مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الخميس، 31 مايو 2012

ابو الهول وحده يعرف الاجابة !!!!!ا





بسرعه بسرعه ... ودون مقدمات منطقيه .. ولا مبررات مقبوله ..ولا تفسيرات مستساغة !!! 
بسرعه بسرعه ....
تسارعت السنه اللهب تجري خلف بعضها تلتهم وبسرعه الجدران والستائر والمفروشات و.................. حريقة حريقة !!! 
تسارعت السنه اللهب ، لااحد يعرف من اين اتت ، احدهم يقول ماس كهربائي والاخر عقب سيجاره والثالث بفعل فاعل مجرم والرابع الغاز تسرب ، هل سيظلوا يتناقشوا طويلا والحريق يلتهم المنزل ويلتهمهم؟؟؟

تصرخ فيهم الام ، كفاكم مناقشه ، كفاكم سفسطه ، الحريق سيلتهم البيت وانتم اسري عجزكم لاتطفئوا الحريق ولا تنجوا بانفسكم ولاتنقذونا ، كفاكم مناقشات عقيمه ..يضيع صوتها وسط الصراخ والفزع وصوت فحيح النيران ودوامات اللهب الاسود ، يضيع صوتها فلايسمعوا حديثها ويستمروا وكأنهم مخدرين في مناقشه مايحدث ولماذا حدث ؟؟

الحريق في عماره عالية ، تطل علي النيل العظيم قابع تحت اقدامها ، الاهرامات الثلاث تترايء من بعيد ، ابو الهول النائم يكاد يستيقظ من النوم ويصرخ اطفئوا الحريق ، ماء النيل يجري تحت الحريق لكن احد لايدلي بدلوه لينقذ نفسه ولا الاخرين !!! 
حريقة ....... حريقة !!! 

الشقة كبيرة ومكدسه بالمنقولات ، هذه غرفه الجد الاكبر بالمكتبه العريقه وامهات الكتب والاضابير الصفراء تحكي عن تاريخ العائلة التي تكاد تحترق والنيران تمسك بالشقه !!! هذه غرفه اصغر الحفيدات ، تكدس فيها ملابسها الجديده استعداد للعرس الذي اجلته اكثر من مره لان احوال البلد لاتطمئن وهي مصممه تزف لحبيبها وهي سعيده فرحه ، الايام خلف الايام والبلد احوالها لا تطمئن والعرس يؤجل والتراب يغطي الملابس الجديده يقتل زهوتها ، العروس تقف خلف باب حجرتها وكأنها ستمنع النيران تحرق فرحتها وملابس عرسها واحلامها ، هذه غرفه الام ، هنا انجبت كل الاطفال ، هنا ارضعتهن حليبا وحنانا ، هنا هدهدتهم واحتوت صخبهم في حضنها ، هنا ربت وكبرت ، تخرج الام من الحجره ، تصرخ ، يالا ، يالا بينا !!! 

لااحد ينصت لصراخها ، ربما هرمت ، ربما كبروا هم لحد لايجدوا مبرر لسماع كلامها ، يالا بينا ، تتحرك صوب باب الشقه لكن السنه النيران العالية تغلق امامها طريق النجاة ... الشقه مكدسه بالابناء والاحفاد والخدم والاصدقاء والاحباء ، الكل يجري بلا هدف صوب اللاشيء ، الكل يخاف من النار ، لكن البلاده طفحت علي بعضهم فانتحوا جانبا يتناقشوا في مبرر الحريق ، و.....وكيف يتلافوه مستقبلا ، تصرخ فيهم الام ، مش وقته خالص ، لما ربنا ينقذنا نبقي نشوف حنعمل ايه بعد كده ، ينظروا لها بعيون بليده زجاجيه ويستكملوا حواراتهم العقيمه !!! 

الدخان الاسود يملأ سماء الشقه وطريق النجاه مسدود بالسنه اللهب ودوامات الدخان الاسود الذي يخرج من الشرفه الكبيرة المطله علي النيل و يواري بسواده الاهرامات وابو الهول والتاريخ ، يسكب سما فوق وجه النيل وماءه الرقراق ، تخرج الام للشرفه وتناديهم جميعا ، سنقفز جميعا من هنا !!! 
لايصدقها احد ، ايوه ، حنط من هنا ، ده الحل الوحيد !!! 

يصرخ ارعنهم ، لا انا مش حانط ، لايمكن ، انا حافضل افكر ازاي اطفي الحريق واكيد حاعرف اطفيه !!! 
يسعل سعال خشن من اختناق الدخان الاسود ، تصرخ فيه ، مش حتلاقي وقت ، نط وبعدين فكر !!! 
يضحك ساخرا ، هههههههههه لا افكر الاول ، حتي لو مت ، ابقي علي الاقل فكرت قبل مااموت !!! 
تنظر له لاتصدق مايقوله ، احمق لهذا الحد !!! 

تتركه وتذهب لحفيدتها ، يالا ياحبيبتي ، البيت بيتحرق ، لازم ننط !!! 
تفكر في ملابس عرسها ، في خطاباتها الغراميه ، في الصورة التي صورها لها حبيبها وهي ترقص ، لن تقفز بغير اشياءها ، النيران ستلتهم تاريخها وغرامها وفستان زفافها ، لن تقفز الا بعدما تنقذ ملابسها وحبها !!! ياتيته ، بلا تيته بلا زفت ، يابت حتتحرقي ، العريس حيطفش منك ، ده لو عشتي يعني ، يابت نطي معايا ، لا ياتيته الشقه عاليه ، اكيد حنموت !! ضحكت الجده لا مش اكيد حنموت ، جايز نموت ، جايز نتكسر ، جايز نتعور ، جايز نطير ، لا الاكيد لو فضلنا هنا حنتحرق ونموت احنا والشقه لاحنكون انقذناها ولا انقذنا روحنا ، يالا يابت !!! 

تجري الام ، صوب الضيوف ، يالا ياجماعه ، كله علي البلكونه !! 
تبحث احدي الضيفات عن حقيبه يدها ، دي شنطه " سيناييه " مش حاسيبها تتحرق !!! 
يبحث رجل عن مسبحته الكهرمان ، دي سبحه ابويا ولايمكن انط وهي تايهه واسيبها النار تحرقها !!! 
تتحرك احداهن صوب الشرفه فيصرخ فيها شقيقها ، حتنطي وانت حافيه الارض تحت سخنه !!! 
تبحث عن حذائها الذي التهمته النيران دون تدري 
يبحث رجل عن تليفونه المحمول ، لم يسدد كل اقساطه لن يقفز بدونه ، ماقيمه الحياه بدون التليفون ، يعيش طويلا يسدد اقساط التليفون المحترق ، لن يقفز بدونه!!! 

حريقه ، حريقة 
يصرخ الجيران ، يحاولوا كسر الباب من الخارج لكن النيران وقوه الدخان تحكم اغلاقه !!! 
الناس في الشارع اسفل العماره تصرخ ، حريقه حريقه ، يتصلوا بالمطافيء لكنها تتاخر كعادتها ، يطل احد الابناء من الشرفه ويسب الحياه كلها ، هاهي المطافيء لاتأتي وتتاخر كعادتها ، لاامل لاامل في ان تتحسن احوالنا !!! ينصت له الجد وهو يحتضن كتبه واضابير تاريخه والبومات الصور ويستعد للقفز من الشرفه ، حتفضل تنظر كده لغايه ماتتحرق وانت بتنظر ، اتصرف وبعدين لما تنجا نظر براحتك قدامك العمر طويل ، سخر منه الشاب ، انت خايف علي عمرك قوي كده ، سخر منه الجد سخريه اشد ، ياحمار عمري ايه ، انا عمري خلص ، انا خايف علي الكتب دي ، صحيح هي مرميه قصادك من زمان عمرك مافتحتها لكن مين عارف جايز يوم ترجع لعقلك وتقرا الكلام اللي يستحق القرايه ، انا خايف علي الكتب ، علشان كده حانط بيها انقذها مش انقذ نفسي ، انت بقي ناوي علي ايه ، يضحك الشاب لاحانط ولا حاستني!!! 
تصرخ الام ........ امال حتعمل ايه ، حينزل لك ملاك من السما ينقذك ، حتنشق الارض وتبلعك ، يابني قول كلام منطقي!!! 

الدخان الاسود يملأ الشقه اكثر واكثر 
الحراره تزيد 
لهب النيران يكوي الاجساد وهي بعيده عن محرقته 
الكل يجري صوب اللا شيء 
بعضهم ينظر من الشرفه ويخاف 
بعضهم يقترب من الباب ويرجع مسرعا 
بعضهم يغمض عينيه ويتمني الا يحدث مايحدث والا يعيش مايعيشه 
والنيران لاتكترث بعجزهم وتزداد بأسا وقوة !!! 

تقترب الام من الشرفه وتصرخ فيهم ساعدوني لاقفز 
يحاولوا كسر عزيمتها لكن اللهب الاحمر المتلاعب خلف ظهورهم والدخان الاسود الخانق لايترك لها اختيارا 
اما البقاء والاحتراق والموت ، واما الفرار والامل في النجاه ..
تصرخ تنادي اولادها واحفادها ليأتوا معها .. 
يقترب منها الجد العجوز ، يحتضن كتبه واضابيره ويعتلي معها السور ويقفزا 
هل نبتت لهما اجنحه 
هل حملتهما الملائكه تنقذهما والكتب والتاريخ 
لااعرف يعرف 
لكنهما وصلا للارض البعيده ، منهكين الروح متعبين لكن الحياه مازالت متشبثه بهما مثلما تشبثا بها ..
هل سيقصا علينا العذاب الذي ضرب بجنبات روحهما وقتما قررا محاوله النجاه بانفسهما وبالتاريخ ولم يقبلا البقاء تلتهما النيران وهم عاجزين عن اتخاذ القرار او التصرف بالفعل المناسب !!! 
لن يقصا علينا عذاباتهما التي تلاشت وتوارت امام فرحتهما بالانتصار علي الخوف والعجز والرعب والسنه النيران 
العذابات تلاشت ، فساعه الالم منسيه وساعه الفرح الف ساعه !!! 

وقفا تحت العماره ، يراقبا النيران وهي تلتهم الشقه والمفروشات والمترددين العاجزين عن الاختيار واتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب !!! 
العروسه ماتت خلف الباب المغلق وهي تحافظ علي مفروشاتها وخطاباتها الغراميه وبقي العريس طويلا يبيكها ويلومها لانها افسدت حياته وقتما خافت علي ذكرياتهما ولم تخاف علي حياتها !!! 
الرجال ماتوا بعضهم مختنقين بالدخان الاسود والبعض الاخر بالنيران الحمراء ، تشوهت جثثهم فلم يعرف رجال الطب الشرعي شخصياتهم ووقفت نسائهن تبكي امام الجثث لاتعرف كل منهن حبيبها لتحتضن جثته وتبكي !!! 
الشقه التي كانت جميله احترقت 
ومفروشاتها الاثريه التي توارثتها الاجيال خلف الاجيال احترقت 
ومن كان يبحث عن سبحته مات ولم يجدها 
ومن كانت تبحث عن حقيبتها الانيقه ماتت ولم تجدها 
ومن كانت تبحث عن حذائها ماتت 
ومن كان يبحث عن تليفونه المحمول مات 
ومن غضب لان الحريق اشتعل مات ، ومن فكر كيفيه الا يشتعل ثانيه مات ، ومن بقي مترددا بين السنه اللهب والشرفه مات 
ماتوا جميعا محترقين !!!! 
ومن كان يبحث عن سبب الحريق مات قبلما يعرفه 
ومن كان يفكر في كيفيه وقايه الاسره والشقه من الحريق المستقبلي مات وتشوهت جثته حد لم يعرف احباءه مالذي حدث له 
و.......................
وقفت الام والجد الهرم والاضابير تحت العماره يبكوا الحريق والدخان الاسود والموت 
لكن ............ النيل مازال يجري 
ومازالت الاهرامات شامخه 
ومازال ابو الهول يراقب كل مايحدث لايعجبه طبعا لكنه يراقبه وهو حي وشاهد علي التاريخ وموجود !!! 

في اليوم التالي 
صخبت الفضائيات بالمرثيات والمعازي علي الاسره التي كانت ولم تبقي !!! 
لكن صوت الفرح العالي في الشارع الضيق ارتفع فوق صوت المرثيات فلم يسمعها احد !!! 
وصوت اذان المغرب ارتفع فوق صوت المرثيات فلم يسمعها احد !!! 
وصوت دقات الهون في سبوع الوليد الجديد ارتفعت فوق صوت المرثيات فلم يسمعها احد !!! 
وصوت صراخ السيده التي ارهقها واجهدها المخاض في وليدها المنتظر ارتفع فوق صوت المرثيات فلم يسمعها احد !!! 
وصوت صفير بائع الغزل البنات علي كورنيش النيل ارتفع فوق صوت المرثيات فلم يسمعها احد !!! 
وصوت الرجال يذكرون ربهم في حلقه الذكر ارتفع فوق صوت المرثيات فلم يسمعها احد !!!! 
ومازال النيل يجري 
والاهرامات شامخه !!! 

في اليوم التالي
تصدرت الصحف والجرائد اخبار الحريق والمأساة التي عاشتها تلك الاسره فاحترق مستقبلها ولم يبقي منها الا الام والجد !!! 
لكن السيدة العجوز التي شاهدت الجريده لم تكترث بماهو مكتوب في صفحتها الاولي ونظفت بها زجاج الشقه الصغيره !!! 
والعروس التي تقطن في شقه جديدة ، فرشت الجرائد في " نمليات " المطبخ وتحت الاطباق والحلل !!! 
وبعض الماره العابرون ، فرشوا صفحات الجرائد فوق جثه مجهوله صدمتها سياره مسرعه !!! 
وباعه اللب ، مزقوا الصفحات لاوراق صغيره و" قرطسوها " لتعبئه اللب !!! 
وبائع الطائرات الورقيه العجوز ، قصص الجريده بكل صفحاتها ومرثياتها وصنع من قصاصاتها ديلا طويلا للطائرات التي يبيعها للفقراء تسعدهم !!! 
ودست بائعه الكبده قطع المخلل في ورقه صغيره عليها صورة احد المحترقين فاكل الشاب الجائع السندوتش والطرشي والقي بالورقه تحت ارجله وهو يسير مسرعا في طريقه للحاق بعمله قبلما يرفعوا الدفتر !!! 

همست الام للجد وهما جالسين امام النيل العظيم ، مرتاعين من كل ماحدث ، منهكين منه ، هم احترقوا لكن الحياه بقيت واستمرت ، وتعلم الكثيرين درسا موجعا ، انه وقت الحريق عليهم ينقذوا انفسهم ولو حتي بالقفز من الشرفه العاليه ، فهذا افضل من الموت احتراقا !!!! وافقها الجد وهو يحتضن كتبه واضابيره والتاريخ الذي خاف عليه وقرر ينقذه !! 

ومازال ................ النيل يجري 
والاهرامات شامخه 
والجد يحمل اضابيره وكتبه الاثرية القيمه ويتمني لو فتح فصلا للاطفال يعلمهم الحياه والتاريخ 
والام ... تبكي اولادها واحفادها وتلومهم لانهم وقت الحريق لم ينتبهوا لكل مايحدث واحرقوا انفسهم وانهو حياتهم بمنتهي الاستهتار !!! 

هل يبكي ابو الهول ايضا !!! 
لايبكي بالطبع !!! 
فاكم من محن مرت امام عينه وهو صامت واثق ان وطنه محروس برحمه ربه !!! 
صامت واثق وان كل مايحدث من محن وحرائق وفتن في اي مكان في الوطن الذي جلس علي بوابته السماويه يحرسه ، ليس الا سطرا تافه في كتب التاريخ التي تضم صفحات وصفحات عن الحضارة العظيمه التي ينتمي اليها والتي بقيت الاف السنين رغم كل المحن والحرائق !!!! 

و.............. مازلنا لانعرف 
مالذي حدث للام والجد ؟؟
هل نبتت لهما اجنحة ؟؟
هل حملتهما الملائكه ؟؟؟
كيف نجيا ؟؟؟ 
ابو الهول وحده يعرف الاجابه..
ابو الهول وحده يعرف الاجابة ....