الجزء الاول
( ١ ) الغيبوبة
نظرت الابنة الشابة الي ساعتها ، تشير عقاربها الي السابعة هاهو الليل يقترب وظلامه يسود ، ارتبكت كأنها تتمني من الزمن الثبات والسكون فحركته المستمرة خطوات أخيرة في رحلة الرحيل التي بدأت ولم تنتهي بعد ، أحست ان الدقائق المتتابعة أسياطا تلهب قلبها بضرباتها الموجعة تألمت كأنها تٌجلد بالثواني المتلاحقة وتٌضرب بالدقائق كأنها سٌتهزم بتتابع الساعات المستمر تأخذ معها الوقت والعمر وترحل...
لمعت الدموع في عيني الابنة الشابة تهمس بكلمات لاتحفظها جيدا ، تتمتم بعبارات لاتفهم معناها بدقة ، تتلعثم الكلمات في ريقها الجاف فلاتخرج من شفتيها وتبقي أحجارا راشقة في نفسها ألما وهي تتأمل السيدة العجوز ترقد بطيبة علي فراشها لاتتحرك ، تتمني لحظة أفاقة تسر اليها بحبها ومشاعرها الدفينة ، ترجو لها لحظة وعيا تشرح لها فيها أحاسيسها التي لم تفصح لها عنها منذ زمن بعيد....
لكن السيدة العجوز " هانية " ترقد علي فراشها راسخة كأحجار التاريخ القديمة التي تروي للآتين من بعدها قصص عن حياة لم تعد موجودة ، قصص تاريخية تبقي ويذهب أصحابها ، تراقب السيدة الشابة صدر السيدة العجوز يعلو ويهبط ، ترتعش من فكرة ان يعلو ويسكن او يهبط ويسكن ، تتحرك من مكانها وتقترب من فراش السيدة العجوزة وتكاد تضع يدها علي صدرها تجدف له بعزيمتها حركة رئوية منتظمة صعودا وهبوطا تحافظ علي ايقاع حياتها الغالية لكنها لاتقوي علي لمسها ، تحسها رقيقة متهالكة هشة ستنهار تحت لمساتها مهما كانت حانية ..
ابتعدت الابنة الشابة عن الفراش والتصقت بالشباك محكم الاغلاق كأنها ترسل امنياتها للسماء لاتخذلها ، اقترب شقيقها ولمس كتفيها برقة وتوجس "روحي استريحي وتعالي بكرة" انتفضت غاضبة كأنه يطردها وهو الضيف الغائب الذي لم يعد اليهم الا مؤخرا وبعد فوات الاوان ، نظرت له بضيق واضح تستنكر حديثه بل تستنكر وجوده ذاته فقد اعتادت غيابه الدائم ولم تقرر بعد الصفح عنه وتقبل عودته وسطهم بعد الاختفاء الطويل ، ربت علي ظهرها وتراجع وكأنه يعتذر عن حديثه وعن غيابه وبقي واقفا صامتا تحت المصباح الركني يراقب السيدة العجوز يتمني ان يقبض بعينه علي لحظة رضا من فصي قلبها المضيئين في ذاكرته دائما بالحنان يختبئان منه تحت تجاعيد وجهها الهرم ، لحظة رضا عرضتها عليه كثيرا فلم يحرص عليها وتكبر وبقي في سفره غائبا عنها حتي عندما عاد مهرولا لم يجدها ووجد مكانها هذا الجسد الهش يستعد للرحيل لايدرك وجوده ولااهميتها عنده !!!
مرت الدقائق بطيئة يلهث معها البشر المكدسون في الحجرة الضيقة وهم لايتحركون ، يحدقون بتمني في السيدة العجوز التي ترقد علي فراشها بلا حركة ، كأنهم ينتظروا منها رسالتها الاخيرة الكريهه الي قلوبهم لكنها لم ترسلها بعد ، يحدقون اكثر في وجهها كأنه هو الذي سيكشف لهم حالتها الواقعية ، لكنه لا يتفاعل معهم ويبقي علي حاله مشوبا بالاصفرار ساكنا ، يقترب ابنها الاكبر من انفها يضع كفه يحصي انفاسها البطيئة فتتدافع في يده الواحد تلو الاخر واهنة لكن منتظمة فيبتعد وعلي وجهه احساسين متناقضين ما بين القلق من طول الانتظار والامتنان الدفين لانها لم تغادرهم بعد ....
تنظر السيدة الشابة لباب الحجرة تنتظر من سيدخل ، لكنه لايدخل ، تقترب من السيدة العجوزة تلمسها تحسها انتفضت تحت يدها تكاد تسألهم " شوفتوا ؟" لكنها تصمت وهي تقرأ علي وجوههم القلق المعهود الذي يجيب علي سؤالها المكتوم فتقبض علي شفتيها كأنها تمنعهم من النطق ، انفجرت في البكاء وهي تنظر للسيدة العجوزة تنتظر افاقتها ، لكن انتظارها طال وطال فلم تفيق ولم ترحل ، خيم الترقب علي اجواء الحجرة الضيقة ممزوجا برائحة القلق والتوتر والخوف ، ممزوجا برائحة الانتظار المر الذي يشعره البشر المكدسين فيها متراصين جنب بعضهم البعض كأنهم يستنجدوا من مخاوفهم ببارقة امل يرسمها أي منهم علي وجهه ، لكنهم يخذلون بعضهم يأسا فالامل غائب عن قلوبهم والانتظار الكريه يحتل نفوسهم يحاصرهم ومعه رائحة الموت خليط من الرهبة يأسرهم جميعا " يارب عدي الليلة دي علي خير " همست السيدة الشابة فهز شقيقها الاصغر رأسه يوافقها لكن بقية الموجودين لم يشاركوهم الدعاء ، يتصورونها الليلة الاخيرة فتطفو احزانهم علي السطح مثل عصا موسي تلتهم كل مشاعرهم وامنياتهم الاخري!!!
فتح باب الحجرة فانتبهوا جميعا ، دخل الطبيب تفوح منه رائحة العطر النافذ مبتسما كأنه لايري ما يرونه ، ثبتوا ابصارهم بقسماته كأنهم يرجونه ان يطمأنهم ، اقترب من السيدة العجوز رمي سماعته علي صدرها برتابة وملل ، رسم علي وجهه اهتماما لا يصدقونه ، اقترب من الشاشة النابضة بخفقات قلبها ونظر اليها يقرأها ولايقرأها ، جذب العمود المعدني المثبت به خراطيم الشفاء مثبته في ظهر يدها بقوة وقربه من فراشها وابتسم ابتسامة مصطنعة لجميع الموجودين بالحجرة " الحالة مستقرة " واعطاهم ظهره وخرج فلم يرد علي سؤال ابنها الهامس " يعني ممكن تفوق ؟؟" خرج وهو يؤكد للممرضة الواقفه جواره " خليك جنبها " وخفض صوته اكثر "ولو فيه أي حاجة " ولم يكمل جملته المعتادة التي فهمتها الممرضة جيدا وهزت رأسها وجميع الموجودين بالحجرة مدركين المضمون الحقيقي لقوله ....
ازداد الصمت وطأة وازداد القلق استشراءا في نفوسهم وارتعشوا من الصقيع الذي احتل الحجرة فجأ ونظروا برعب لبعضهم البعض كأن ملاك الموت تسلل وسطهم ، لكن صدر السيدة العجوز وتتابع حركته الواهنة اكد لهم ان وقت رحيلها لم يأتي بعد فغاص كل منهم داخل ذاته يبحث عن امل بعيد يستجلبه ومعه بعض الراحة التي عزت عليهم منذ زمن طويل !!
نظرت السيدة الشابة لساعتها تناشدها البطء في قفزاتها المتلاحقة للغد الموحش كأن الساعة والزمن يدفعا بها الي حافة الهاوية الما ، وقبل ان ينتبه عقل السيدة الشابة لحركة العقارب فتحت السيدة العجوز عينيها لم تري شيئا فاغلقتهما بسرعة وهي تتنتهد تنهيدة طويلة اوجعت رئتيها فتأوهت ، اقتربت منها الممرضة لاتصدق ما تراه ، احست السيدة العجوز باصابع باردة تمسك معصميها كأنها تقيدها حاولت الفكاك من القبضة القوية لكنها لم تستطع ، فتحت عينيها ثانية ، سمعت صوتا بعيدا " دي ابتدت تفوق " لم تفهم ما سمعته ، فعقلها مازال راكدا مقيدا ، شاهدت الوان لاتميزها خضراء صفراء لامعة قاتمة رأت خيالات متداخلة تتحرك كأنها اشباح الحجرة المظلمة التي اعتادت امها علي حبسها فيها وهي طفلة صغيرة ، تسارعت دقات قلبها واغمضت عينيها لاتشعر بالارتياح لاتعرف المكان الذي يحيط بها ولاتعرف الزمان التي تعيشه وسرعان ماخيم علي المكان التي ترقد فيه صوت رتيب مزعج لاتعرف ماهيته لكنه زاد من عدم ارتياحها وانزعاج الاخرين الملتفين حولها ، تبتسم الممرضة لهم كأنها تطمئنهم وتقبض بقوة اكثر علي معصم السيدة العجوزة التي تشعر بالاصابع الباردة تحيط بمعصمها باصرار اشد ، تنتبه لنبضها يتسارع تحت ملمس الاصابع الباردة يتزامن والصوت المزعج المنفر الذي يصم اذنيها ، استسلمت للاغفاء المؤقت كأنها تستنجد به من مأزق حيرتها الذي لاتعرف نهايتها ولابدايتها " ادعولها" همست الممرضة يأسا " ادعو لها " لاتعرف السيدة العجوز من يتكلم ولا تعرف "يدعو لمن ؟؟ " لكن نبرات الصوت مألوفة لها ، سمعتها في الاونة الاخيرة كثيرا ، حاولت التركيز في التعرف علي الصوت احست طنينا في رأسها كأن التركيز والتفكير دبابيس توخزها في مخها الهلامي ....
فتحت عينيها وحدقت بقوة في الاناس المحيطين بها ، بشر لاتعرفهم ، بعضهم يرتسم علي وجهه الانزعاج انفعالا وبعضهم يرتسم علي وجه الامل الوهمي ، حاولت الابتسام لكن عضلات وجهها المتيبسة لاتساعدها ، شدت جفونها لاعلي وهمست " عايزة اشرب " احست طنين في اذنها كأن عليهما سماعات ضخمة ، كأن ملايين البشر رقدوا فوق طبلة اذنها يدقون عليها ، تحرك البشر المحيطين بها مرتبكين لايقتربون منها ولايبتعدون عنها تحس توترهم وتشم رائحة افرازات الخوف تنبعث من جلودهم ، يقترب ابنها الاكبر منها يمسك ذراعها باصابعه اللزجة العرقي ويهمس في اذنها بصوت خفيض " حمد الله علي السلامة ياماما " تحدق في قسماته لاتعرفه ، كأنه غريب عنها وهي غريبة عنه ، تحاول التعرف عليه ، هل شاهدت هاتين العينان السوداوين من قبل ؟ هل شاهدت هذا الشارب الاشعث قبل هذه اللحظة ؟ هل رأت هذا الرجل الطويل الوسيم ذو الشعر الاسود اللامع مشذب الخصلات من قبل ؟ تحس نفسها عاجزة عن التفكير ، عاجزة عن الفهم ، تحس نفسها غارقة في يم من الغموض لاتقوي علي الخروج منه ، تقترب منها السيدة الشابة ، تهمس في اذنها بعبارات لاتفهم معناها ، تفتح عينيها فتري سيدة جميلة منزعجة شاحبه الوجه تحيط الهالات السوداء بعينها دليل ارهاق لا تفهم سببه ، تحاول سؤالها " انتم مين ؟" لكن احبالها الصوتيه متكلسه لاتتحرك فتبقي الكلمات في عقلها معاني لايسمعها احد ، فتغلق عينيها غضبا من الحاله الغريبة التي تتحكم فيها كأنها لاتعرف نفسها ذاتها ويرتفع صوت شخيرها المنتظم عاليا ، تتداخل الصور والاحاسيس في عقلها وتغيب وتغيب ..
( ٢ ) الجدران الخاوية
فتحت هانية باب شقتها ودخلت منهكة يحتل نفسها الوحشة ، .. كان الضوء في صالة شقتها ضعيفا لاينير ولا يطمئن ، يأتيه اشعتها يثير في نفسها مخاوف الوحدة ، القت بحقيبتها جانبها علي " الكنبة " القديمة ، خلعت حذائها وطوحت بفردتيه بعيدا وتركت لجسدها حرية الحركة فاذا به يتكور حول نفسه كأنه يحتمي من حالة الوحدة التي تتملك هانية و تؤلمها كملايين الرماح المشحوذة المغروزة في جسدها ومراكز الاحساس في مخها ، اغمضت هانية عينها تتمني النوم او الموت او كليهما ، لكنهما عزا عليها وتركا لها الارق بديلا مكروها لاتملك الهروب منه ولاتقوي علي الفكاك منه ، فهاهي وحيدة ثانية بعد رحيل كل ابنائها فلم يبقي لها بعد غيابهم الا الجدران الباردة للشقة الخاليه رفيقها الابدي وانيسها الوحيد يبدد وحدتها كرها عنها ، الانيس الوحيد الذي يصاحبها طوال يومها وليلها ، في يقظتها واحلامها وكوابيس نومها ، رفيقها الصامت الاصم تكلمه فلا يرد عليها ، تشكو له فلا يتعاطف معها ، لكنه رفيقها المحبب الي قلبها والذي بقي لها دون غيره ، الجدران البارده للشقه الخاليه انيسها الوحيد كلما استبدت بها الوحشة تطوف بعينها علي الجدران فتري تاريخ حياتها شريطا سينمائيا يجري فوق الجدران ، هنا ضحكت هنا صرخت هنا ولد اكبر ابناءها وفرحه عمرها ، هنا ارتمت تبحث عن حضن دافء فلم تجد الا الحائط القبلي ينتظرها جسدها الوهن يوم وفاه ابنتها الصغيره التي ولدت وماتت لتترك في القلب ندبه موجعه طيله العمر كان مافيه من اوجاع لايكفي الزمن القاسي !!!
همت هانية بالقيام من مكانها لكن جسدها ابي ورفض وآثر البقاء ساكنا غاضبا من حياته تلك الحياة التي عاشتها كعربة القطار المتهالك تسير بطئية ولاتصل ابدا الي محطتها الاخيرة ، تنهدت هانية كأنها تذكر نفسها انها مازالت حية لم تقبض روحها بعد ، تذكر نفسها بأن احاسيس الوحشة التي تتملكها دليل حياتها وان احاسيس الوحدة التي تسيطر عليها هي قوت ايامها القادمة ، عليها الاعتياد علي الوحدة واشباحها المخيفة ، عليها الاعتياد علي الانفراد بنفسها وتحمل سياط لومها الموجعة ، عليها الاعتياد علي الصمت وصفيره المزعج يطن في رأسها يؤلمها ، عليها استدعاء البهجه من الماضي البعيد فالحاضر لايفرح ، عليها التنقيب في صندوقها الموصد عن بقايا السعاده ، تقصد بقايا لحظات السعاده ، التي عاشتها متناثره فمنحت حياتها المريره بعض المعني وبعض القيمه ، مازالت الجدران انيسها الوحيد ، هنا وضعت صوره امها ، ربما لتتذكر قدر قسوتها فلاتقسو علي اطفالها ولا تمزق نفوسهم بصرامتها مثلما فعلت الام التي احبت الابنه الصغيره وكرهت الحياه التي منحتها لها قيدا وهما وعبئا فافرغت في الابنه كل مشاعرها القاسيه ومزقتها بمنتهي الحب والامومه !!! هناك كانت صوره زوجها الحبيب ، الرجل الذي دخل حياتها كالشهب اسعدها وغادرها مسرعا ، الرجل الوحيد الذي احبته وحن عليها وخصب رحمها ومنحها من قلبه ثلاثه اطفال ومات بسرعه قبل ان تنتبه بحق لقيمته في حياتها ، هنا كانت الصوره جللتها بالسواد سنينا خلف سنين حتي لاتنسي قدر حزنها عليه ، من اخذ الصوره من ابناءها لاتتذكر وترك لها بقعه شاحبه علي الجدران تذكرها بالحبيب الذي رحل من بين ايديها وهي في اشد احتياجها اليه ، علي الجدار البعيد علقت صور اطفالها في كل مراحل حياتهم ، كل الجدار تحول لحائط ذكريات ، تحدق فيه فتلمح ابنتها تحبو وتري ابنها في يومه الاول بالمدرسه مبتسما سعيد ، تحدق في الجدار تري صوره زفاف ابنتها ، شموع سبوع ابنها ، حين رحل الابناء لم يبقي الا ذكريات رصصتها بعنايه واهتمام علي جدار غرفتها الاثيره كانها تبقيهم معها رغم انفهم ، انتم معي ولو رحلتم ..... بقيت هانيه علي الكنبه تحدق في الجدران الصامته تستنطقها تصغي لها تتحدث معها ، فهذه الجدران حوت عمرها كله وهي اعلم بماعاشته هانيه وماتمنته ومامنح لها ..... انطقي ياجدران الزمن وقصي علي قصتي التي احفظها جيدا ذكريني بما يؤنسني في وحدتي الطويله !!!! بقيت هانيه تحدق وتحدق في الجدران حتي غابت عن الوعي نوما او فرارا من الواقع الموحش !!
( ٣ ) الام القاسية
وقفت هانية ترتعش امام والدتها صارمة الملامح وهي تمسك بعصاها الخشبية في يدها تلوح بها في وجهها ، تلك العصا الخشبية التي تركت اثارها مئات المرات علي جسد هانيه لحظات الم واهانة موجعه " البنت المؤدبة تقعد كويس ، تقفل رجليها ، تشد جيبتها علي ركبها " تهز هانية رأسها توافقها فتغتاظ والدتها وتهوي علي ذراعيها بعصاها الخشبية بقوة " قلت لك الكلام ده الف مرة ، اقول ايه حماره ما بتفهميش ، الناس يقولوا عليكي بنت مش مؤدبة ويقولوا عليا ... " لاتسمع هانيه بقيه الحديث الغاضب فهي تحفظه عن ظهر قلب ، تحفظه وتردده مع نفسها ساخرة " يقولوا عليا معرفتش اربي ، يقولوا عليا ام فاشلة ، يقولو عليا .... " تكاد هانيه تبتسم وهي تتلوي علي الارض تهرب بجسدها من عصا امها وضرباتها الموجعه فقد سمعت هذا الحديث عشرات المرات ولم تفهمه ابدا ، حفظته ولم تفهمه " البنت المؤدبة تقعد كويس ، تشوف البنات التانية قاعده ازاي وتقعد زيهم " ....
تنسال دموع هانيه علي خدودها المحتقنة من شدة الضرب فالعصا الخشبية تلسع جلدها كأنه ملايين النحل ينقض علي لحمها يأكله ويؤلمها ، تتلوي في الارض وهي تصرخ بصوت عالي هسيتري " اخر مرة ياماما " لكن والدتها لا تصدقها وتزداد في عنفها ، تجري خلفها وهي تتوعدها " المرة الجايه حاموتك " ترتعد فرائص هانية وهي تصدق ان امها ستقتلها ضربا فتحاول الفرار من قبضتها ويرتفع صوت صراخها " حرمت ياماما " لكن والدتها لا تسمعها ، وتحكم قبضتها علي ذراعها تقيدها وهي تضربها بقوة وعنف علي بقية جسدها المنتفض " كل مرة حرمت ياماما ، حرمت ياماما ، ومافيش فايدة " .....
يرتفع صوت صراخ هانيه ممزوجا بشهقات بكاءها لا تفهم حقا سبب هذا الغضب ومبرر ذلك العنف ، فهي كانت تلعب مع صديقاتها في الشارع وانهكن من كثرة الجري فجلسن جميعا وهي معهن يلتقطن انفاسهن علي السلم وقبل ان يقمن ثانية دخلت والدتها من مدخل البيت تحمل اكياسها الثقيلة عائده من السوق ، شاهدتها جالسه علي السلم تضحك مع صديقها العزيزة مروة ، كان فستانها منحسرا عن فخذيها قليلا وكانت تهم ان تشده يكسي ركبتيها ، وقبل ان تلمسه كانت والدتها قد امسكت باذنيها تقتلعهما تجرها خلفها الي شقتهم مشتعله بالغضب ، ولم تقبل من هانية أي شرح " طب هما بنات قللات ادب وانتي " ولم تقبل اعتذارها " تاني اسفة ، اعمل ايه انا باسفك لما الناس يقولو عليا .... " ولم تسمع هانية بقيه الحديث تفكر في الضرب المبرح والعصا الخشبية والالم الموجع الرهيب الذي ستشعر به والاحمرار الذي سيلحق بجسدها ينقلب علامات زرقاء لاتنمحي ، تسيل دموعها الما وقهرا فهي المذنبة بذنب لم تفهمه ابدا ...
تتوعدها والدتها بصوت مخيف " المرة الجايه حاكسرك رجليلكي اللي بتشلحيهم دول " تهز هانيه رأسها رعبا ،فهي لن تكشف ساقيها بعد الان ابدا ابدا مهما حدث ، ستشد ملابسها تكسوها حتي وهي تلعب ، ستفكر في الامر دائما ولن تنساه ابدا ، لن تنسي ان ساقيها العارتين هما سبب هذا الضرب المبرح والاهانات المستمرة ومواويل الالم التي تشدوها امها يوميا تنعي حظها وحياتها وتلعن الايام السوداء التي اجبرتها علي تربية فتاه صغيرة وحدها بلا رجل " مش كفايه ابوكي واللي عمله فينا " ...
ولان هانيه لاتتذكر ماذا فعل ابوها في امها وفيها ، فهي لاتتذكره اساسا ، كل ما تخزنه الذاكرة عن ابيها قسوته علي امها وعدم اكتراثه بها ،كل ما تتذكرة صراخ امها المستمر وعويلها الذي لا ينقطع ومرثيات الحزن والوحدة التي تستدعيها يوميا وتشدو بها باكيه حزينة ، لانها لا تتذكر ابيها تعجز عن الرد علي امها اوالتعاطف معها فيبدو علي وجهها حيادا بليدا حائرا يثير حنق الام ويدفعها لضرب هانية بعنف اكثر ، تحاول هانيه الفرار منها ومن عصاها لكنها لا تفلح فتحاصرها والدتها بضرباتها الموجعه التي تنتهي دائما ببكاءها الغاضب "عايزه الناس يقولو ايه معرفتش تربي بنتها " الذي يتصاعد ندبا مستمرا لحياتها التي ضاعت "مش كفايه ابوكي سابنا ومشي " ثم يتطور ادانه للصغيرة هانية " اعملك ايه تاني ، مانا قاعده جنبك زي البيت الوقف اهو " ادانة تستوجب من والدتها عقابا يتمثل دائما في ضربات متتالية بالعصا الخشبية التي حفرت في نفس هانية اخدود ألم لم تخرج منه ابدا حتي بعد فوات السنين الطويلة والي الان ، اخدود ألم مازال يلازمها وهي في لحظات حياتها الاخيرة ترقد علي فراش الموت في غيبوبة لم تفيق منها بعد ...
تحركت السيده العجوز في فراشها فانتفض الابناء في الغرفه الضيقه يتصورها ستفيق وترحمهم من انتظار رحيلها الموجع ، لكنها لم تفيق كانت تفر من عصا امها التي ضربتها بها منذ سبعين عاما ، تلك العصا التي بقيت هي والمها يلازما هانيه طيله الحياه بوجودهم المهين ، حاولت علي فراش الموت تفر من العصا لم تقوي علي الفرار كادت تبتسم وسط غيبوبتها توصيهم بالعصا التي مزقت جسدها لتدفن معها !!
( ٤ ) احمد
فتحت السيدة العجوز عيناها تحس الما يسري في جسدها وكأن والدتها مازالت تضربها بعصاها الخشبية ، لكنها لا تتذكر والدتها ولم تستطيع استدعاء ملامحها ، كل ما تحسه وتتذكره فقط ضربات العصا الخشبية واحمرارات الالم التي بقيت في جسدها طويلا وفي نفسها حتي الان ..
اقتربت منها الابنه الشابة " ماما " لكن السيدة العجوز لم ترد عليها ، فهي اسيرة غيبوبتها الظاهرة لهم جميعا ، اسيرة العجز المطلق عن التعامل مع العالم الخارجي ، هذا العالم الذي لايدرك بكل شخوصه ان حياتها هي مازالت تجري بداخلها كالمياة الجوفية لايراها احد لكنها موجودة تتذكرها واحداثها بكل المها يزيد من وطأة الشيخوخه عليها ، الم يعاتبها قبولها ماحدث لها ، يعاتبها صمتها المبرر دائما بالتقبل غير المنطقي لكل الاحداث العصيبة التي عاشتها ومرت بها ..
" ماما " همست السيدة الشابة وهي ترسم علي وجهها ابتسامه امل كاذب ، سرعان ماتواري وعاد لوجهها ملامحه التقليدية المتوترة تنتظر حدثا موجعا جلل لاتعرف كيفيه التعامل معه ، اقتربت منها الممرضة تنصحها كاذبة " كلميها ، ده يساعدها تفوق " ورغم ان السيدة الشابة كانت تعلم كذب الممرضة ، لكنها آثرت ان تصدقها استجلابا لامل وهمي تحتاجه يؤخر احزانها التي ستغرق فيها قريبا " عارفة ياماما ، احمد رجع من السفر ، ساعه ماعرف انك تعبانه رجع فورا ، من المطار علي هنا " اخذت السيدة الشابة تقص علي امها قصة شقيقها العائد من سفره الطويل تحفزها علي الانتباه لكن السيدة العجوزة كادت تقاطعها تناشدها الصمت ، فهذه اللحظات مهما طالت هي لحظاتها الاخيرة تحتاجها للنظر في حياتها هي و مااصابها فيها " احمد متأثر جدا ياماما ، شدي حيلك وفوقي وشوفيه ، ده نفسه خالص ياماما يسمع صوتك ، ها ياماما " ولاتكمل السيدة الشابة كلماتها تختنق في حلقها فتصمت ، وقتها ينشط عقل السيدة العجوز اسيرا في جسدها العاجز يستدعي ذكرياتها المهددة وصاحبتها بالفناء والصمت الطويل .. تتذكر احمد ابنها الاكبر ذلك النذل ، سافر وتركها واشقاءه الاصغر بعد وفاه ابيه ، فكر بانانيه في نفسه ورحل ، لم تشفع لها دموعها عنده ، طمئنها سيعود قريبا ، ولم يعود ، انتظرته ثم قررت تنساه ، ادعت نسيانه ، تجاهلت اخباره التي دابت ابنتها قصها عليها ، احمد ... عاد الان وهي صامته اسيره الجسد الوهن والروح تستعد للفرار من كل الوجع الذي عاشته ، لماذا لم يعود في وقت ابكر ، ربما وقتها صفحت عنه وعانقته واخبرته انها لم تنساه ابدا ، ان غضبها منها تبدد وانها كانت تدعو له طيله حياتها ، لماذا لم يعد وهي بصحتها فتخرج تنتظره في المطار وتطهي له الوجبات التي يحبها ، لماذا لم يعد في وقت ابكر وهي تحتاجه ، كانت ستذهب معه للطبيب ، تخرج تتمشي معه علي الكورنيش تقص عليه احداث طفولته المضحكه ، لو عاد ابكر لبقيت لها صحتها ، فحزنها علي فراقه اضعف قلبها ، حين غادرها ورحل ادركت ان الرحيل قدرها ابيها رحل ودفعت ثمن غيابه طيله العمر ومن بعده زوجها رحل وبكته حتي اغلقت عينيها ولم تفتحها ، وهو ايضا رحل وتركها غرس نصل جحوده في قلبها واعطاها ظهره وغاب ، بقيت ندبة غيابه داخل قلبها جرحا حيا ، لماذا لم تعد مبكرا يااحمد ....
تململت في فراشها ، اقتربت ابنتها ، تحسها ستستيقظ ، همست في اذنها بصوت متآلم جدد كل احزانها " ماما " للاسف لااقوي علي الرد عليك لكني اسمعك ، اقتربي اقبلك اخذك في حضني ابكي في حضنك مثلما اعتدت لااجد احن منك علي ، تتذكر امها وهي تموت ، كان شاحبه صفراء ، هل انا شاحبه صفراء مثلها ، كانت ضعيفه مثل الريشه هشه مثل القش مبعثره مثل الزجاج المحطم علي الارض في العاصفه ، هل انا ضعيفه مثلها ، سالت ابنتها بصوت لم تسمعه ، فهي امامهم ميته تستعد للرحيل ومع نفسها حيه اسيره لاتقوي علي الحركه ، تمنت لو تقبض علي اصابع ابنتها ، توصيها باحمد ، هو اناني لكنه طيب ، ومادام قد عاد اصفحي عنه واخبريه اني صفحت عنه واني احبه ...... ارتعشت الخطوط المرسومه علي الشاشات الموصوله بالاسلاك وجسدها الوهن ، قفزت الابنه من مكانها اضطرابا ، اقتربت الممرضه من الشاشه تقرا طلاسمها ، هدآت الخطوط ، تنفسوا جميعا الصعدا ، كانت هانية تهمس لهم لاتخافوا فميعاد رحيلي لم يحن بعد ، مازلت افكر في حياتي ولم انتهي ، ارتعاشات الشاشه انفجرت لان احمد ابني وحبيب قلبي ترك العالم كله من اجلي وحضر ، انه الحب يااغبياء يرعش الشاشات ويحير الاطباء ويخيفكم !!!! تمنت لو احمد فهم ماتحسه ... لكنها غابت وغابت و.... مازال ابناءها يبكون !!!
( ٥ ) الدمية
جلست هانية باكية محتقنة الوجه علي فراشها في ركن الحجرة الباردة تخاطب دميتها وتشكو لها همها " اهي ماما علي طول كده ، أي حاجه تنزل فيا ضرب " تتأوه هانيه وكأنها تشرح للدمية ماعانته وتعانيه دائما لكن الدمية لاترد عليها ولا تتعاطف معها " كتفي بيوجعني قوي " تشير هانية علي كتفها المتورم " كتفي " تلمس هانية كدماته وهي تؤكد للدمية " شايفه مزرق ازاي " لكن الدمية لاتري كتفها ولا تراها فهي جسم بلاستيكا اصم منحوه لها يوم نجاحها في السنه الاولي بالمدرسة هدية نجاح رخيصة....
تتأوه هانية وهي تخاطب دميتها تبحث عندها عن ملاذ لاتجده في أي مكان اخر " والله انا ماعملتش حاجة " تمسك الدمية من ذراعيها الضعيفتين كأنها تستنجد بها " ماما اللي علي طول زعلانه " تهز هانية رأسها " وتنزل فيا ضرب " يزداد حزن هانية وتقسو علي دميتها فاذا باحد الذراعين يفلت من مكانه ويقع علي فراشها لينفجر غضبها تصبه علي الدمية العاجزة صراخا عاليا " انا حاموتك ، حاموتك" وتجذب بعصبيه ذراعها الاخر كأنها والدتها فتكسره في يدها " المرة الجايه حاوريكي " ....
يزداد صراخ هانية تسمع صداه في الحجرة الخالية وكأنه الف صوت، صدي عاليا يرعبها فيرتفع صراخها اكثر " حاكسرلك رجليكي ، حاموتك " تصارع الدمية وتقسو علي ساقيها تخلعهما في اصابعها وتقذف بهما علي طول ذراعيها بعيدا في ركن الحجرة لتبقي الدمية جسدا عليلا بلا اطراف مخيف الهيئة ، تقذف به هانية غاضبه بعيدا عنها كأنها تهرب منه ومن نفسها ومن والدتها وتهمس للدمية وكأنها تهددها " المرة الجاية حاسيبك كده ، كل رجل في حته وكل ايد في ناحية ، خليكي بقي ، انتي حرة"....
تنسال دموعها حزنا علي صديقتها الاثيرة والتي لاتنام الا في حضنها ولا تستنجد من اشباح الخوف الا بها فتقفز من فراشها تلملم اطرافها برقه وكأنها تعتذر لهم عن قسوتها ، تاخذ الجسد العاجز في حضنها وتحاول باصابعها الرفيعه الصغيرة ان تدخل الاطراف البلاستيكية في مكانها لكنها تفشل وتفشل ، تخاطب هانية دميتها كأنها تستنجد بها تساعدها " ده انا بحبك خالص ، صح " تنظر هانية لوجهها الجامد " بس انتي ما تعمليش كده تاني " لاترد عليها الدمية قليلة الحيلة مكسرة الاطراف ملقاة علي الفراش لاتعرف مصيرها ، تحاول هانية ثانيه اصلاحها لكن صغر سنها وقله خبرتها لاتساعدها ....
تفتح الام باب الحجرة ، تنظر لهانية بغضب وعتاب ، تنتشل الدمية من مكانها ، تركب اطرافها المخلوعة بقوة ، ثم تلقيها في حجر هانية وهي تؤكد عليها " انتي اتهبلتي ، بتكسري العروسة ليه " لاترد عليها هانية فهي نفسها لاتعرف لماذا تقسوه علي دميتها الحبيبة " دي اخر مرة اصلحها لكي ، المرة الجاية حاموتك " وتخرج الام من الحجرة وهي تتنفس نارا سائلة غاضبه من حياتها ومن هانية " هو الواحد حيلاقيها منين ولا منين ياربي " ...
تبقي هانية وحيده ودميتها ،صغيرتين ، قليلتي الحيلة ، لاحول لهما ولا قوة ، لايعرفها كيف يفرا من مصيرهما ، لايقويان علي مقاومة العسف الذي يحيط بهما ، لاتفهم أي منهما سبب القسوة التي تلاقيها دائما ، لكن الدمية تبقي اكثر عجزا ولاتملك ان ترد علي هانية وهي تصرخ في وجهها " مش بقولك ، المرة الجايه حاموتك " يختلط صوت هانية في اذن الدمية بصوت والدتها المتوعد دائما نغمتين متقاربتين فتكاد الدمية تفر منهما معا ، لكن هانية بحنان مفاجيء تحتضنها " انتي حبيبتي " فلا تفهم الدمية سببا للعنف المستمر الذي تلاقيه منها ولاتفهم مبررا للحنان المفاجيء ، تشعر الدمية بالارتباك كصديقتها هانية التي تعاني مثلها من الارتباك الرهيب والفزع المستمر !!!!
تبتسم السيده العجوز في فراش غيبوبتها ، تتذكر دميتها ، مازالت تحتفظ بها اسفل ملابسها في قاع الدولاب ، صديقتها الوحيده ، طالما ضربتها وبكت ، طالما لعبت معها وفرحت ، صديقتها ورفيقه رحله العذاب ، فكل مره ضربتها الام ضربت هي عروستها وانتقمت منها ، الاب ترك الام غاضبه فنفثت غضبها في هانيه عاقبتها علي كل الذنوب التي لاتعيها ولم ترتكبها ، الام ضربت هانيه فنفثت هانيه غضبها في العروس تخلع اطرافها تلقيها من فوق السرير تدوس عليها باقدامها تتشاجر معها لا فخذيها عاريتين لان فستانها يكشف لون ذراعيها لان الروج الاحمر الملتصق بشفتيها عيب للبنات في مثل عمرها ، تحس هانيه خجلا من قسوتها الدائمه مع العروس ، ترتعش الشاشات ثانيه ، ترتعش بشده ، كان قلب هانيه يكاد ينفجر ، تضطرت الممرضه وتخرج من الحجره مسرعه تبحث عن طبيب يخلي مسئوليتها عن الجثه التي ترفض الموت وعاجزه عن استئناف الحياه ....
كادت هانيه تناديها ، لاتخافي ، انه الخجل من القسوه التي مارستها مع عروستي وصديقتي الوحيده ، الخجل الذي فاض في قلبي بعثره لدقاته المنتظمه ، الخجل الذي رفع الضغط فارتبكت الشاشات الطبيه ، لاتخافي وعودي ، فطبيبك لن يفهم ما بي ولن يعالجني ، اعتذرت هانيه للعروس التي مزقتها حطمتها انتقمت منها ، اعتذرت لها ، هدآت الشاشات ثانيه ، ابتسمت هانيه ، كانها سمعت صوت العروس ياتي من قاع دولابها يصفح عنها ، ابتسمت واحست صوت العصافير التي تقف علي شباكها تغرد في اذنها ، كان العروس احضرت العصافير وقدمت لزيارتها ابتسمت هانيه واحبت العروس والعصافير ونامت راضيه عن نفسها ...
نهايه الجزء الاول ويتبع بالجزء الثاني ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق