحظه الولاده ، شقيقتكم التي قبعت في جوفي شهورا وحين خرجت للحياه ماتت ، يوم موتها شققت ملابسي ، كدت ابتلعها ثانيه داخلي ، لو كنت اعلم ان خروجها للحياه سيميتها لابقيتها في جوفي حتي متنا معا ، مازالت الشاشات تتعثر ، انه الابنه التي دخلت الحياه من بوابه الرحيل ، بعد دعاء وقبل نبيل ..... تعثرت الشاشات اكثر ، تساءلت السيده العجوز ، اين نبيل ، ابني الطيب ، المحب حد الثماله ، الحالم بعالم وردي لم يراه ، كسرته الدنيا لرقته ، ولد رقيقا حالما ، كانها وريقه ورد ناعمه يخدشها النسيم ، اين نبيل .... تعثرت الشاشات اكثر والطبيب الصغير واقف امامها يحدق فيها لايفهم مايحدث !!

نظر الطبيب لدعاء واحمد وشرح لهم عجزه عن فهم مايحدث ، فطلاسم صحه امهم تحيره ، لايفهم لماذا ترتعش الشاشات ولماذا تنتظم ، لايوجد مبرر طبي لكل مايحدث ، ابتسمت العجوز ساخره منه ، تهمس لابناءها ، الم اقل لكم لن يداويني ولن يفهم ، ترتعش الشاشات الان بحثا عن نبيل الابن الحالم الغائب عن مجلس الموت ..... فكرت في نبيل وغابت عن الوعي اكثر ..... !!

( ٧ ) نبيل

جلس نبيل علي المقعد الموجع بجوار غرفه امه ، لايقوي علي الدخول عليها ، يمزق قلبه جسدها الوهن وانفاسها البطيئه وغيبوبتها ، سالت دمعتين علي خده ، ارتبك ، مسح دموعه لايرغب احد يراها ، ابتسم بين الدموع تذكر امه ، كانت تشجعه علي التعبير عن مشاعره ولو البكاء ، لم تسخر منه مثلما فعلت جدته العجوز ، قالت له ان الرجال لاتبكي فلم يفهم كلمتها فهو رجل يبكي ، والبكاء لاينقص رجولته ولاينال منها ، سالها صغيرا ، لماذا خلق الله الرجال تبكي ياجدتي ، نهرته ولم تجب علي سؤاله واكدت عليه ، الراجل اللي يعيط يبقي خيخه ، جرحته فهرول لحضن امه بسنوات التسع يبكي يشكو جدته التي شتمته ، احتضنته امه وهمست في اذنها ، جدتك كبرت ماتخدش علي كلامها وهدهدته وغنت في اذنه بمعسول كلماتها ، هونت عليه وقع كلمات جدته القاسيه ، ابكي ياصغيري ولا تخفي دموعك فالرقه ليست نقيصه والاحساس المرهف ليس عيبا ، يوما تشاجرت مع امها بقسوه ، نبهت عليها البعد عن اولادها ، كان نبيل في الحجره بعيدا سعيدا بالمشاجره ، يتمني لو عض جدته انتقاما ، يوم ماتت بكي بحرقه وتذكر كلماتها القاسيه فطلب منها تصفح عنه هو يبكي لانه يحبها وهي ماتت .. وقف احمد بجواره يناديه ليدخل حجره الام ، يحذره ، ربما سترحل ، رفض نبيل الدخول ، لايحتاج رؤيتها فهي بداخله تحتله ولن ترحل ابدا ، نظر لاحمد بعتاب انت التي غادرتها ولم تنهل من نبع حنانها ، ادخل اجلس بجوارها واعتذر لها غيابك وحدق فيها استرجع الملامح التي شوهها المرض ، حاول تذكر وجه امك باكيه يوم رحيلك ، حاول تذكر ملامحها ، انت من تحتاج تجلس جوارها ، اما انا فلااحتاج رؤيتها ، فهي سترحل عن عالمكم وتسكنني ، ستخرج معي سليمه معافيه متمرده ثائره الروح ، ستتخلص في فراش مرضها الاخير من كل الاوجاع التي مزقت قلبها من كل ندباته العميقه من كل الهم الذي افسد حياتها ، ستتخلص في فراش مرضها الاخير من كل المنغصات التي افسدت حياتها وتخرج معي من المستشفي في احسن احوالها تحلق في السماء سعيده وتحط علي كفي كل ليله كمثل يمامه تعود لافرخها الصغيره تطعهم وتحتويهم تحت جناحها الحنون ....

نظر له احمد باستغراب لايفهم موقفه ، ياتي كل يوم للمستشفي ويجلس خارج الغرفه لايدخل علي امه ابدا ، حدق فيه كان نبيل يبكي ، هز احمد راسه متغاظا منه ، لايعجبه تلك الرقه اللعينه التي وصمته !!! ثم تذكر كلمات امه فلامها علي تربيتها لذلك الرجل الذي تشبه مشاعره ارق النساء وتركه ودخل للحجره يستفسر عن حاله امه " ها ايه الاخبار " انتبه هانيه لوجوده كادت ترد عليه لكنها كسلت فهي مرهقه لدرجه كبيره لايشعر بها احد ونامت !!!!!

( ٨ ) الحياة

تندر احمد علي رقه نبيل مع دعاء ، سمعت السيده العجوز عباراته الجارحه ، كادت تنهره ، طيله حياته لايفهم اخيه ، اشفقت علي نبيل من قسوه احمد ، تذكرت ان احمد سيغادر الوطن فور موتها وانتهاء ايام العزاء ، كانها همست لنبيل يتحمل اخيه وسخافته ، تحسه شبه امها ، ورث قسوتها ، هي وابيه كانا طيبين ، ضحكت داخل غيبوبتها ، هي كانت ، بل هي مازالت طيبه ، هي لم ترحل فيسبق الحديث عنها دائما كلمه كانت ، هي مازالت مازالت ... تشبست بالحياه ، كانها تتشاجر مع جسدها وهنه كانها تتشاجر مع جسدها ضعفه ، اضطربت الشاشات وتماوجت الخطوط المستقيمه وصعدت وهبطت المؤشرات ...

كانها سمعت دبيب من الشاشه ، انتبهت دعاء فزعت صرخت ، ادركت ان امها علي وشك الرحيل ، هكذا تقول الشاشه ، صرخت بصوت اعلي ، قبضت علي اصابعها ، لاترحلي ، مازلت احتاجك ، ارتبك احمد ، لم تصفح عنه ، لم تفتح عينيها وتراه ، لم تعرف انه ترك كل اعماله وحضر خصيصا لرؤيتها ، دخل نبيل مسرعا للحجره ، هل حانت لحظه رحيلها فيقبض علي روحها في قلبه وياخدها معه ويترك المستشفي ويرحل ، مازال صوت الدبيب عاليا ، كادت تصرخ فيهم بصوت اعلي ، هذه ليست لحظه الاستسلام ، هذه لحظه التمسك بالحياه ، هذه الشاشات صممت لرصد الموت لاتفهم لغه المقاومه والتشبس بالحياه ، اي خلل تعتبره اشارات موت ، لاتفهم طلاسم التمسك بالحياه ، كادت تصرخ فيهم لاتصدقوا الشاشات وصدقوني انا ...

انا امكم التي انجبتكم ، انا التي احببتكم ، انا التي ربيتكم ، كادت تهمس في اذن دعاء لاتخافي ياحبيبتي فانا معك ، كانت تسمع الصوت الداخلي لنبيل انتظركم فلا تتاخري ، وقت ترغبي في الرحيل اتركي لهم هذا الجسد الوهن وتعالي معي ، ابتسمت له حين تدق الساعه انت اول من سيعلم ، ابتسمت لدعاء لم تحن ساعتي بعد ، نظرت لاحمد غاضبه لكن سكرات موتها صفحت عنه ، ساموت سريعا فلا تتاخر علي عملك ولا تحقق مزيد من الخسائر ولاتبقي في المكان الذي لم يسكنك فلم تسكنه ورحلت عنه لم يطرف لك جفن ....

مازال دبيب الشاشه عاليا ، مازالت المؤشرات تتلعثم ، مازالت الخطوط المستقيمه تتماوج ، احست نفسها قويه لدرجه اربكت الاجهزه الطبيه ، افسدتها ، فرغبتها في الحياه مازالت اقوي من كل مؤشرات الرحيل التي تفهمها الشاشات ، لم تحن الساعه بعد ، احست نفسها مرهقه والحجره مزدحمه والاكسوجين قليل ، نامت داخل غيبوبتها وهدآت ، انتظم المؤشرات والشاشات وتسللت الطمآنينه المؤقته لنفوس ابناءها فجلسوا كل علي مقعد حولها يحدقون فيها يتساءلون بامل هل ستفيق يخافون من مباغتتهم بالرحيل المفاجيء!!!
لن ارحل بعد ... مازالت حياتي مبعثره احتاج لتنظيمها ... وحتي انتهي من تلك المهمه الشاقه لن ارحل !!!!

( ٩ ) الرجل الذي احبته والرضيعة

كانت علي فراشها تتكلم مع العروس ، دخلت عليها امها بنظرات بارده اخطرتها بزواجها من اخر غير ابيها ، لم تفهم هانيه علاقتها بذلك الخبر ، افصحت الام عن مفاجآتها ، ستغادر هانيه المنزل لتقيم بمنزل جدتها ، فالزوج الجديد لايريدها بالمنزل تفسده حريته واستمتاعه بزوجته ، لم تفكر ام هانيه ثانيه ، ضحت بها من اجل السعاده الزوجيه التي لم تعشها مع ابيها ، وافقته بلا تردد ، تصورت هانيه ان امها كانت مستعده لذبحها لو اراد ذلك الرجل ، احسته طيب رغب فقط في طردها من منزلها وليس قتلها !!!


لملمت هانيه ملابسها في حقيبه باليه وامسكت بعروستها وسلمت ذراعها لجدها وخرجت من الشقه لم تودع امها ....

تحركت هانيه في فراش الغيبوبه غاضبه من امها ، التي طردتها من غرفتها ولم تعطها بقيه الدمي معها ، سرعان ماصفحت عن امها ، التمست لها الاعذار ، شابه طلقت بعد زواج قصير ورطت في تربيه طفله لاب عابث لم ينفق علي ابنته وترك كل حملها علي راس المرآه التي عاشت اما محرومه من انفاس الرجال ، التمست لها الاعذار التي لم تفهمها وقت طفولتها .....

عاشت هانيه بمنزل الجده حتي تزوجت ، اشترطت علي العريس منزلا خاصا ، وافقها لانه يحبها ، انهي زواجها حاله اليتم التي عاشتها مشرده بلا منزل ، احبت زوجها الرجل الوحيد الحنون الذي عرفته لانها منحها بمنتهي الحب حلما تصورته مستحيلا ، ليله زفافها تركته ينتظر علي الفراش وجابت المنزل تغني سعيده بمنزلها ، اجلست العروسه صديقتها علي مقعد الصالون الفاخر وتركتها ودخلت نامت في حضن زوجها ورجلها وحبيبها ، وحين استيقظت صباحا هرعت لها تسر بسعادتها وتكاد تقسم انها لمحت علي وجهها ابتسامه فرح !!

( ١٠ ) الرحيل

مااجمله زوجها ومااحنه ، احست شوقا له ، لاول مره تمنت الرحيل ، احست احضانه تناديها ، ستعود لدفئه لحنانه يحميها من قسوه امها وقسوه الزمن يصالحها علي الحياه التي اوجعتها ، كانها رات وجهه مبتسما ينتظرها ، كانها رات احضانه مفتوحه للقاءها...

تذكرت ابنتها الرضيعه التي رحلت قبل ترضعها حنانها وحبها ، الرضيعه التي ماتت وتركت رحمها منتفخا متضخما وحجرها فارغ ، اشتاقت اليها ، كادت تناديها لتحضر ثم اشفقت عليها صغيره لاتقوي علي الحضور ، طمآنتها ستذهب هي اليها .......

نادت دعاء لاتحزني .... انت ابنتي وحبيبه قلبي وسر وقوتي وفيك اعيش !!

نادت نبيل لاتحزن .... انت قلبي وروحي ومعك سابقي ولن اغادرك ابدا !!

نادت احمد لاتحزن .... انت ابني البكري وحبيبي لاتحمل للدنيا هما لقد صفحت عنك منذ زمن بعيد ، حين ترحل للبلاد البعيده ستجدني ازورك في احلام نومك ويقظتك ، انت قطعه مني لن اتخلي عنها ابدا حتي لو كنت اناني تخليت عني وقت احتياجي لك !!


شاهدت وجه امها بجوار ابناءها ، همست لها صفحت عنك فاني امي اقدر عذاباتك واشفق عليك من حياتك القاسيه وافهم سر قسوتك فالانسان الذي يحتاج حنان ولايجده يستحيل عليه منح الحنان لاي شخص حتي لو كان ابنته الوحيده التي يحبها !!!

شاهدت وجه زوجها الرجل الوحيد الذي احبته مبتسما يناديها ، طمآنته ساحضر حالا
كان يحمل رضيعتها علي كتفه ، اشتاقت لها واحست اللبن الدافيء يجري في صدرها ، ابتسمت ابتسامه اوسع وهمست حاضر ياقلب ماما

شاهدت وجه ابيها يقف بعيدا ، حدقت فيه لاتعرف ملامحه جيدا ، سالته ابي ، هز راسه ، ابتسمت اخيرا زارها واهتم بها ......

حدقت في كل الاوجه وودعتهم ورحلت مبتسمه !!!! فقد انهت مآموريتها الشاقه ورتبت اوراق حياتها وصالحت احباءها ورحلت راضيه عن كل ماعاشته !!!!

صرخت الشاشات فصرخت دعاء وبكي نبيل واغمض احمد عينيه تاثرا ....

وغادرت هانيه المستشفي بصحبه زوجها ورضيعتها في افضل احوالها سعيده راضيه .......

---------------------------
بدآت كتابه هذه في يوم ما من ثمانيه اعوام وانهيتنا اليوم ... ومابين اليومين لم اقترب منها طيله تلك السنوات ...

نشرت في مدونه ياما دقت علي الراس طبول

http://marmar18359.blogspot.com/2009/11/blog-post.html

لكني اعيد نشرها لانها حدوته من الحواديت

ليست هناك تعليقات: