مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

النظرة الكسيرة وبائع الفوانيس ( الجزء الاول )




( 1 )


رمضان كريم ....
رمضان جانا وفرحنا به ، اهلا رمضان .....

وقف اكرم امام المحل ينصت للاغاني يشعر ببهجه ، علي وجهه تعبيرات لم يفهمها البائع !!!
يحدق في الفوانيس مبتسما ببراءة ، كانه عاد طفلا صغيرا وقف مع امه في المحل لينتقي فانوس يعجبه !!!
مازال يذكر حين كان صغيرا ، وقف يتفرج علي الفوانيس ، انتقي فانوس كبير فنهرته امه ، انتقي فانوس ببطاريه فنهرته امه ، انتقي فانوس وعلبه شمع ، فنهرته امه ، بكي وصمت وتركها تنتقي له فانوس لم يحب شكله وشمعتين لونهما ابيض!!!

كان يحدق في الفوانيس سعيدا بشكلها يحلم يقتنيها كلها ، او ينتقي منها اجمل اثنين او ثلاثة ، لكن حين اختارت امه الفانوس الذي لم يعجبه شكله ، تحطمت احلامه الصغيره علي صخره واقعها البغيض ، حمل الفانوس بلا حب ولا اعجاب وتمني لو يكسر الشمعتين الشاحبتين ، دسهما في جيبه بنطلونه القصير وتمني لو يسقطا ، عاد لغرفتهما حزينا ، هاهي امه مثلما اعتادت معه دائما ، تقهره وتفرض عليه اختياراتها وتجبره علي مالايحبه وتحطم احلامه !!!!

لكنه الان لم يعد صغيرا ومرت سنوات طويله علي ذلك المشهد الحزين ، وتسللت الشعيرات البيضاء لشعره وذقنه وحاجبيه ، لكنه لم ينس ذلك المشهد ابدا ، ومازال يحلم بفانوس يحبه ينتقيه بنفسه وعلبه شموع ملونه كبيره ، مازال يحلم بفانوس يتباهي به بين اصدقائه في الشارع ، مازال يحلم بامنيات الطفوله التي لم تحققها له امه كانه لو حققها الان سيعود طفلا يعيش احلامه التي لم يعشها !!!

انتبه اكرم انه مازال يحلم ، قرر ينفذ حلمه ، لام نفسه لانه نسي حلمه وامنيته سنوات طويله انشغل فيها بالنجاح في العمل والخروج من ضائقه الفقر التي اعتقلته وامه بعدما رحل ابيه للبلاد البعيده مع وعد لم يتحقق ابدا بالعوده !!!!

رن محموله ، ثريا تطارده منذ الصباح ، يعرف مالذي ستقوله له ، ستتشاجر معه لانه لم يرد علي تليفوناتها منذ الصباح ، ستتهمه بالسنكحه مع النساء الساقطات ، ستحاول ايلامه ، ماهما شبهك وانت شبهم ، لن يرد عليها ، فلتنفجر من الغيظ!!!

مازال يحدق في الفانوس ، عواطفه مثل الامطار الاستوائيه تضرب روحه بقوه وفيضان ، لماذا لم يفكر طيله كل تلك السنوات يشتري لنفسه فانوسا يعالج به اوجاع الحرمان التي اجترع مراراتها حتي الثماله ، ربما لو اشتري لنفسه فانوسا منذ عشرين سنه ، ربما رقق الفانوس مشاعره وصالحه علي روحه وهون اوجاعه ومحي الماضي الكئيب الذي استبد به طيله كل تلك السنوات !!!

يرن محموله ثانيه ، لعنه الله عليك ياثريا ، لماذا تطارديني ، هل تحبيني ، لست ملكك ياسيدتي ، املك وقتي وروحي ، لن ارد عليك ، ماله يسمعها تهمس ، لا انت ملكي وانت تعرف !!! يهز راسه غضبا ، لست ملكك ياسيدتي انا ملك نفسي ، ماله يسمعها تضحك ساخره !!!
يتمني لو يرحل عنها ولايعود لها ابدا !!! يغلق التليفون ويخرس الحاحها ، تلوميني لاني اذهب للساقطات ، هن ساقطات لكن قلوبهن تنبض وانت سليله الحسب والنسب ومكان قلبك حجر ودفتر شيكات ، هن يمنحوني العطف وانت لاتمنحيني الا القسوه ، كان كل القسوه التي تجرعتها طيله حياتي لا تفكيني !!!!

القسوه والماضي ، ضحك ، كلمتين يكونا عنوانا سخيفا لحكايه اسخف عن طفل سافر ابيه ولم يعد ، قالت له امه وقتما كان صغير ان ابيه مسافر وسيعود ، لكنه سمعها تبكي موته ، وحين عرفت انه عرف ، انفجرت في البكاء تتشاجر مع الايام التي حرمتها من زوجها وقهرت شبابها وبهدلتها ولسه حتبهدلها اكثر ، استراح عندما عرف وهو ابن الخامسه ان ابيه قد مات ، استراح لانه كان يحس ببراءه طفولته ان ابيه مات ، كان يحلم به ميت لكنه اعتاد يكذب احلامه ولا يصدقها لانه امه كانت تقسم له بكل الايمانات انه حي يزرق!!!!

سنوات طويله ، قهرت امه احلامه بفقرها وعوزها ووحدتها ، وعندما اشتد عوده قهر هو نفسه واحلامه اكثر واكثر واشتغل بكل دأب مصمما علي النجاح والثراء والخروج من دائره القهر التي اعتقلته بكل اشكالها و.......... هاهو نجح وله اكثر من رصيد في اكثر من بنك وله شركات وزوجه دميمه تزوجها لان ابيها رجل ثري و واصل ومعه مفاتيح النجاح التي طالما بحث عنه ، تزوج الابنه الدميمه وناسب الرجل الثري الواصل وفتحت له الابواب الموصده واحب زوجته رغم كراهيته لها ، امتن لها في الحقيقه ولم يحبها ، لانها كانت وش سعده وهناه !!!! امتن لها لكنها لم تتركه يمتن لها ، عايرته بفقره الذي كان وعقده النفسيه التي بقيت وصدته ولم تفتح له احضانها ، لم تتركه يمتن لها ولم تمنحه اي شيء صادق تمناه ففر من احضانها البارده لاحضان الساقطات !!! احس غيظ منها فهمس لنفسه ، مبسوطه انت كده ياثريا ، مبسوطه ، انت اللي عملتي ده في ، اشربي بقي !!!!

لم تكتف ثريا بامتنانه ، اعتبرت مايشعره تجاها عقابا لا تستحقه ، مرات كثيره سالته ، مابتحبنيش ليه ، نافقها وكذب ، باحبك ياستي ، لكن نبرات صوته المزيفه لم تخدعها ، هو انت كنت تطول تتجوز واحده زيي ، يسخر منها ، لا وعلشان كده باحمد ربنا علي جوازنا ، تنفجر باكيه ، انت بتخوني كل يوم وانا عارفه ، ذات مره فاض به ، كره لومها و المحاكمه التي تنصبها له كل ليله ، سالها ببرود ، عايزه تتطلقي ياثريا ، صمتت طويلا ثم اجابته ببرود ، لا عايزاك تبطل تخوني ، ضحك ساخرا ، يعرف انها لن تستغني عنه ، هي تحبه وتتمناه يحبها ، لكنه لا يحبها ولن يحبها ، ضحك ساخرا كانه يغيظها بل في الحقيقه كان يغيظها ، بصي ياحبيبتي ، انا حياتي حتفضل زي ماهي ، وانت دايما تقدري تقولي مش لاعبه !!! وتركها تتلظي من الغيظ وتتوعده ، طيب يااكرم !!!!!!!!


( 2 )

مرت سنوات كثيره نسي نفسه واحلامه متصارعا من قهره وفقر امه ليمحوهما من ذاكرته وانشغل بذلك الصراع طيله الوقت !!!
حتي ظهيره ذلك اليوم !!!
كان يسير علي الرصيف هائما في افكاره ، يحسب المكسب والخساره في مشروع ينوي اقامته ، مشروع كبير يتمني شركاء اثرياء مشاركته فيه ، استمهلهم ليفكر ، القرار ينتظره ، اما يقرر اقامه المشروع بعد حساب المكسب ، واما يقرر نسيانه لانه لن يأتي له الا بخسائر لا يتحمل نتائجها ليس علي حساباته في البنوك بل علي سمعته كرجل اعمال مرموق يتعين عليه ان يكسب ودائما !!!!

ساله البائع ، اي خدمه ، ابتسم اكرم ، كانه طفل صغير مثلما كان مع امه ، اشار علي الفانوس الكبير الملون ، عندما كان طفلا ، كان ذلك الفانونس هو المستحيل بعينه ، لو نظر اليه بعينه ستضربه امه علي عينه لانه طماع ولايراعي ظروفها ، لانه طفس وبيستكبر ، والله ياماما ابدا ، كم تمني يقول لها ان ذلك الفانوس الكبير شبه نجمه السماء الي يسهر معها ليلا هو الذي يعجبه ، الفانوس مثل النجمه بل اجمل ، بزجاجه الملون ، وبابه الانيق وقاعدته المدببه الراسخه ، يعجبه !!! لكنه امه لن تقوي علي شراء ذلك الفانوس وتعتبر نظرات الاعجاب التي يصوبها للفانوس الكبير احراجا لاتقوي علي تحمله لا هي ولا الجنيهات القليله المطويه بعنايه داخل كيس نقودها البالي ، كانت ستضربه علي عينه وتجره من ذراعه تكاد تخلعه وتبعد به عن المحل وفي البيت ستسمعه كلاما سخيفا عن قله حيلتها وقصر يديها والجنيهات القليله التي تأكل بها وابوه الذي مات وتركهم !!!!

وقف يحدق في الفانوس ، يلوم نفسه ، لماذا نسي احلامه ونسي نفسه ، لماذا بعثر سنوات العمر مع ثريا وعشيقاته الكثيرات ، لماذا نسي اكرم ، الطفل الصغير الذي قهرته الايام ، لماذا لم يحاول يصالحه علي الدنيا ، لماذا لم يفكر ابدا في تحقيق احلامه البسيطه !!! بملل اكثر ساله البائع ، اي خدمه ياباشا ، ضحك اكرم في سره ، نعم هو الباشا ، الله يرحم وقت كان صغيرا فقيرا في يد امه التي تجد قوت يومها بصعوبه ، الان صار باشا ، الان سيشتري الفانوس الكبير الملون الذي اشتهاه العمر كله وكبت رغبته في صدره ، اشار علي الفانوس وطلب شراءه ، لم يفاصل البائع الذي تعجب انه دفع الثمن الذي طلبه ، لم يعتاد من الزبائن علي هذا السلوك ، طلب من البائع علبه شمعه ملونه ، بل علبتين ، منحه بقشيشا سخيا وسار في الشارع مبتسما يحمل الفانوس في يده ، يلوح به كأنه طفلا صغيرا ، يلمح الابتسامات علي وجوه الماره ، لايكترث بها ، كانه يسخرون من الشعيرات البيضاء التي تغطي راسه والفانوس الذي يتأرجح في يده ، لكنه لايكترث بسخريتهم ، هم لايفهمون مالذي يفكر فيه ولا يشعر به !!!!

مازال يسير في الشارع يأرجح ذراعه بالفانوس ، نسي المشروع الذي كان يفكر فيه ، نسي حسابات المكسب والخساره ، تمني لو يزور قبر امه بالفانوس الكبير في يده ، يتمني يذهب لها ويخبرها ان احواله تغيرت ، ولم يعد الصغير اليتيم الذي كان ، يتمني يبكي علي قبرها ويحكي لها مالذي عاناه طيله حياته حتي خرج من دوامات الفقر التي اعتقل فيها ، لكن مقبرتها بعيده وهو لديه ميعاد في شركته ، ميعاد هام ، اجتماع مع المستثمرين الذي سيشاركوه المشروع الجديد ، سيذهب لها يوما ، هكذا قال لنفسه واكمل سيره يؤرجح ذراعه بالفانوس !!!
واقترب من شركته ، خطوه اثنين خمسه ، يقف علي بوابتها الكبيره ، يلمح نظره استغراب من رجل الامن علي البوابه ، احدهم يقترب منه كانه يساله يحمل عنه الفانوس ، لكنه يبعد ذراعه بفانوسه ، لن يمنحه لاحد ، سيحمله سعيدا لايكترث بنظرات الاستغراب ولا السخريه !!!

في المصعد ، وقف اكرم امام المرآه يتصور شكله ، رجل اشيب الشعر انيق ، يرتدي بذله مستورده وحذاء لامع في يده فانوس كبير ، لكنه لايري في المرأه نفسه مثلما هي الان ، يري في المرآه اكرم الطفل الصغير تمسك به سيده رقيقه الحال ، فستانها بال وحذائها كالح وشعرها اشعث تحت الطرحه السوداء ، يري طفلا صغيرا يرتدي بنطال قصير وقميص لاتعرف لونه وفي عينيه نظرات جائعه للحياه لكنها نظرات كسيره يخبئها عن الدنيا كلها !!! لم يحب المرآه حين شاهد فيها اكرم الصغير وكاد يقذفها بالفانوس يحطمها ويحطم المرآه واكرم الصغير بعينيه الكسيرتين ، ارتبك اكرم باشا وسال نفسه غاضبا ، هل ستظل تلك الصوره ، صوره طفولته البائسه تطارده طيله العمر !!!
هل ذلك الطفل الحزين بنظرات عينيه الكسيره سيظل يطارده طيله العمر !!!!
ارتبك لكنه لم يجد اجابه لسؤاله الموجع !!!


( 3 )

اعتاد اكرم البكاء في صمت !!!
امه تضج من صوت نحيبه ، حين تسمعه يبكي ، تنفجر باكيه بصوت اعلي من صوته ، تبكي وتنوح ، تردد علي مسامعه مرثياتها المعتاده ، ابيه الذي مات وتركها في عز شبابها ، ارمله جميله فقيره ترعي طفل صغير ، ستنوح وتشرح له انها ضحت بشبابها من اجله ، انها رفضت الزواج وعاشت محرومه بسببه ، مرات عديده صرخ في داخله ، ابوس ايديك ياامه خلاص عرفت ، خلاص حفظت ، كنت اتجوزتي ياامه وبطلتي تعايريني ، لكنه لايقوي علي مقاطعه مرثياتها ، يصمت حتي تجف دموعها وتجحده بتلك النظره القاسيه ، كانها تلومه ، هو سبب شقائها ، يتمني يسالها وذنبي ايه ياامه ،لكنه لايسألها ، ويصمت !!!

اعتاد البكاء في صمت !!!
مدرسه الفصل لاتتعاطف مع بكاءه ، اكم من مره سخرت من صوته وهو يبكي ، لاتفهم سبب بكاءه ، امه عجزت عن سداد مصاريف المدرسه الحكوميه وثمن طوابع معونه الشتاء ، امه سخرت منه ومن المدرسه ، قالت له انهم هم الذين يحتاجون معونه الشتاء والصيف ، لكن مدرسه الفصل هزئته امام كل زملائه في الفصل وامام ابن المنجد لان امه لم تدفع ثمن الطوابع ،هزئته بقسوه حتي بكي خجلا من امه ومن حالته ، وحين يبكي اكثر ، تسخر منه اكثر وبطريقه اعنف واكثر قسوه ، يكرهها ويتعلم البكاء في صمت ، البكاء بلا دموع ، روحه تبكي وملامحه تبقي جامده بلا اي تعبيرات ، لو افصح عما بداخله لبكي بصوت عالي وانتحب وعقف حاجبيه ، لكن مافائده الافصاح عن تعبيراته ومشاعره الحقيقه اذا كان احدا لن يفهمه ولن يتعاطف معه !!!

اعتاد الصمت !!! لكن نظرات عينه تفضحه ، نظرات كسيره حزينه !!!! يكره تلك النظرات ، يتمني وقت يتذكرها لو يخزق عينيه بالقلم الرصاص الذي كان يحافظ عليه مثل عينيه ، فلو ضاع منه لن تشتري له امه قلما اخر غيره ، يتمني يخزق عينيه بالقلم الرصاص ثم يرميه بعيدا ويكف عن الذهاب للمدرسه وسماع سخريه المدرسه منه ومن امه !!!!

ذات يوم ، وسط بكاء امه ونحيبها ، اقترب منها ، طبطب عليها ، منحته نظره لم تتصدق عليه بها بعد ذلك ابدا ، نظره غريبه ، كانها تحبه ، كانها غفرت له انه سبب شقائها وعذابها ، كانها تحبه ، كانها تعتذر له عن قسوتها معه ، يومها اقترب منها وتشجع اكثر واكثر واحتضنها ، بكي في حضنها بلا صوت ، يومها وعدها ، سنخرج من الفقر يوما ياامي ولن نعود !!! وجري بعيدا عنها فلم يلمح النظره الكسيره التي كست حدقتيها ، تتمني تصدقه ، لكنها لاتصدقه ، فالفقر قدرهما معا هي وهو !!!

يتمني يذهب اليوم لمقبره امه ، يركن سيارته الفارهه امام مدخل المقبره ، يتمني يدخل بالفانوس الكبير ويبكي في حضنها ، يتمني تمنحه وهي في السماء متحرره من فقرها وقسوتها تلك النظره الحنونه التي منحتها له ، يتمني تقول له انها تحبه !! سيذهب للمقبره ويذكرها بوعده ، اوفيت وعدي ياامي ، خرجنا من الفقر ولن نعد له ياامي ، كنت اتمناك بقيت معي حتي اسعدك بثرائي ، لكنك ياامي يأست من الحياه سريعا وحين اصابك داء الكبد اللعين ، اصفررت اكثر مما كنت صفراء وازددت شحوبا ورحلت بسرعه عن تلك الدنيا ، يومها اخبره الاطباء انها ترغب في الرحيل ولاترغب في مقاومه المرض ، يوم رحلت جلس علي الارض بجوار جثتها يبكي وينتحب ، يلومها لانها رحلت وبسرعه وتركته في الحياه وحيدا ، يلومها لانها لم تصبر علي حياتهما حتي يعبر بها بعيدا عن الفقر الذي اذلها وكسر نفسها ، يلومها لانها لم تمنحه فرصه تفخر به !!! لكنها وسط موتها همست له انها لن تغادره وستبقي معه وستفخر به وقتما يستحق الفخر !!!

ماتت امه ، حاول يبكيها بصوت يتناسب مع حزنه عليها ، لكنها علمته يبكي في صمت بلا دموع ، اليوم يحتاج دموعه ، اليوم يتمني لويصرخ وينتحب وتسيل دموعه شلالا ، لكن دروسها وشمت روحه بقسوتها ، وقف امام مقبرتها المفتوحه يبكي بلا دموع ، يري جسدها النحيل يواريه التراب وهو عاجز عن البكاء عنها ، ليتها تركته يبكي مثل كل الاطفال ، كان سيبكي عليها بكاءا يليق بحبه لها ، لكنه عجز يومها ومازال عاجزا عن البكاء !!!

متي سابكي ياامي .......... متي ساابكي !!!
ستبكي في حضن امرأه تحبك وتطمئن لها !!!
ومتي ستاتي ياامي .... ستأتي وقتما يكون قلبك طاهر مثلما كنت في رحمي !!!
لكني طاهر ياامي وقلبي طاهر ..... ليس مثلما كنت في رحمي !!!
اخلع ملابسك وتحمم وارمي ذنوبك خلف ظهرك وانتظرها !!!!
حوار يعيشه كل يوم في احلامه !!!!
علي طول كده ياامه قاسيه علي !!!

بعدما ماتت امه بدأ الحوار بينه وبينها في الحلم !!!
حين كانت حيه تنام في نفس الغرفه معه ، كانه لاتتكلم اليه ولاتكلمه !!!
كان الصمت علاقتهما الوحيده !!! ماتت غاضبه منه لانه باع نفسه وقهرها ، هي عاشت لم تبع نفسها لصالحه لكنه باع نفسه فقهرها !!!

بعدما ماتت ، تزوره يوميا في احلامه ، احبها اكثر مما كان يحبها في حياتها !!!
تزوره وتتحدث اليه ، توصيه بنفسه وتطمئن عليه وحين يسالها متي سابكي ياامي ، تناشده ، اخلع ملابسك وتحمم وارمي ذنوبك خلف ظهرك وتب لله وانتظر المرأه التي ستطمئنك وتفتح لك احضانها لتبكي !!!!
يتذكر سعيدة !!! ويتمني لوعادت به الايام للخلف ، وقتها كان سيغير كل اختياراته !!!
تأمل تلك الجمله الاخيره كثيرا ، لام نفسه ، لاتكذب علي نفسك يااكرم ، لو عادت بك الايام للخلف لاخترت نفس مااخترته!!!

يتذكر سعيده ، لو كنت انت التي تملكي تحققي احلامي لتغيرت الدنيا لكنك كنت تبحثين عن من ينتشلك من وجعك وانا ياحبيبه القلب ماكنت املك لوجعك ولا وجعي دواء ولا ترياق !!!
يتذكر امه التي ماتت غاضبه منه ، يحزن ويتمني يبكي ، لكنه دموعه لاتنهمر وروحه جدباء !!!
يسال امه ، متي سابكي ياامي !!! متي ساابكي ياامي !!!


( 4)

انهي اكرم اجتماع العمل بسرعه ، راسه مشغوله ، احال التفاصيل الفنيه لفريق معاونيه ومستشاريه ، سيذهب لقبر امه ، سياخذ الفانوس ويذهب للبكاء علي مقبرتها ... انهي الاجتماع وارتدي جاكتته وسحب الفانوس وخرج مسرعا من الشركه تلاحقه نظرات الاندهاش ، هذا ليس طبعه ، انه يبقي في الشركه حتي يخرج كل الناس منها !!!

سال الفراش سكرتيرته عما اصاب الباشا ، كانت اكثر ارتباكا منه ، هزت كتفيها لاتعلم مالذي اصابه !!!
دخل احد المستشارين علي السكرتيره يسالها ساخرا ، وايه حكايه الفانوس ، تنفجر في الضحك بهستيريه مرتبكه ، مش عارفه وخفت اساله ؟؟؟

يلقي اكرم بجسده المتعب في السياره ويهمس للسائق لهجه آمره ، اطلع علي الحاجه ، فهمه السائق ، انه يوم البكاء ، شرح لزوجته ان الباشا يذهب لمقبره امه يبكي ويفك عن نفسه ، حزنت الزوجه علي الباشا اللي عنده كل حاجه ومش مستريح ، وافقها زوجها ، صدقت ، عنده كل حاجه لكن مش مستريح !!!!

اغمض اكرم عينه في العربيه كانه نائم ، يختبي خلف جفنيه ويغوص في ذاكرته ، يفتح صندوق الالام ويغرق فيه ، يتذكر كل اوجاعه ، ترك المنجد والتحق بمكتب اله كاتبه في شارعهم ، بل في حارتهم الصغيره ، ياخذ الاوراق من الزبائن ويعيدها لهم مكتوبه علي الاله الكاتبه ، يحاسبهم مثلما امر صاحب المكتب ، يكره الصيف ، الصيف فصل الشقاء ، يذاكر طول السنه وفي الصيف يلتحق باي عمل ليدخر مصاريفه الضروريه التي لاتترك فرصه لامه لتهين نفسها اكثر واكثر .... ومن مكتب الاله الكاتبه لمحل بيع الشرائط ومن بيع الشرائط لشركه المقاولات التي ترجت امه مالكها ليشغل ابنها ، الواد شاطر في المدرسه لكن محتاج مصاريف اصل ابوه مات ياحاج .... وتحكي مأستها لكل البشر ، تشحذ عليه وتبتز كل معارفها بدموعها ، تبحث لابنها اليتيم عن اي عمل يساعدها علي تحمل صعوبات الحياه !!!

اغمض اكرم عينيه اكثر واكثر ، كانه يتمني ينسي كل ما مر به ، لكنه لاينسي ، كان يتصور وقت كان فقيرا محروما انه حين يتجاوز الفقر ويرفع انشوطته اللعينه من علي رقبته ، يتصور انه سينسي ماعاشه ومامر به ، لكنه للاسف ، لم ينس ابدا ، بالعكس ، كلما ازداد ثراء تذكر اكثر كل ما مر فيه ، يتمني ترحل عن مخيلته النظره الكسيره التي كست وجهه وقتها ، لكن النظره الكسيره تحاصره في يقظته ونومه وخياله ، لاتفارقه ابدا ، يسال نفسه كثيرا من سيمحو تلك النظره من ماضي ذلك الطفل !!!!!!!!!!!!!!

اقترب من مقبرة امه ، وضع الفانوس فوق شاهدها ، انفجر باكيا ، صالحيني ياامه علشان اعرف اعيش ، بطلي تلوميني في الاحلام ، بطلي تعذبيني ، مابصعبش عليكي ياامه ، صالحيني ياامه علشان اعرف اعيط ، انا جبت لك فانوس ، اجمل فانوس ، فاكره ياامه ليله رمضان ، تولعي الشمعه وتحطيها في الفانوس وتغني بصوت واطي ، كان صوتك حلو ياامه ، حالوا ياحالوا رمضان كريم ياحالوا ، كنت بتبقي مبسوطه ياامه ، بتنسي همك وتنبسطي ياامه ، انا جبت الفانوس ياامه وجاي اغني معاك ، حالوا ياحالو رمضان كريم ياحالو ، بس امانه عليكي ياامه ،تصالحيني ياامه ، امانه عليكي تنبسطي ياامه ، ويبكي بصوت اعلي واعلي !!!!!

ويجلس قدر مايجلس ، يبكي قدر مايبكي ، يغني حالو ياحالو رمضان كريم ياحالو ، كانه يسمعها ترد عليه ، يري ابتسامتها في الظلام ، نجمه صغيره سرعان ماتقهرها السحب الكثيفه في الليل الطويل ، يبكي ويغني ويتذكر كل مايوجعه فيبكي اكثر واكثر وحين تجف دموعه يغادر المقبره ويغلق الباب جيدا ويترك الفانوس فوق قبر امه ، يشعله ويتركه فوق المقبرة كأنه سيؤنسها في وحدتها الطويله !!!

( 5 )

دخل فراشه متعبا ، يشعر ارهاقا نفسيا ، ترك الفانوس لامه ، غدا سيشتري فانوس اخر !!!
المنزل خاوي ، ثريا لم تعد بعد !!!
احس راحه لغيابها ، يتمناها تختفي من حياته ، لكنها لن تختفي وحدها ، ستختفي ومعها كل الثروه التي نماها طيله العشرين سنه ، ستختفي ومعها الشركات والاسهم وارصده البنوك ، ستختفي ليعود مثلما بدأ وقت تزوجها ، ربما يعود طفلا صغيرا يتيما تسحبه امه من ذراعه لبيت خالته ليأكلا بعدما نفذ الاكل في بيتها وجيبها خاوي وروحها كسيره تعيش ايامها بلا اي امل في الغد !!!

سخر اكرم من هواجسه ، هو ليس الطفل الصغير الذي كان ، ولو خرجت ثريا من حياته لن يعود معدما مثلما كان ، لكنه خائف ولم يعد في ايام العمر مكانا للخوف ، يكفيه كل الخوف الذي عاشه واكتوي بناره !!!

انا خائف ياامي طمئنيني !!!
يسمعها تهمس في اذنه ، لاتخاف !!!
يكاد يبكي ، لكني خائف ياامه ، خائف !!!
يغمض عينيه اكثر ، يتمناها تزوره ، يتمني طيفها يشفق عليه فياتي !!!

تدخل ثريا غاضبه ، تتشاجر بعصبيه ، كنت فين ، غطسان فين ، مع مين ، مع انهي عاهره كنت نايم وسايب الشركه والشغل والاجتماع !!
لايرد عليها ، اتعدل وكلمني ، اختفيت فين طول النهار ، قفلت موبيلك ليه ، رد علي يااكرم !!!
يفتح عينه بتثاقل ، لايرغب في مشاجره ليليه جديده ، تصبحي علي خير ياثريا ، ينزلق في فراشه ويخبيء راسه تحت الغطا ..

هذه عادته ، وقتما كانت تنهال امه علي راسه بالشتائم لانه لايقدر تضحياتها ولا وجعها ويهرب من عند المنجد ويترك الشغل ويتسلل يلعب مع الاطفال ، وقتها ، يجري لفراشه ويختبيء تحت الغطا ، يقي نفسه شر غضبها !!!
ثريا مازالت تصرخ وهو مازال مختبيء ومازال الليل طويل !!!!!!!!


( 6 )

يفتح اكرم عينه في وسط الليل ، يري زوجته الدميمه تنام بجواره ، تتكور علي نفسها بعيدا عنه ، لاتفتح له احضانها ولايقوي علي الاقتراب منها ، هو تزوجها لان ابيها رجل ثري واصل ، لكنه ابدا لم يحبها ولم يطمئن لها ، هي تزوجته لانه رجل وسيم فقير ستمارس سطوتها عليه وتتباهي بوسامته وسط صديقاتها في المجتمعات الفارغه ، انا الدميمه تزوجت رجلا وسيم عشقني ، هكذا تقول عيونها لصديقاتها تتمني تغيظهن ، لكنهن لا يتغظن ، نعم انت الدميمه اشتريت رجلا بمال ابيك ونفوذه ، نعم هو زوجك لكنه لايعشقك !!!! نظراتهم تعذبها ونظراته البارده تعذبها اكثر ، لو يعشقها مثلما تتمني ستنكسر له وامامه ، لكنه لايعشقها ، يذكرها بنظراته الزجاجيه كل ثانيه في حياتهما انه تزوجها من اجل ابيها ، ولانها تعرف مايحسه تجاها تتكبر عليه وتحاول دائما تمرغ انفه في التراب ، تسخر منه طيله الوقت فيكرهها اكثر وتزداد الفجوه بينهما !!!

في وسط الليل يستيقظ يجدها علي طرف الفراش متكوره علي نفسها تبكي كعادتها في احلامها ، يضيق بصوت بكاءها ، الدموع تحاصرك يااكرم ، دموع امك ودموع ثريا ودموعك ، وسط اضغاث النوم واليقظه يبحث عن ابتسامه تنير ليله وتنقذه من شلالات الدموع التي تغرقه ، يتذكر سعيده ، يتذكر امه والمرأه التي ستطمئنه فيبكي في احضانها ، ينظر لزوجته ويفقد الامل في البكاء وتجف دموعه اكثر واكثر!!!!!!!!!!

تسطع وسط الليل النظرات الكسيره التي يكرهها !!! تسطع في وسط الليل تذكره ببؤسه الذي كان يحتله بسبب الفقر ، فغادره الفقر وبقي البؤس يحتله لاسباب اخري يعرفها جيدا !!! اه من تلك النظرات الكسيره التي تحاصره وتطارده في نهاره وفي احلامه !!!!! ومتي سابكي ياامي !!!!!!!!!!!!

يتقلب في فراشه ، يسمع صوت امه كانها تلومه ، تزوجت تلك السيده التي لاتحبها ولن تحبها ، ظلمتها معك وظلمت نفسك ، تمردت علي الفقر فبعت نفسك لسيده دميمه ثريه ، اشترتك بنقود ابيها ونفوذه ، ضيعت شبابك ، هل قدرك الضياع ياابني ، كنت اتمناك تتزوج شابه تحبها تراها اجمل النساء في عينك ، تمنحها قلبك ومشاعرك فتمنحك حبها وتطهرك من اوجاعك وتفجر ينابيع الدموع المتحجره المتكلسه علي قلبك ، يسمع صوت امه حزين ، يغمض عينه ويقرر ، لن ارد عليك ياامه ، ظلمتيني في الاول وبتظلميني في الاخر ، الابواب كلها مقفوله ، الفقير اللي زي ابنك مافيش قدامه اي حلول ، حيبيع نفسه حيبيع نفسه ، الشطاره بقي يبيعها ازاي !!! انت عمرك مافهمتيني ، لا زمان حسيتي بي ولا دلوقتي فاهماني .......... يري الحزن يكسو وجه امه ، يلمح النظره الكسيره في عينها وفي عينه ، يبكي بلا صوت ، تلومه ، لو كنت اتجوزت واحده بتحبها كنت عيطت في حضنها وارتحت ...
يتذكر سعيدة ، يتألم ، يتشاجر مع امه في خياله ، اللي زيي ياامه مش مكتوب له الراحه ، الراحه لها ناسها ياامه وانا مش منهم !!!!
صوته يعلو .... مش مكتوب لي الراحه ياامه مش مكتوبالي !!!

تتقلب ثريا في فراشها متأففه من صوته العالي ، انهت بكائها واستيقظت غاضبه كعادتها ، مش حتبطل تتكلم وانت نايم يااكرم ، خلاص ، امك ماتت والفقر مشي وبقيت باشا ، نام بقي وسيبني انام !!!! يسمعها ولن يرد عليها ، يسمعها مثلما سمعها الف مره منذ زواجهما ، نعم ياثريا ، اتكلم وانا نايم ، ده الوقت الوحيد اللي باتكلم فيه وافضفض ، هذا حواره الداخلي لايقوله لها ، يبعد عنها وكثيرا ما يغادر الغرفه ويتركها تغرق في النوم وينفرد بذكرياته واوجاعه حتي تشرق الشمس وهو يقظ يحارب الاحلام والكوابيس وذكرياته المريره ولوم امه وعيني سعيدة !!!!
و............. اصحي يااكرم ... يفتح عينه ، نائم في فراشه يحلم بامه مثل كل ليله !!!
يفتح عينه يراها ، ثريا ، تلك السيده الدميمه التي اشترته بنقود ابيها ونفوذه !!!!
يلمح النظره الكسيره تكسو عينيه ، تلك النظره التي باع نفسه ليتخلص منها فاشتراها الي الابد !!!!
يعطيها ظهره ويصمت فتترك له الغرفه غاضبه لانه كالعاده لا يستيقظ الا بعدما يطلع عينها !!!
يعطيها ظهره ويبتسم ، نائم في فراش وثير وينتظر الشاي في الطقم الصيني الفاخر وحمامه الساخن يعد لجسده المنهك وبذلته الانيقه الغاليه تنتظره يرتديها ، يبتسم ، حتي لو بعت نفسها لها ، لكني اشتريت راحه لم اكن احلم بها ياامه !!!
ماله كانه يسمع امه تساله ، وانت كده مستريح يااكرم !!!!!!!!!
هل يسمع سؤالها ؟؟؟ لا هذا محض خيال لايستحق منه يرد عليه !!!!
ويصرخ بقوه واقتدار ، الشاي ياثريا !!!


يتبع بالجزء الثاني والثالث ............

هناك تعليق واحد:

manoola يقول...

أميرة
كل واحد فينا يحمل ... لمحة ... من لمحات "أكرم"

نعتاد الصمت.... حتى يصبح في احيان كثيرة اعز الاصدقاء... حتى لو تكلمنا مع من حولنا... فنحن في الحقيقة صامتين وكلامنا ماهو الا حروف هبله بتجري من غير لازمة

نغمض أعيننا ونحن نحمل "فانوس" مثل اكرم وربما قطعة شوكولاتة كورونا.. او يمكن ونحن نسمع اغنية قديمة .. منا من يحاول ان يغرق في الالام... ومنا من يغترف من الاحزان ترياق لايامه القادمة لكننا اولا واخير نغمض اعيننا... مثل أكرم

نجلس في الظلام..نبحث عن نقطة نور في داخلنا لنحيا بها ايامنا القادمة
نتمنى ان نتوقف عن لوم انفسنا...ويجي الاصحاب يقولوا... ما تشيلوش الهم في اروانة....

مين "أكرم".....؟
هو سطر من سطور كتاب كل واحد منا

اتابع بلا ملل يا أميرة
واكتب ما يتبادر الى قلبي وعقلي