مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الخميس، 1 سبتمبر 2016

تعويذة العشق والدموع ... الفصل الاول

تعويذة العشق والدموع


الفصل الأول

الحب كالموت يغيّر كل الأشياء ( 1 )





(  1 )
"الولد يقُش"
على منضدةٍ كبيرة وأمامَه كل كروت اللعب جلس حسن على مقعدٍ وثير مسترخيًا زاهيًا مبتسمًا، مَد أصابعه الطويلة وسَحَب كارتًا، "بنت حمراء"، كارتًا ثانيًا، "بنت سوداء"، كارتًا ثالثًا، "بنت حمراء"، كارتًا رابعًا، "بنت سوداء". ابتسمَ ابتسامة واسعة، قَبضَ على الكروت الأربعة بين أصابعه وأطال فيها النظر، اتسعت ابتسامته أكثر وأكثر، سطَع وهجها في المِرآة الكبيرة أمامَه، رفعَ خصلات شَعره مِن فوق عينيه وحدّق في ملامحه، حدَّق في البنات الأربع بين يديه، قلَبَ أوراقها فتراقصت بين أصابعه في المِرأة، اتسعت ابتسامته أكثر وأكثر وهمَس ..... الولد يقش !!
 هامش - البنت
حمراء أو سوداء، أمرٌ لا يعنيه ولا يفرق معه، نحن مجرد كروت لَعِب بلاستيكية موشومة ببنات مزركشة، يتفاءل كلما وقَعَنا في يده، يتفاءل ويستشعر انتصارًا عظيمًا لأننا لم نفلح مرة في الفرار منه أو في هزيمته ..!
كثيرًا نتعجب، كيف لا تلتقط أصابعه الماهرة إلا البنات مِن وسط كل الكروت؟؟ صيادٌ ينادينا فنأتي صاغراتٍ لشِبَاكِه، نلاعِبه ونشاكسه، ونختبيء منه وسط كل الكروت، نظنه هذه المرة سيخطيء ويلتقط "شايب" أو "كرت اتنين أسود"، نظنه هذه المرة لن ينتصر علينا أو على الأقل لن ينتصر علينا جميعًا، لن يعثر علينا جميعًا، ربما تختلط عليه الكروت وتفسد حاسته فيسحب" شايب" أو "آس"، لكنه أبدًا لا يخطيء، أصابعه المدرَّبة البارعة كالمغناطيس تجذب كل كروت البنات له، لا تتصوروا أنه يعرف الكروت مسبقًا، ولا علَّمَها بعلامات مميزة لا يخطئها، لا تتصوروا هذا، كثيرًا ما يفتح عُلَب كروت جديدة، لم يمسسها مِن قبل، يفنِّطها بثقةٍ واستهتار، يلقيها على المنضدة ويحدق فيها وكأن بصرَه يخترق البلاستيك ويري مِن الكارت ما يُبطِنه، يحدّق في الكروت طويلا وكأنه يسمع همسَها ويخاطِبها، وفي لحظةٍ خاطفة لا يَعرف ميعادَها إلا هو يمد أصابعه ويلتقط الكرت الأول "بنت حمراء"، الثاني "بنت سوداء"، الثالث "بنت حمراء"، الرابع "بنت سوداء"، يبتسم وتتسع ابتسامته أكثر وأكثر وأكثر، يقبض على البنات الأربع بين أصابعه زاهيًا سعيدًا راضيًا عن براعته، يحدّق في الكروت الأربعة ويهمس ، الولد يقُش !!
لا نعرف هذه اللعبة ولم نتعلمها، ولا نعرف مِن أين أتى بها ؟؟!!  ولا ما هي قواعدها، ولا ما الذي كان سيقوله لو خرج له "شايب" وسط البنات أو السبعة الكومي، ما الذي سيفعله وقتَها؟ لا نعرف ولم نعرف؛ لأنه أبدًا لم يخطيء، ومرة تِلو المَرة تِلو الألف تختطف أصابعه البارعة كروت البنات الأربع مِن كل الكروت، مَرةً تِلو المَرة تِلو آلاف، يهمس الولد يقُش !!
كثيرًا حاولت الكروت أن تفِر منه، لكنها أبدًا لا تفلح، كثيرًا حاولنا أن نتوارى وسط الكروت، أن نختبيء مِن أصابعه البارعة، كثيرًا حاولنا أن نصمت ونكتم أنفاسَنا ليتوهَ عنا، حاولنا أن نلتصق بكروت أخرى ونحتمي بها ليختلط عليه الأمر فيسحب "شايب" أو "سبعة كومي" ويتركنا، حاولنا معه كل شيء وفشلنا، أصابعه البارعة تجذبنا مِن وسط كل الكروت ولا يهدأ ولا يبتسم ولا يرضى عن نفسه إلا وقتما يقبض على الكروت الأربعة وعلينا ويحدّق فينا ويهمس الولد يقُش!!
قَدَرُنا أن نبقى بين أصابعه، وقَدَرُه أن يقبض علينا، قدَرُنا أن يعثر علينا، وقدَرُه أن يعثر علينا، ومَن يهرب مِن قدرِه؟؟ ولا واحدة مِنا تقوَى،  ولا هو يرغب!!
الولد يقش !! 
 (  2  )
"انت فين يا حسن ؟؟"
أغلقت مايسة التليفون وأنهت المكالمة التي زادت ارتباكَها  وصمتت طويلا حيرَى ، أين أنت يا حسن ؟؟  كريمة مديرة العيادة أخبرتها أن الدكتور تصرَّفَ بغرابة في الأسبوع الأخير قبل اختفائه، وأنه كان يغلِق باب حجرته عليه طويلا ولا يستقبل التليفونات، ويرفض الكشفَ على المرْضَى بعد حضورهم للعيادة ، قالت إنه في الليلة الأخيرة قبل اختفائه تركَ لها مبلغًا ماليًا كبيرًا في درج مكتبها، وأوصاها بطريقة توزيعِه على العاملين بالعيادة حتي يعود، كريمة كانت مرتبكة جدًا وهي تحكي لمايسة عن حال الدكتور حسن : اعذريني يا هانم أنا قلت جايز فيه بينكم مشاكل لا قدّر الله لأنه بجد ما كانش هو الدكتور حسن خالص.
أطالت كريمة في الحديث ومايسة لا تسمعها ولا تدرك تفاصيل ثرثرتها الفزعة عن الدكتور وحاله: وأنا كنت فين وكل ده بيحصل؟ هذا ما يدور في ذهن مايسة ، تشعر بغفلةٍ تلوم نفسها عليها ، تسترسل كريمة: ده حتي كان خاسس جدا ومش هو ، خير يا هانم طمنيني عليه ...
تظاهرت مايسة بالهدوء وقالت للمديرة إنه كويس بس مشغول شويه وأول ما يفضي حيرجع العيادة على طول ، صوتها كاذب وحُججها غريبة على كريمة التي تعرف عن الدكتور حسن وأحواله أكثر مما تعرف زوجته ، بصوتٍ حاسم أمرتها مايسة: الغي المواعيد يا كريمة أو اجّليها للأسبوع الجَاى، ولو اتصل بيكي بلّغيني فورًا. وأنهت المكالمة وهي أكثر حَيرة ..
انت فين يا حسن ؟؟
 هامش - حسن
على قصاصة ورق كتبتُ لمايسة كلمتين: أنا مسافر لفترة ، معرفش قد إيه ، معرفش فين ، أنا كويس على فكرة ما تقلقيش عليا ، وخلّي بالك من منة الله. وتركت الكلمتين بجوارها على الفراش وتسللتُ خارج المنزل  والحياة كلها...
أعرف أنها ستقلق ولن تصمت وستبحث عني ، تمنيتُ أن أكتب لها  لا تبحثي عني فلن تجديني حتي أجد نفسي ، لكنها غبية لن تفهم .. الله يرحمك يا سليمان يا وهيب ، انتقيتَ لي الغبية حتى تعيش وتعمّر البيت ، فعاشت ولم يعمر البيت ولن يعمر أبدا!! الله يرحمك متَّ واسترحت وتركتني أدفع ثمن غبائها الفادح .. الله يرحمك يا جَدتي منصفة ، أوصيتِني أن أنتظر مَن أعشقها لأسعد ولم أنتظر، ولم أسعد ، الله يرحمك يا جَدتي ..
 (  3  )
" كلنا تحت أمرك يا هانم "
انفجَر باكيًا وقتَما اتصلوا به في ساعة مبكرة من الصباح وأخبروه أن الدكتور عبد الرحيم مات ، انفجرَ باكيًا منتحِبًا وقضى بقية يومِه معتكِفًا مع ذكرياته عن صديق العمر الذي رحلَ فجأة قبلَ أن يكملا معه صحبة الأيام ، اعتذر عن عيادته وعن عمليات اليوم التالي ، ومنحَ صديقَ عمره دموعَه وحسرته وكل وقت يومه، وبركانَ حزنِه وندمه وإحساسه بالذنب لأنه انشغل بالحياة وتفاصيلها اللعينة ولم يشاركه أيامَه الأخيرة ولحظاتِ رحيله ...
في الجنازة تمالك نفسَه وسيطر على حزنه وأخفى دموعَه خلف نظارته السوداء حتي انفرد بنفسه في عيادته الخاوية فارتفع صوت نحيبِه وحزنه على صديق عمره الدكتور عبد الرحيم الرواني الذي اختطفه الموت فجأة فلم يقوَ أيٌّ مِن زملائه وأصدقائه على إنقاذه من ذلك المرض المتوحش الذي نشبَ أنيابه في حياته واختطفه منه وصاحَبَه في رحلته الأخيرة بعيدًا عنهم جميعًا ..
دخلَ سرادق العزاء مبكرًا واختلطت دموعه بدموع أشقاء صديق عمره، ووقف بجوارهم يقاسِمهم تقبُّلَ العزاء والمواساة حزينًا على صديق عمره الذي لم يمنحهما العمرُ وقتًا للقاءٍ تواعدا عليه منذ زمن بعيد .. و " قريب إن شاء الله، والأيام كتيرة " فمرت الأيام ونفدت وبقي اللقاء الذي لم يتحقق ندبةً في قلب حسن توجعه وتلومه وتقتله بالذنب ,,
في نهاية الليلة وبعدما انصرف المعزون ولم يبقَ إلا القليل من أفراد الأسرة الملتاعة بموت ابنِها ، طلبَ مِن أشقائه أن يصحَبوه لسرادق النساء ليقدم تعازيَه للهانم حرم المرحوم وشقيقاتِه ..
في سرادق النساء ، أشار الدكتور عبد العليم لبشرى يعرّفها عليه: حسن أخو المرحوم واخونا كلنا، رفعت بشرى عينيها الباكيتين صوبَه وهو يتمتم البقية في حياتك يا هانم ، همهمت بصوتها المخنوق بكلمات هامسة غير مفهومة ، حدّق فيها حزينًا وهمس : كلنا تحت أمرك يا هانم ، رحيم كان أخ وأكتر، واللهِ لولا الأيام الوحشه اللي باعدت بينا والزمن الوحِش ، وواسى شقيقاتِه الباكيات ربنا يصبركم ويصبرنا كلنا ... وفي السيارة أغلق الراديو وغرقَ في الصمت الحزين على صديق عمره، لكن عينا بشرى الواسعتين ولون الحزن الساطع فيهما وجعًا كل ذلك لم يبارح خيالَه لحظة!!
 هامش - بشرى
هل رحلَ رحيم فعلا ؟؟ سؤال أسأله لنفسي منذ إدراكي لموتِه ، كنت بجواره في المستشفى وكان يتألم شاحبًا صامتًا ، كاتمًا لوجعه وألمِه حتى لا يوجعني ، كنت أحِس به وأتمنى لو أقوَى على أن أفعل شيئًا ينقذه من السرطان المتوحش الذي ينهش في روحِه ، لكني لم أقوَى لا أنا ولا أبرع زملائه وأصدقائه الأطباء مِن إنقاذه ولا لتأخير رحيله ، السرطان تمكَّنَ من كبدِه قبلما نعرف بمرضِه، وحين عَرَفنا كان الوقت قد فات، والأيام القليلة في عمره صارت أقل ، صدمة الواقع المُر أفزعتني، أخافتني، لا أصدق أن زوجي سيرحل ويتركني والبيت الخاوي والذكريات الموجعة ، زوجي وأبي وابني ، حلُمت أن أعيش معه أحلام الزواج الزاهية، وحتى عندما عرَفت بعقمِه وعجزِه عن رواء رحِمي بماء الحياة وصخَب الأطفال تمسكتُ به أكثر  ولم أجرحه ولم أقبل عرْضَه عليّ بتركِه تحقيقًا لأُمومتي ، منحتُه حياتي كلها راضيةً سعيدة، ومنحَني حُبه وعطفه مِعطاءً فياضًا ، وتصورتنا سنعيش معًا حتى اخر العمر ، لم أسمع طَرقات الموت على بابه ولم أستعد لها حتي قتلني برحيله المفاجيء ، شهرانِ في المستشفى بين الغيبوبة والانتباه ، وبين اليأس والأمل ، وبين الحزن والتمني،  وسرعان ما انتهى كل شيء ورحل عن الحياة وعني ....
كثيرًا ما كان يكلمني عن حسن صديق عمره ، وعن ابنتِه الجميلة وعن وعدهما باللقاء الذي لم يترك له العمر القصير فرصةً لتحقيقه ، كان يكلمني عن جيرة المَنيل وبيتِ الفيوم وذكريات الضفادع والمَشرَحة، وسَكن الامتياز البارد ونَبَطشيات الطواريء، كلّمَني كثيرًا عنه وعن عمرهما الذي عاشاه معًا  ، كلمَني كثيرًا عنه ولمحتُه بعض المرات يمُر علينا في المستشفى ، يُحييني ويجري وسط انشغاله وعملياته ، يعِد رحيم بجلسة طويلة في نهاية اليوم ولم يَفِ بوعده ولم يأتِه رغم انتظار رحيم له وسؤالِه عنه ما بين الغيبوبة والغيبوبة ، سمعتُ عنه ولمحته ورددت تحيتَه، لكني لم أتعرف عليه بحق إلا في ذلك اليوم ، في نهاية يوم الحزن الأول وعلى عتبة سرادق العزاء ، قاسَمَني الحزنَ والوجع وواساني بكلمات من قلبه المتألم، وقال كلماتٍ كثيرة لم أسمع معظمها غير استئذانه ليتصل بي ويطمئن علىّ .. و" أنا تحت أمرك يا هانم " وهمستُ وسط دموعي " تنور يا فندم "  وليتني لم أقًل له شيئًا ولم أتعرف عليه ، ليتكِ خرستِ يا بشرى ، ليتكِ خرستِ !!
( 4 )
" أنا كويس ما تقلقيش "
ضربت مايسة الجرسَ للخادمة تناديها بعصبيةٍ وغضب ، القهوة، تقبض في يدها على قصاصة ورق وجدَتها بجوار رأسها وقتما استيقظتْ ، خَط حسن تعرفه جيدًا ، رسالة غامضة لم تفهم معناها طلبت القهوةَ لتفيق وتفهم ،  قرأت العبارةَ المقتضَبة أكثر من مرة ولم تفهم ما الذي يعنيه زوجها ، اتصلت بخطوطه المحمولة فأتتها إجابة واحدة "خارج نطاق الخدمة" ، ارتبكت .. هل سافر لمؤتمرٍ علمي كانت تعلم بميعادِه ونسَت؟ هل سافر لإجراء عمليات خارج القاهرة وأخبرها من قبل وتاه عن بالها الأمر ؟ أين أنت يا حسن ؟؟ تعاوِد الاتصال به مرة واثنتين وعشرًا ، ربما يكون مغلقًا ، ربما يكون مغلقًا ، اتصلت بالمستشفى تسأل موظفة الاستقبال عنه ، أجابتها الموظفة أن الدكتور ألغى كل مواعيده وأنه في أجازة مفتوحة كما قال لهم ، شكرَتها وهي لا تفهم شيئا مما تقوله الموظفة ، أجازة مفتوحة ؟؟؟  تعاوِد الاتصال به فيأتيها الصوت البارد "خارج نطاق الخدمة" تارة ، و "ربما يكون الهاتف مغلقا"  تارة أخرى ، تعاوِد قراءة الورقة ، مسافر فين ؟؟ كويس ازاي ؟؟ انت فين يا حسن ؟؟
تلف في غرفتها وتدور ، تبحث عن إجابات لأسئلتها ، تسترجع كلمات كريمة ورفضَه استقبال التليفونات ، تسترجع كلمات موظفة الاستقبال وإلغاء مواعيد العمليات ، أنا كويس ما تقلقيش، تضحك بهيستريا ، حاضر يا حسن ، ورأسها يكاد ينفجر مِن هذا الموقف التي لم تظن أبدًا أنها ستعيشه ، انت فين يا حسن؟؟؟
هامش - كريمة
اندهشت الهانم مما حدث مثلنا وأكثر ، دي لسه ماتعرفش كل حاجه !! أنا قلقانه عليها، راسها حتشِت ، لو أي واحده مِنا مكانها كانت اتجننت ، تحكي كريمة بصوتٍ بارد يخفي وراءه انفعالَها وتوترها لممرضات العيادة عن سبب الغياب المفاجيء والغريب للدكتور حسن ، تجيبهم بالإجابات التي لا تملك غيرها والقلق ينهش روحَها ويكاد يقتلها ، تهمس وكأنها لا تكترث ، معرفش حاجة زيّي زيّكم ، تحكي لهم عن حديث مايسة معها وفزعِها من اختفاء زوجها فجأة دونما أي مقدمات ، قالت إحداهن أكيد اتجوز ، سخِرت منها كريمة ، هوّ الدكتور حسن بتاع جواز  برضه؟ ماهو متجوز ، قالت الأخرى ربما طلَّقَ زوجته وهي لم تعرف بعد ، نفَت كريمة ذلك الاحتمال ، هوّ الدكتور حسن بتاع طلاق برضه وهو حتي لو طلقها يختفي ليه ؟؟ بتشتغلوا معاه بقالكم سنين وبهايم مش فاهمين حاجه ، طب هو قالك ايه؟؟ ولا قال حاجه ، تشرح كريمة وتشرح وكأنها تحكي فيلمًا عربيًا شاهدته في سهرة الخميس ، تحكي بصوتٍ بارد مصطَنع وكأنه بلا مشاعر، بلا قلق، بلا اكتراث ، نادَى عليها ، سلّمَها مبلغًا كبيرًا من النقود لتضعه في حساب الهانم في البنك ، وأخبرها أنه سيغيب بعض الوقت ، سلّمَها مصاريف العيادة ورواتب الممرضات وقال لها إنه سيكون بخير ، ودَّعَها وقت أن غادرت العيادة وقال لها ما تقفليش العيادة ياكريمة ، اشوف وِشك بخير.
وحطيتي الفلوس في البنك ؟؟ طبعا .. لكن الهانم لم تعرف حتى الان بأمر النقود ، واثقة كريمة أن الفزع سيتمكن من مايسة أكثر وأكثر عندما تعرف بشأن النقود، ومعنى ذلك التصرف مِن الدكتور حسن قبل اختفائه الغريب !!!
الممرضات قلقات على الدكتور حسن وزوجته أيضًا ، كريمة لا تشعر فقط بالقلق بل بالغضب لأنه اختفى دون أن يخبرها وهي بالذات بأى شيء قبل اختفائه المريب ، قلِقة نعم لكنها غضبَى وحانقة على الدكتور حسن ومِن تصرفاته الهوجاء .. وما كنش العشم يا دكتور!!
( 5 )
" الولد يقش "
شهرانِ مَرّا منذ قابلتها في سرادق العزاء ، عشتُ فيهما حياتي مثلما اعتدت أن أعيشها ، بعض الليالي الماجِنة مع شيرين، وبعض الأوقات الباردة مع مايسة وبعض اللعِب مع نبيلة، وبعض التجاهل مع كريمة ، شهرانِ أعيش حياتي العادية بكل تفاصيلها لكني أبدًا في أي لحظة لم أنسَ بشرى،  ولم تغِب عن خيالي ، نَعَم هذه هي الحقيقة الغريبة التي أعترِف بها لنفسي مندهشًا،  شهرانِ لم تغِب عن بالي قَط ..
نظرتُها الأولى والأخيرة لي تلاحقني ، نظرةٌ مزركشة بالحزن تزيدها جمالا فوق جمالها الأخّاذ ، الثوب الأسود الأنيق الذي كانت ترتديه، وشَعرها المعقوف خلف رقبتِها المرمرية، ووِجنتاها المحتنقتان مِن كثرة البكاء، والملامح الفزِعة بحقيقة الموت ، كل هذا رسمَ ملامحها مختلفة، خاصة جدًا، جميلة حنونة  ، ملامح فرضت نفسَها علىّ طيلة الشهريْن وفي أغرب الأوقات ،  وأنا في غرفة العمليات منهمِكٌ في عملي وحياة المريض تحت مشرطي والدماء تتناثر، والصراع بيننا وبين الموت على أشُدِّه ، فجأة تسطع نظرتها فوق نصل مشرطي فتتبعثر دقات قلبي اندهاشًا  وترتجف يدي!! وأنا نائم بجوار مايسة وجسدها المتوتر يلاحقني برغبته، وظهري لها وعيناي مغمضتان ومتظاهرٌ بالنوم، تسطع نظرتها تحت جفنيّ تدهشني وتربكني وتسعدني وترسم ابتسامة أُخفيها عن مايسة وأتظاهر أكثر وأكثر بالنوم !!
شهرانِ ونظرة بشرى وجمال عينيها الواسعتين ولون الحزن فيهما يطاردني ، يلاحقني ، وكأنها تناديني لأقترب، بل هي تناديني فعلا ، ترسل لي رسائلَها الغامضة الغريبة تدعونني لأقتحم عالمها، وتستأذنني أن تقتحم عالمي ، يحذّرني رحيم من أن أقترب منها فأطردها من خيالي ، فتأتيني غضبَى حزينة وحيدة ترجونني أن أهوّن عليها حزنَها وأطرق بابها وتبتسم رغم حزنها تنتظرني وتلاحقني بخيالها وغموضها، وتناديني أكثر وأكثر ، تطاردني في نومي وتشاكسني في يقظتي، وتزورني في عيادتي وغرفة نومي، وأنا حائرٌ مرتبِك لا أعرف كيف أتصرف معها ومع رحيم....َ!
وذاتَ صباحٍ غريب وبعدَ مشاجرةٍ مع مايسة الحمقاء وحادثٍ كبير في الطريق لوَّحَ بنصل الموت فوق رقبتي ، قررتُ تشبثًا بالحياة وإصرارًا على الغرق في مُتعِها وجموحها ، قررتُ وأنا أعتذر لرحيم صديقي وأترحم عليه ، قررتُ أن أتصل ببشرى وأطمئن عليها علَّني أفهم ما الذي تريده مِني، وما الذي أريده أيضًا أنا مِنها ....الولد يقُش !!
هامش - بشرى
لم تكُن مجرد كلمات مواساة، ولا حزن فقْدٍ، ولا وجع رحيل ولا اقتسام وجع، لم يكن هذا فقط ما استقبلته مِن الدكتور حسن الوهيب صديق رحيم يومَ مأتمِه وهو قابضٌ على كفي يتمتم البقية في حياتك ياهانم !!
إحساسٌ بالارتياح لامسَ روحي بكلماته ، ودفء تسلل لصقيع حزني بوجوده ، ورسالة طمأنينة تخبرني بأنه موجود وحاضِر إذا ما احتجتُه ، ومشاعر فياضة لم أفهمها وقتَها بقيتْ تؤنسني كلما استبدت وحدتي ووحشة روحي وطغى حزني...
شكرتُه وقتَها على مشاطرة الأحزان والمواساة الصادقة، ولم أقل شيئا آخر، لكن ما منحه لي في تلك الدقائق القليلة بقي يؤرقني طيلةَ الشهريْن ويزاحم حزني ويطرده ، ويصارع وحدتي ويبدّدها، وأنا أتناساه وأتجاهله، وأتجاهل ما شعرتُ به منه وبسببِه ، ورحيم يأتيني بوجهٍ غاضب يتشاجر معي ويلومني لأني أُفكر في صديقه الغريب ولا أُفكر فيه وهو حبيبي ووجعي، ويهمس تارةً بصوته الغاضب: عيب يا بشرى، وتارة أخرى يحاضرني عن الأصول واللائق وما يصِح وما لا يصِح ، ويعلو همسُه ويدوّي بين جنبات البيت الخاوي إلا مِني ومن حزني ، عيب يا بشرى عيب ، وأبكي قهرًا وحزنًا وخجلا واعتذارًا لرحيم، وأُقسِم له بمعزَّتِه في قلبي أني سأنسى تمامًا صديقَه الدكتور حسن ورسائله الغامضة وكأني لم أقابله أبدًا !!
( 6 )
" أين أنتِ يا منصفة ؟؟ "
جالسًا في عيادته بعد انصراف العاملين فيها وتأخر الوقت ، وحيدًا يقبض على رأسه التي تكاد تتحطم من شدة الغضب والإرهاق ، سأترك العالم كله خلفي وأنفرد بنفسي ، أحتاج إلى حسن ليحل مشاكله مع حسن ومع الدنيا كلها ، هذا آخر ما اهتديتُ إليه ، أحتاج نفسي لتحل مشاكلها مع نفسي ، سأرحل مِن البيت وأعتذر للمَرضَى وأؤجّل العملياتِ وأغيب بعض الوقت الذي لا أعرف قدْره ، أسبوع أو سَنة أو حتى لآخر الدهر ، سأنفرد بنفسي لأفهم ما الذي حدث وكيف حدث ، وقتَها ، بعدَها ، إمّا أعود للعالم الذي أفر منه الآن ، أَقبَله ، أُغيّره ، أو لا أعود أبدًا ، الآن عاجزٌ عن تصوّر كيف سأكون ويكون العالم كله وقتَ عودتي إنْ عدتُ !! كل ما أعرفه أني أرغب في الرحيل والعزلة ، فليكن الرحيل والعزلة مع حَسن و لأجلِه ..
إلى أين سأذهب؟ كان السؤالَ الأصعب ، مكبلٌ بقيود فولاذية تشدني رغم إرادتي لهذا العالم الذي أهرب منه ، لم أدرك أبدًا أني أحمل كل هذه الأثقال على كتفي، وكل هذه القيود تشد وِثاقي إلا في هذه اللحظة لحظة الفرار ، قيود وأحمال تشدني للأرض وتربطني بها ، بيت وأسرة وزوجة وابنة ، رقية الكشميري والألزاهيمر ، مَرْضاي وأُسَرهم ، مساعديّ وطلَبة الدراسات العليا،  كل هذا يشدني لهذا العالم  ويبقيني أسيرًا له وفيه ، أبحث عن نفسي فلا أجدني ولا أعرفني ، كل هذا يربطني بالأرض التي أرغب في الفرار منها ، أحتاج عزلة تُجيب عن أسئلتي الحيرى مَن أنا؟ و إلى أين سأذهب ؟؟
كأني بَنيت قلعةً من الرمال على شط البحر وزيّنتها بالأعلام،  وزركشتها بالثقة والزهو والهيبة، وتصورتني مَلك العالَم ومالكًا له، فأتى إعصار مخيف طاغٍ حطّمها وهدَمها، وأتت الأمواج العاتية الغاضبة وأغرقتها ومَحَتها مِن على وجه الأرض وأغرقتني تحت أنقاضها ، هذا ما أشعر به في تلك اللحظة الغريبة مِن حياتي، كل شيء غرقَ وكله تحطم وتهدم ، وكأني احتُجِزتُ بين الأنقاض يطالبني الجميع بإعادة إعمار الحياة التي أفسدتًها برعونتي وجموحي وجنوني وكروت اللعب وفتيات الكوتشينه، الكل يطالبني ولا أكترث بهم ، لكني أنا حسن الوهيب أنتظِر مِني أن أعيد بناء حياتي أنا، وليحترق الجميع، لا أكترث ولا أفكر فيهم، المهم أنا ، حسن الوهيب ، أنا الغريب الوحيد التائه العاجز عن التفكير وعن التصرف ، المهم كيف سأعيد إعمار روحي وبناء حياتي ، هذه هي المهمة والمسئولية والهَم الذي يفتك برأسي ويعصف بها ، أحتاج عزلتي مع نفسي ، مع حسن وفقط!!
في هذه اللحظة بالضبط، وبعد كل ما مررتُ به وعانيته، وبعد تفكيرٍ طويل وحَيرة ووجع وغربة وعجز ، قررتُ أن أختفي من تلك الحياة القديمة التي كنت أظنني أعرفها، قررت أن أقطع علاقتي بكل تفاصيلها ، وأنفرد بنفسي وأنقاضي وبقايا روحي وحَسن علَّني أجد طريقي وعالَمي ونفسي !!
ورقة صغيرة قطعتُها من مفكرتي ، كتبتُ عليها بخطٍ متعجل كلمتين لمايسة ، مسافر كذا يوم ماتقلقيش على ، وتسللتُ من الغرفة وهي غارقة في نومها، وخرجت من البيت بخطوات متعجلة صوبَ المجهول لا أنظر خلفي ولا أكترث بما أتركه ولا بما قد ألاقيه، خاوي اليديْن بلا حقيبة ملابس ولا أوراق ، أغلقتُ التليفونات المحمولة وألقيتها في حقيبة الأوراق التي تركتها في العيادة ، لا أحمل إلا حافظتي  وكروت الائتمان وبعض النقود ، قدتُ سيارتي حتي جراج المستشفى وتركتها هناك وبداخلها رساله أخرى لمايسة إنْ جُنّت وفقدت صوابَها وحاولت البحث عني والوصول لي ، ستعثر على السيارة ، ستجد رسالتي ، أنا كويس ما تقلقيش ، أتمنى أن تتصرف برزانة وعقل ولا تبلغ البوليس عن اختفائي الذي لا أعرف مدتَه، ولا أعرف كيف سأعود منه ، أحتاج وقتًا أقضيه مع نفسي ، مع حَسن ، حَسن فقط..
فكرتُ كثيرًا وطويلا، وقبل أن أقدِم على ما أقدمت عليه إلى أين سأذهب؟؟ أين سأفِر أنا وحسن وحدَنا ونبقي وحدنا ونعيش وحدنا بعيدين عن الزيف والصخب ، نتصارع ونتشاجر؟ وربما يقتل أحدنا الآخر، وربما نعود، وربما أبدًا لا نعود، أين سنذهب؟؟ أين سنذهب يا حَسن؟؟
أُحدّق في الفراغ والجدران الشاحبة، وأُطيل النظر إلى اللاشيء ، وكأني غفوت وسمعت الجِني الطيب حبيسَ المصباح السحري الذي ألقته الدنيا في طريقي يسألني عن أُمنيتي ، وشبّيك لبّيك يا حسن تؤمر بإيه ؟؟ أحتاج حضنًا حميميًا يخبّئني عن العالم كله حتي أستعيد نفسي ، أحتاج حضنَ منصفة الوهيب ، حضنها الواسع الدافيء الحاني ، حضنها يحتويني ويستوعب جنوني وجموحي واندفاعي ، يستوعب رغبتي في العزلة والوحدة والصمت ، أحتاج حضن منصفة الوهيب يطبِّب روحي من الحُمّى التي تعصف بها ويهوّن علىّ وجعَها وقهرها ، حضنها القوي يجبر انكساري وهزيمتي، يعمر روحي، يطبّب نفسي، يلملمني مِن بعثرتي وتشرذمي ، أين أنتِ يا جَدتي ، أين أنتِ يا منصفة ؟؟
وحمَلني جِني المصباح لسراية الوهيب، وتركني على بوابتها العالية، وهمس بصوت جَدتي في روحي ، بيتك ومطرحك يا حبيبي ، نورت البيت ... ورُفع الحجاب، وكُشف الطريق، ومنصفة دليلي ومرشدي، لسراية الوهيب أرحلُ، وهناك سأجد نفسي أو أفقدها للأبد .. امتننتُ للجِني الطيب وللمصباح السحري ولمنصفة الوهيب، وبدأت مغامرتي التي أجّلتُ تنفيذها حتي أجد ملجَأي ومَخبأي وكهفي، وها هي منصفة الوهيب تدلني عليه ، سراية الوهيب ... وودّعتُ العيادةَ وغادرتها، وودعت العالم القديم كله ، ونزلت السلالم ببطء لا أعرف هل سأعود؟ ومتى؟؟
وعلى مقعدي في الأتوبيس المتجه للفيوم في طريقي لسراية الوهيب غفوت بعض دقائقَ، وسرعان ما استيقظت منتبهًا لمعنى ما أفعله وقدْر حماقتِه ، ابتسمتُ لأني أخيرًا حُر أتصرف كما أرغب ، حُر حَد الحماقة بضمير مستريح وبلا أي ضغوط  أمارسها على نفسي لأتحلى بالعقل والرزانة ، صرتُ حرًا حَد اختيار الحماقة كما سيرى الآخرون سلوكي وتصرفاتي، فليذهب الآخرون جميعهم للجحيم ، وهذا القول ذاته منتهى الحماقة الجميلة ..
لوحتُ بكفي للقاهرة وعملي ومايسة مودِّعًا ، ورحبتُ بحسن رفيقي الوحيد في رحلتي الغريبة، وغفوت ثانيةً ونمت نومًا عميقًا راضيًا كل الرضا عن نفسي وشجاعتي في الفرار أخيرًا من العالم كله ..
هامش -  شيرين
في شارعٍ جانبي صغير أجلسُ في سيارتي أرقب نافذة عيادتِه ونورَها الشاحب ، أعلم أنك فوق يا حسن ، أعلم أنك فوق وأنك لا تجيب على اتصالاتي احتقارًا وكُرهًا ، أعلم أنك فوق وأنك ترى اسمي على شاشة تليفونك المحمول وتتجاهله وتتجاهلني ، عشرة أيامٍ يا حسن لم تتصل بي، ولم تأتِ للبار الذي اعتدنا اللقاءَ فيه، ولم تطرق علي باب شقتي، عشرة أيامٍ لا تجيب على تليفوناتي ولا رسائلي المشتاقة القلِقة، ومِن قبلها بشهر كامل وأكثر تَبدل حالك وتغيرتَ حتي في ملامحك، وكأنك تحولتَ إلى رجُلٍ آخر لا أعرفه ولم أعرفه قَط ، ماذا بك يا حبيبي؟ هل تظنني عديمة الإحساس بليدةً لا أحبك؟ أقضي معك بعض الوقت وأحصل منك على بعض الهدايا ولا أحبك ولا أذوب فيك؟ ماذا بك؟؟ عشرة أيامٍ أتصِل بك ولا تجيب ولا تعاوِد الاتصالَ بي؟ سألتُ عنك بواب العمارة فأجابني أن حالك غريب، وأنك شاحِبٌ مرهَق، وأنك تائهٌ غائب الفكر، وأنك لا تكشِف على المَرضى ولا تكترث بوجودهم ، أخبرَتني كريمة أنها لم ترَك في مثل حالتك طيلةَ الأعوام التي عملتْ فيها معك ، كنَت دائمًا تذهب للعيادة أنيقًا متعطرًا مبتسمًا زاهيًا بنفسك متباهٍ بوجودك ، توزع على ممرضاتك الابتساماتِ وحَبّات الملبّس وتغازلهن غزلا لطيفًا لا يجرح مشاعرهن ولا يُخجِلهن ، ترحِّب بمَرضَاك وكأنهم أصدقاؤك القريبون ، قالت كريمة إن حالك تَبدل وكأنك تشاجرتَ مع زوجتك فكفّت عن كَي القمصان وتنظيف البِدل وتلميع الأحذية ، كأن زجاجة عطرك نفدت، وكِريم شَعرك تيبّس. قالت كريمة كأنك لستَ الدكتور حسن، لو سألَتني كريمة لأقسمتُ لها على صحة كلامِها ، نَعم وكأنك لستَ الدكتور حسن ، المرة الأخيرة التي شاهدتُك فيها كنتَ زائغ العينين متوترًا قلِقًا ، لستَ عصبيًا كعادتك ولا متجبرًا كطبيعتك ، كنتَ مكسورًا مهزومًا ، يومَها تدللتُ عليك فلم ترَني، وداعبتك فلم تشعر بي، وأخبرتك بعض النكات فلم تضحك، وطلبت منك أن تراقصني فلم تنهرني، ولم تأكل ولم تشرب ، يومَها تركتَ بعض النقود الكثيرة على المنضدة وسألتني أن أدفع الحساب ، فتحتَ حقيبتي الصغيرة ووضعتَ مبلغًا أكبر من المال وقلتَ لي قد لا أراكِ لفترة ، يومَها ودَّعتني بنظرة فراقٍ وأسى ، يومَها كذّبتُ نفسي واختلقتُ لك الأعذار، وقلت لعل شيئًا أفسد مزاجك وغدًا ستعود كما أعرفك ، لكنك لم تعُد ، اتصلتُ بك فلم ترد ، انتظرتك فلم تأتِ ، وها هي عشرة أيامٍ مرت وأنت بعيد ، سأنتظرك أمام مدخل العمارة، وحين تَخرج منها سأقبض على ذراعِك وأصرخ وأفضحك ، ستسير معي مسرعًا خائفًا من الفضائح ، سأسألك ما بك، ستقول لا شيء وتحضنني وتصاحبني للبار ونعود لسنواتنا الفائتة التي قضينا معًا كثيرًا من لياليها بسعادةٍ وفرحة وحُب،  هل أحببتَني يا حسن؟ هل أحببتَني؟؟
ساعات طويلة مرت انتظرك في سيارتي حتي كاد الانتظار يخنقني كمثل الضوء الشاحب الذي ينبعث من نافذة عيادتك ، وفجأة انطفأ النور ، الانتظار الطويل انتهى ، تنفستُ الصعداءَ وساويت خصلات شَعري المبعثرة وتهيأت للقائك ، نزلت مِن السيارة لأنفذ خطتي وأستعيدك ، انتظرتك أمام مدخل العمارة ، لم تَخرج منه ، سألت البواب عنك فأجابني بضيق أنه لا يعرف عنك شيئًا ، انتظرتك واثقةً أنك ستخرج من العمارة، لكنك فُص ملح وذاب ، اختفيتَ!! أين أنت يا حسن؟؟ أين أنت ؟؟
( 7 )
" لم أعرفني!!  "
كنتُ صفحة بيضاء لا تعرف حظها ولا ما يخبئه القَدر والنصيب لها ، صفحة بيضاء نقية بريئة قبل أن تخط الحياة على وجهها أسطرها وتعاريجها وتعويذاتها المخيفة ، أتت رقية هانم الكشميري وخطّت بقلم الكحل السائح بعض الشخابيط الموحِشة على صدر الورقة وسلّمتها لمايسة التي رسمت بقلم الروج الأحمر قلوبًا مكسورة مبعثرة على الطرف اليمين، وسلَّمتها لشيرين التي خطّت بالقلم الذهبي الذي أهدته لي بعض الغربان الناعقة السوداء على الطرف اليسار،  وسلّمتها لفاطمة التي لوّنت بعض الصفحة بلون الشوكولاه والفراولة وسلّمتها لبشرى التي سطرت بقطرات مِن دمها القاني دعاءً لربي يحفظني، وسلّمتها لي وعيونها حزينة تبكي بدموع تواريها كبرياء وكرامة، نظرت في الصفحة البيضاء - أقصد التي كانت بيضاء -  نظرت في الخطوط والألوان والكلمات المتشابكة ولم أعرفني ، بحثتُ عن خطوط سميرة وكلماتها ، وجدت انكسارًا على الطرف الأسفل للورقة ، انكسارًا شاحبًا بلون القهر، فعرفتُ أن سميرة تركت بصمتَها على ورقتي ورحلتْ ، كدتُ أطوي الورقة أو أمزقها ، لكن الحاجّة منصفة تركت لي ابتسامتها وبعض الفخر على السطر الأعلى  في الصفحة فابتسمتُ رغمًا عني، وقررتُ أن أبقي الورقة علّني أُدرِك سِرها ، ابتسامة كريمة الساخرة رغم حزنها الدائم منعتني من أن أمزق الورقة، فقررتُ أن أحتفظ بها علَّني أفهم ذات يومٍ ما الذي دوّنَته الأيام فيها ، قبضتُ على الورقة وحدّقت في صفحتها الممهورة بروح النسوة وبصماتهن وانتابَني حزن عميق ، حدّقت في الصفحة التي كانت بيضاءَ ومطلسَمة فلم اعرفني !!
هامش - الحاجّة منصفة
لم أزغرِد منذ سنين بعيدة، لكن سليمان ابني البِكري غرسَ جذر شجرته في أرضنا الخصبة، ورَفع رايته ومنح أباه واسم " الوهيب " ابنًا جميلا أسعدَني ميلادُه فرفعتُ صوتي الخفيض بالفرحة وأهازيجها ، سليمان نظرَ لي غير مصدق أن أُمّه الحاجّة منصفة الوقورة تزغرد ، لم أكترث باندهاشِه، فإذا لم أفرح اليومَ لأن حسن نوَّر حياتنا فمَتى أفرح؟؟ .. وأقيمت الأفراح والليالي المِلاح،  وحسن يا حسن يا خولي الجنينه يا حسن ....!
( 8 )
 " حضرتك !! "
آلو.. مساء الخير بشرى هانم ، مع حضرتك الدكتور حسن الوهيب، يا ترى حضرتك فاكراني؟ صمت قصير تهمس بعدَه ، طبعا يا دكتور ، أنا صديق الدكتور عبد الرحيم ، أيوه طبعا فاكره حضرتك ، أنا قلت اتطمن عليكي يا هانم ، متشكره حضرتك.
 قالت عبارتَها الأخيرة وصمتت طويلا ، كأنها تنهي المكالمة ، حضرتك!! كنت باستأذن يا هانم أزوركم في البيت اتطمن عليكي.  فاجأتني بصمت طويل أربَكني ، سأقول لها إلى اللقاء ، سأُنهي المكالمة ، وصَلني ردُّها على استئذاني خرسًا مهينًا ، قبل أن أنطق كلمة الوداع المعلّقة على طرف شفتي أتاني صوتها باردًا ، اتفضل يادكتور ، يناسب حضرتك الساعه السابعة يوم الجمعه يا هانم؟ أهلا وسهلا... وأنهيت المكالمة بسرعة !
ما هذه السخافة والفظاظة والبرود يا هانم؟ انتي ماتعرفيش مين اللي بيكلمك؟ انتي فاكره نفسك مين؟؟ أتشاجر معها في خيالي وأسبّها وأسب عجرفتها وبرودها وسخفها ...و سأمحو رقمها من تليفوني وأنساها تمامًا ... وما هذه العجرفة يا سيدتي؟ وأين كانت تلك العجرفة وعيناكِ الجميلتان تطاردانني وتناديانني وتلِح علىّ أن أطرق بابك؟؟ ... ونسيتها تمامًا أو هكذا قررتُ..
هامش - بشرى
سأتصل به وأعتذر له ، كنتُ سخيفة جدًا وقتَما اتصلَ بي أمس ، رددت عليه بطريقة فظةٍ باردة ، كنت متعَبة والصداع يفتك برأٍسي، ضغطي يتصاعد، متوحش يقبض على جمجمتي يحطمها، ما له هو بكل هذا؟؟ اتصل بي في وقت خاطيء وأنا في أشد حالات تعبي ، عجزت أن أرد عليه بطريقة مناسبة وبكلمات  لائقة، سأتصل به وأعتذر له عن طريقتي السخيفة في الكلام والرد  ، سأؤكد عليه أني أنتظره أن يشرفني في منزلي ، ٍسأقول له إنه تسعدني زيارته ، و تنوّر وتشرّف يا دكتور حسن ، أهلا وسهلا بيك في أي وقت ....
 ( 9 ) 
" سِري في بير "
ألقيت بدَني المنهَك على فراش جَدي وغفوت طويلا حتى مَر بقية النهار ، البيت مغلَق منذ سنوات طويلة ، لا أتردد عليه ولا أهتم به، ولا أكترث لحاله ولا أرعاه ، هذا المبنى المتهالك كان سراية الوهيب ورمزَ عزها وسطوتها في الزمن الذي مضى وانتهى ، وحين ماتت جَدتي دفنتها وأغلقت السراية ولم أعُد لها إلا اليوم ، الحق نسيتُها فلا شيء يربطني بها ، عدت لها اليوم غريبًا عن المكان والتاريخ  وعن نفسي وعن الحياة كلها ، عدت لسراية الوهيب فارًا من الحياة التي ظننتني اخترتها وأحببتها، عدت أبحث عن نفسي، عن حسن الذي كان يلهو في ممرات حديقتها طفلا بريئًا وعاد لها اليوم صفحةً ممزقة تبحث عن بقاياها لتفهم ما الذي كُتبَ على جبينها؟ وما الذي يخبئه القدَر له؟ وكيف ستكون الأيام؟!
رحّب بي الحاج الطوخي البستاني العجوز ترحيبًا قلِقًا وقتما وصلتُ، يتمنى أن  يسألني: إيه اللي حدفك علينا ؟؟ نبهتُ عليه أني لست هنا، ولم آتِ، والبيت ما يزال مغلقًا ، طمأنني الرجل  بتلقائية أن سِري في بير  ، سألني لو أرغب في طعام أو شراب أو خادمة لتنظيف البيت ، هززتُ رأسي نفيًا، وأكدت عليه ثانيًا أني لم آتِ، والبيت ما يزال مغلقًا ، ابتسم الرجل الهرم بخبثٍ لأنه يشاركني سِري الصغير، واختفى في الحديقة الواسعة يرعاها كما وعدَ الحاجّة منصفة  قبْل رحيلها ونسيَني ، أو هكذا ظننتُ !!
قضيت اليومَ نائمًا ، أتلظى على فراش جَدي بكوابيسَ تلاحقني وكأنها سافرت معي واختبئت تحت جلدي، وجهزت نفسها تداهمني وقتما أتصور أني فررت منها ، قضيت النهار كله مستلقيًا بين اليقظة والكوابيس، تمُر الدقائق بطيئة ، الظلام احتل سماء القرية وتسلل مِن نوافذ السرَايه وبين شقوق الجدران ، أحسست وحشةً وأنا ونفسي غريبانِ معتقلان بين جدران عتيقة وكأنها ستتهاوى فوق رأسي ، سأخرج من البيت وأسير حيثما تحملني قدماي ، قفزتُ من الفراش واغتسلت بماء بارد صديء معبق برائحة القِدَم والزمن الذي مضى ، ارتديت ملابسي  وخرجت من البوابة العتيقة ومشيت خطواتٍ بطيئةً صوبَ المجهول الذي لا أعرفه، ولا أعرف إلى أين ستحملني قدماي..!
هامش - سراية الوهيب
أخيرًا غادرَني ، دَفع بوابتي بتكاسل فأبت ألا ترهِق ساعديه، وثقلت فكأنه يدفع أحجارًا تغلق طريقه ، تلاهثت أنفاسه وأرهِق قبل أن يخطوَ خطوته الأولى خارج عتبتي ، يجر ساقيه فوق الأرض فيرسم طلاسمَ وألغازًا ويتعقد طريقه أكثر ، أخيرًا غادرَني،  وريث الوهيب وحامل اسمِه ، أخيرًا غادرَني بعد نهار ضجر قضيته أرقبه وهو يحارب أشباحًا وكوابيس فرارًا من قبضة حزنه ، أتصوره سيقفز من الفراش ويستل سيفَه ويحارب مِن أجل وجودِه ، لكنه كسول خامِل تحاربه الكوابيس فيبكي يرجوها أن تحل عن روحه ولا يحارب ولا يعافر من أجل نفَسٍ مطمئن يستنشقه ، أخيرًا غادرَني. تنفستُ بقوةٍ وعنف وكأني أطرد رائحته من رئتَي وألفظه كشوكةٍ جارحة من لحمي وروحي ، لا أعرفه ولا يعرفني ، يملك الجدرانَ لكنه لم يوشِمها بوجوده ، يملك الأرض لكن خطواته لم تترك أثرَها عليها ، غريبٌ يتعثر في خطواته بين جنباتي ، لم يعِش في حضني ولا ونَسي، ولم يحبني ولم أعرفه، هو آخر سلسال الوهيب وحفيد الجَد الأكبر، لكنه غريبٌ عني وعن السلسال كله ، عاش لنفسه غارقًا في ذاته فما استحق أن أحِبه ولا أن أرعاه ولا أن أتذكره  ، لم يغرس جذوره في الأرض فلم تثمِر ظلا يهوّن عليه قيظ رحلتِه ، غريبٌ دَفع البوابة العتيقة بلا شوق للقاء، وفَتح بالمفتاح الصديء بابي بلا مشاعر ، ألقى جسده على أول مقعد صادَفه فلم يحتضنه المقعد ولا رحبتْ به الأرائك، ولا هللت لوصوله الغُرَف ولا احتفت به ضحكات الحاجّة منصفة التي خبأتها بين شقوق الجدران رسالةَ حبٍ للأحبة والمشتاقين أهل البيت ومعنى وجودِه ، جميعنا صامت لا نكترث بوجوده ، انتظرناه طويلا يأتي ويرعانا بعدَ ما رحلت الجَدة الحنون ، لكن قَطع بيننا الوصلَ ولم يأتِ ، انتظرنا بحب حتي جفت مشاعرنا وماتت، وتبدلت أحاسيسنا حنقًا وغيظًا، ثم نسيناه فلم نعرفه وقتما اقتحمَ اليوم صمتنا وبوابتنا ، اليوم أتى غريبًا عنا ونحن غرباء عنه ، لا شيء مشترك بيننا، ولا ترحاب مِنا، ولا حنين منه، نحن بالنسبة له مجرد مكان أتى يختبيء فيه من نفسه وهو مجرد غريبٍ عابر مهما طالت إقامته لا نعرفه ، سيبقى في كهفه وكوابيسه وأشباحها بعض الوقت ويرحل بغير سلامٍ ولا وداع ولا شوق للقاء آخر ، سيقيم قدْرَ ما يقيم بين الجدران ويرحل وقتما يقرر ، لن نستبقيَه ولن نحمّله أشواقنا ولن نرجوه ليطيل الوجود ، سيقيم قدْرَ ما يقيم ويرحل وقتما يقرر غريبًا كان وسيظل ، لن تترك أنفاسه صمتها على النوافذ، ولا ضحكاته ستوشم جدراني بالحب، ولا دموع وحدته ستوجعني ، لن أنقذه من كوابيسه، ولن أوقظه إشفاقًا ورحمة، وسأترك الأشباح تنهش قلبَه الحجري ، غريبٌ هو هذا الحَسن ، أتاني مِن الغربة والبعد وسأتركه للغربة والبعد يرحل ، شجرة صبّار في أرض عفية لم تَطرح قَبلَه إلا ورودًا، فلن أسمع شكوى جروحه ووجعه ، ستطرده الأرض التي لا يعرفها ولم يقدّر قيمتها ، وكَم من شجرةٍ ضن عليها بالماء فقتلها العطش وتهاوت، وكَم من بيوت قتلَها الإهمال فتهدمت و.. مِن الأرض وللأرض نبدأ ونعود ... ارحلْ أيها الحَسن ، وحتى هذا الوقت ، لا أعرفك ولا تعرفني ولن نتعارف ، غرباء كنا وسنظل!!
( 10 )
" الولد يقش  "
تركَ السيارة أمام المحل ودلفَ من بوابته الزجاجيه مسرعًا ، منح فاطمة البائعة ابتسامةً ذات مغزى ، سيُغشَى عليها ، تعرفه وتعرف قدْره ومكانته ، لا تصدق أن الدكتور حسن وهيب الطبيب الشهير الذي يتمنى الكثيرون مجرد مصافحتِه يمنحها تلك الابتسامة ، فورسيزين ، أشار بإصبعه على الكعكة المفضّلة لديه، بصوتٍ مرتعش نصحَته أن يجرب الكعكة الحمراء ذات المذاق الجديد التي اشتهر بها المحل ، اتسعت ابتسامته وشكَرها على نصيحتها وصمم على اختياره ..
منحَ فاطمة بقشيشًا سخيًا، ومنحها بطاقته بالاسم والعنوان ورقم التليفون  ، همست غنِي عن التعريف يا دكتور ، قهقهَ بصوت ساطع وهمسَ بصوت رخيم ، ده رقم موبايلي لو احتجتي أي حاجه ما تتردديش تتصلي بيّا فورا ، ها هو يعمّر بندقيته بطلقةٍ استعدادًا لصيد الكروان الصغير فوق الشجرة العالية ، دَست فاطمة البقشيشَ والبطاقة في جيب فستانها والأرض تميد تحت قدميها، يكاد يُغشَى عليها، لا تصدق أن الدكتور حسن منحها هي رقم هاتفِه المحمول ... ودَّعَها مبتسمٍا ، لن يَطلب رقمها هذه المرة ، صدمتُها اليوم كبيرة وعليها أن تستوعبها ، المرة القادمة سيصدمها الصدمةَ الأكبر ويطلب تليفونيا ليطمئن عليها ، هكذا سيقول لها بنبرة وطريقةٍ موحية لا يُفهَم منها إلا ما يقصده!! و.... الولد يقُش !!!
خرجَ للسيارة، ورفع صوت الراديو يغني بصوتٍ عالٍ ، والكعكة في علبتها الأنيقة، والشريطة الستان الحمراء على المقعد بجواره في طريقه لصومعته التي يهرب إليها مع نفسه بعيدًا عن العالم الصاخب الذي يعيشه ، أغلق هاتفه حتي لا يزعجه احد لحظة أن يختلي بنفسه فرحًا مزهوًا ، الصافرات المتلاحقة التي ستجيب مَن يطلبه ستعني لهم جميعًا ان الطبيب المشهور يحارب الموت على منضدة غرفة العمليات، ويتعين ألا يزعجه أي كائن مَن كان حتى يخلع قناعه وقفازه والبالطو الأخضر ويشعل سيجارَه الفاخر احتفالا بنجاحه في العملية مثلما يفعل كل مرة ، نعم الصافرات المتلاحقة ستقول للجميع إنه مشغول عنهم جميعًا بمحاربة الموت، وهو في الحقيقة يحتفل مع نفسه ولنفسه بالحياة التي ينهل وسينهل منها كل ما يقوى عليه مِن مُتَع في بقية السنوات الطويلة  التي سيعيشها !!
وهابي بيرث داي يا حسن ، هابي بيرث داي !!
هامش - شيرين
أعرف أنها ليلة عيد ميلاده ، لكني لن أحتفل به ومعه ، لن أحجز  منضدة كبيرة في المطعم الأنيق ، لن أدعو أصدقاءه وصديقاتي ليحتفلوا به ومعه ، لن أذهب للكوافير لأصفِّف شَعري، ولن أمُر على الجواهرجي لأستلم أزرار القمصان التي حجزتُها له ، لن أفعل شيئًا من كل ما يتصورني سأفعله لأجله..
سأبقى في فراشي بكُحلي السائح وبقايا مكياج الأمس ، سأبقى في فراشي بشَعري المتطاير المتيبس بسبب مثبِّت الشَّعر الذي أَفرغ الكوافير الحِمار اسطوانتَه أمسِ فوق رأسي ، سأبقى في فراشي وسأغلق تليفوني ، لن أكلمه ولن أهنِّئه بعيد ميلاده ، لن أكلمه أساسًا ، سأبقى في فراشي مكتئبةً ملولة ، وربما أبتلِع وبسرعة حبَّتيْن من أقراصي المنوّمة علّني أغرق في النوم طيلة النهار ، ربما يأتي حسن في الحُلم لطيفًا مثلما تعرفتُ عليه في بداية علاقتنا السوداء ، ربما يأتيني مبتسمًا حنونًا بلا شراستِه المعتادة وسفالته السخيفة وانتقامه الدائم مِني ..
سأنام ، متعَبة أنا ، مرهَقة ، حزينة ، كنت أظنه الحُلمَ الذي سيتحقق لطيفًا مريحًا جميلا فإذا به الكابوس القاسي المتوحش الذي أعيشه كل لحظة في حياتي التعيسة ، لماذا يعاملني بتلك الطريقه المنحطة؟؟ سؤال يحيرني ، لكن ما يحيرني أكثر هو لماذا أقبَل منه تلك المعاملة؟ لماذا لا أصرخ في وجهه وأسبّه وألعنه؟ لماذا لا أشتمه وأمزق وسامته اللزجة بأظافري الطويلة؟  لماذا أقبَل أن يعاملني بهذا الاحتقار والتعالي وأصمت ولا أرد عليه ولا أضربه بكعب حذائي فوق رأسه؟ سأبتلع كل عُلبة الأقراص وأموت وأستريح  مِن حَسن وأيامه السوداء وأستريح منه ومن نفسي ؟!!
الدوار يفتك برأسي وغثيان يهاجمني فتكاد معدتي تقفز من فمي وكل ما حشوته فيها أمس من كحول ثقيل ومأكولات فاسدة ، الدوار يفتك برأسي ، الحق حَسن الذي يفتك برأسي ، علاقتنا الغريبة الصعبة تفتك برأسي وبي ، معاملته القاسية ورضوخي المهين يفتكان برأسي وبي ، لا بد أن أضع نهاية لتلك العلاقة " الزفت " وأفر مِن تحت سطوته وسيطرته ، لا بد أن أضع نهاية لتلك العلاقة وأنجو بنفسي من الدكتور المستبد حسن الوهيب !!!
لن أحتفل بعيد ميلاده، ولن أتظاهر بالفرحة بينما الحزن يتملكني والغضب أيضًا...
لن أحتفل بعيد ميلاده ولن أغني وأرقص بينما أنا أتمنى أن أضربَه وأسبّه ..
سأبتلع الأقراص وأنام وأغلق تليفوني ..... علّه يفتقدني ويبحث عني !
أضحكُ ضحكات هستيرية وبقايا الجملة الأخيرة تعيدني لصوابي ورُشدي وحقيقة مشاعري التي أفِر منها وأنكِرها !!!
يا كلبة انتي بتحبيه ، انتي كلبة وانتي بتحبيه، وانتي عارفه وهو عارف ، ليه بقي كل الكلام التخين الكذب اللي بتقوليه لنفسك ده؟ قومي قومي استعدي لحفلة عيد ميلاده ... وبجَد كلبة وبأكره نفسي لكن باحبّه ومقدرش أبعد عنه ولا استحمل بُعده عني ! كلبة كلبة  بجَد !!



نهاية الفصل الاول

ويتبع بالفصل الثاني 

تعويذة العشق والدموع ... الفصل الثاني

الفصل الثاني

هجروا الكلامَ الي الدموع
لأنهم وجَدوا البلاغةَ كلها في الأدمعِ ( 3 )




( 11 )
" كل الرجالة كدة !!  "
كنتُ صغيرًا جدًا لا أعرف لماذا تبكي أُمي رقية هانم الكشميري؟؟ اليومَ فهمتُ طبعًا ما الذي كان يُبكيها ولماذا أبدًا لم تكُف عن البكاء ، الحق فهمتُ قبل اليوم بسنوات بعيدة ، فهمتها لكني لم أتعاطف معها أبدًا ، يا سيدتي دموعك أفسدتْ حياتنا جميعًا ، أفسدت حياة أبي وحياتي، وطبعًا أفسدت حياتَكِ في المقام الأول ، ليتكِ أفلحتِ في أن تكُفي عن البكاء ونظرتِ للحياة نظرةً واقعية مختلفة ، كنتِ أنقذتينا جميعًا من الجنون الذي عشناه والحزنِ الأسود الذي عشتِه ...
آهٍ مِن دموعك يا أُمي العزيزة ، آه من دموعك ، آهٍ من بكائك يا حبيبتي ، آهٍ من بكائك ، كنتِ صغيرة لا تفهمين في أمور الدنيا شيئًا ، لو فهمتِ ما يحدث في العالم كله حولك ما بكيتِ وحرقتِ عينيك وقلبكِ بكل هذا الحزن !!
اليوم وقبلَه بسنوات بعيدة فهمتُ سبب بكائها، لكني أبدا لم أتعاطف معها ، بل ولُمتُها أيضا ، لُمتُها على كثرة الدموع والحزن والقهر الذي عاشته وعشناه جميعًا ، أظنها دموعها هي السبب الذي نفّرَ سليمانَ الوهيب  منها أكثر وأكثر وأطلق جناحيه للسماء الواسعة يحلق فيها خلف أسراب اليمام الفرحة في السماء الواسعة ، ربما لو تمالكت نفسها وسيطرت على أفكارها الشريرة وحزنها الأسود، وابتسمتْ في وجهه ومنحته حبها وحنانها ، ربما ، أقول ربما ، ربما أحَبها أكثر وأقترب منها واحتواها وأسعدها فعشنا جميعًا سعداء ، لكنها لم تفعل ، لم تبتسم ولم تكُف عن البكاء فاسودت حياته وحياتنا جميعًا...
أكره البكاءَ والدموع ، يذكرانني بأُمّي ، نَعم فأُمي هي إلهة البكاء في المجرة الشمسية، وهي التي بكت كما لم يبكِ غيرها ولا أكثر منها في الحياة كلها منذ بداية الخليقة وحتى اليوم مخلوق قَط ، بكت حد كرهتُ البكاءَ والدموع وحياتي كلها ...
ذكرياتي عن ليالي نحيبها الطويل تطاردني في يقظتي ونومي ، تطاردني في أشد لحظاتي سعادةً وتفسدها ، ذكرياتي عن ليالي نحيبها أفسدت طفولتي وما زالت تفسِد حياتي كلها ، كنتُ صغيرًا جدًا أُخبّيء رأسي تحت اللحاف وصوت نحيبها يلاحقني ويطاردني ويخيفيني ، كنت أتظاهر بالنوم أكثر وأكثر، ولا أتحرك من مكاني ولا أذهب لحجرتها ولا أسالها لماذا تبكي ، لو فعلتُ لسمعت مثل كل مرة بصوتها المرتعش أنها بخير،  وأنه علىّ العودة لفراشي  وإكمال نومي ، لو اقتحمتُ فقاعةَ حزنِها الأسود واقتربتُ منها خائفًا مرتاعًا أبحث عن طمأنينةٍ عجزتْ دائمًا عن أن تمنحها لي لرأيتُ دموعها المتلاحقة وعينيها الحمراوين وشاهدتها تصطنع ابتسامةً بائسة على وجهها المحتقن متصورةً أني سأطمئن بها ولا تعرف أنها ترعبني وتزيد مخاوفي ....
ليالٍ كثيرةٌ لم أتحرك من فراشي وتجاهلتُ نحيبها، وتجاهلتها تمامًا ، ها هي تبكي وتنتحب ، وسرعان ما سيعلو صوت أبي ينهرها ويتطاول عليها بألفاظ لا تليق به وبها ، ها هو صوته الهادر يحطم زجاج النوافذ ويتساقط من شرفة غرفته للشارع ليسمع سبابَه لها البوابُ وعمّال الجراج وصاحبة الكشك والغرباء، جميعهم يعرفون الآن  أن أبي الدكتور سليمان الوهيب يسبّ حرمَه المصون السيدة رقية الكشميري بألفاظ لا يقولها أولاد الأُسَر الراقية ولا ينطقونها أبدًا ، سيعرفون أنه يسبّها ويعرفون أنها تبكي ويعجزون مثلي تمامًا عن حل تلك المشكلة المزمِنة بين أبي وأمي ...
ذكريات ليالي نحيبها تطاردني حين يعود أبي قُبيل الفَجر مترنحًا سعيدًا يدندِن بأغانٍ ونغمات ممضوغة ، سيجدها ككُل ليلة تنتظره في فراشها غضبى تعيسة ، سيتجاهل دموعَها وغضبها وسيحاول أن يلاطفها علّ الليلة تمُر على خير ، لكنها لا تسمح له ولا لنفسها بأي خير ، ستدفعه بعيدًا عنها، وعيناها تطلقانِ شررًا أحمر ، سيغضب منها لأنها لا تقدّره ولا تحترمه و" تشوّح " في وجهه بذراعيها كالغَجر قليلي التربية ، ستقول له كعادتها إن قليلي التربية هُم مَن يعودون قُبيل الفَجر يترنحون سُكارَى وعلى وجوههم قُبُلات العاهرات الرخيصات، سينفجر أبي، يسبّها لقلة أدبها وسوء تربيتها ، ستبكي أكثر وأكثر ، سينفجر بينهما الشجار المعتاد، ويكسر صراخهما جدرانَ المنزل وقلبي ، أسأل نفسي دائمًا لماذا لا يتصرف بفطنة وذكاء ويعود مبكرًا بعض الليالي حتى لا تبكي؟ ولماذا لا تَقبل عودته متأخرًا وتتجاهل حزنها حتى لا يصرخ؟ لكن أيًا منهما لا يحقق أمنياتي وتبقى أسئلتي عبثية حمقاء لم أعرف لها إجابة وقتَها ولا اليوم....
سمعتُ أبي يقول لها كثيرًا وهو يتشاجر معها إنها السبب الذي نفّره من حياته ومن البيت، وإنه لولا أصله وحسَبه ونسَبه لطلَّقَها وأعادها لبيت أبيها ذليلةً كسيرة ، سمعتُه يقول لها إنه مثل كل الرجال لا يَفرق عنهم شيئًا ، لكنها متمردة لعينة لم تنكسر له ولم ترضخ لحياته مثل كل النساء ، قال لها الرجل لا يكتفي بامرأة واحده ولن يكتفي ، ومَن يدَّعي غير هذا كاذبٌ مدعٍ، وفي نفس الوقت كل الزوجات عاقلات يحتفظن بأسرار بيوتهن بين شفاهن ولا يفضحن أنفسهن ولا يفضحن أزواجهن ، كل الستات عاقله بتتخرس وتتعمي ولا كأنها شايفه ولاسامعه إلا انتي ، فتنكدي على نفسك وعلىّ وتبوّظي حياتنا كل يوم أكتر ، سمعته يقول لها هذه الكلمات مراتٍ ومرات ، وهي تَسمعه بلا ذكاء ولا تفهم ما يقوله لها، ولا تكترث به، ولا تكف عن البكاء، ولا تنصاع ولا تقبل...!
تمنيتُ كثيرًا أن أنصحها لتتعقل وتحتفظ بكرامتها مثلما نصحَتها جَدتي منصفة مرارًا وتكرارًا ، كانت تشكو لها أبي وانفلاتَه فنصحَتها جَدتي أن تتعقل وتحتفظ بكرامتها وتتجاهل ما تراه أمامَها كرامةً لحَسن وحيدك، خاصةً وإن الرجالة كلهم كده ، قصّت عليها جَدتي أن جَدي رضا الوهيب رأس العائلة والرجل الكُبّارة المحترَم كان مثل ابنِه ومثل جميع الرجال، وأنه أبدًا لم يكتفِ بها ولم يتوانَ عن إقامة العلاقات النسائية العابرة ولو مع الخادمة العوراء القبيحة، وأن جَدتي سيطرت عليه بتجاهلها لسلوكه واحترامِه بما يليق به وبمقامِه وأُسرتِه ومكانتِه الاجتماعية ، احترمَته حتى خجِل من نفسِه وكتَم على فُجرِه ماجورًا، وأبعده عن جدران منزلها وعاش محترمًا ومات محترمًا، هكذا قالت جَدتي العاقلة ...
قالت جَدتي الحاجّة منصفة لأُمي إن الزوجة العاقلة لا تُعيِّر زوجَها بفُجرِه ولا بتجرّؤِه عليها حتى يُخيّرها بين قبوله وبين تركِه فيضعها في مأزق لم تُعِدّ نفسَها له ، قالت لها إن كل الرجاله كده "زباله" وعلى النساء العاقلات بنات الأصول وصاحبات الحسَب والنسَب أن يحافِظن على بيوتهن ومكانتهن الاجتماعية، وأن يتجاهلن فراغة العِين وطفاسة الروح ودناءة القلب ، وإن الزوج مهما لَفّ وراح ودارَ سيعود لزوجته أُمّ أولاده آخر الليل وعليها أن تفتح له حضنها لتحتويه ولتستوعبه ولتبقيه أسيرها وأسير بيتِها وأولادها....
كل هذا وأكثر منه قالته جَدتي مرارًا وتكرارًا لأُمي، لكن أُمي لم تفلح أبدًا فيما أفلحت فيه جَدتي ولا غيرها من النساء العاقلات ، لم تفلح أبدًا فيما أفلحت فيه الأُخريات، ولم تحتوِ أبي ولم تفتح له حضنها، ولم تحافظ على بيتها، وفضحت نفسها وفضحتنا ولم تصمت ولم تتجاهل، وبكت وتشاجرت مع أبي حتى زأرَ متوحشًا كالمَجانين بدلا من مرة ألفًا ، أنا كده وان كان عاجبك ، ولم يكن يعجبها، لكنها لم تملك من أمر نفسها شيئًا فصمتت وانكسرت وبكت، وبكت ، ليتَها سمعتْ نصيحة جَدتي وتعقلت واحتفظت بكرامتها وتجاهلت فجورَه، لكان خشيَها وعمل حسابها وصان كرامتها،  لكنها لم تقوَ على النصيحة العاقلة ولم تنفذها أبدًا فمنحت زوجَها وبمنتهى الجبروت والقوة الحقَّ كل ليلة ليقاتلها ويصرعها وينتصر عليها ويجعلها تنام  باكيةً منبوذة وهو يلعن اليوم الذي تزوّجها فيه، ويلعن حياته معها كل ساعة وكل ثانية ، كل هذا أسمعه وأتجاهله، وأُحكِم اللحافَ فوق رأسي وكأنه ما يحدث لا يحدث ولا أعيشه ، كل هذا أعيشه دروسًا في الحياة التي سأعيشها ، أخطاء أتعلم ألا اكررها ، كل هذا أعيشه وكأنه لا يحدث ، وحين أستيقِظ صباحًا أبتسِم في وجهيْهِما وأُقبّل يدَه ووجنتيها بمنتهى الاحترام، وأتظاهر أني ابنٌ سعيد لأُسرة سعيدة....!
هامش -  سليمان الوهيب
سأفتح باب الشقة لتحاصرني نهنهات حرَمِي المصون السيدة رقية الكشميري ، أُفكر جِديًا كل ليلة وقتما أسمع نحيبها أن أخرج ثانية وأغلِق الباب الذي فتحتُه ولا أعود أبدا ، أفكر لكني لا أفعل ، أدخل المنزل وأتجول فيه بعض الوقت القصير، أُسيطر على غضبي الأحمق الذي تُفجره تلك الباكية في روحي ، أفتح باب الحجرة وأُلقي عليها تحية المساء ، أتجاهل دموعها وعينيها الحمروين والكُحل السائل على وجنتيها ، أتجاهل نظرات اللوم الغبية والعتاب الاخرس ، ألاطفها وكأني أحبها ، تتجاهلني ويزداد بكاؤها ، يزداد غضبي أكثر وأكثر ، أنفجِر فيها كمثل كل ليلة وألعن أباها واليومَ الأسود الذي انتقَتها أُمي لأتزوجها ، لماذا تبكين أيتها الغبية؟ لماذا أنتِ بالذات لا تكُفين عن البكاء ، كل النسوة قانعات راضيات صامتات صابرات، بل يرحِبن بأزواجهن وقتما يَعودون من سهراتهم، ويتجاهلن أحمر الشفاه على القمصان، ويحاولن بكل جهد أن يسعدنهم شاكراتٍ حامدات أن هذا الزوج وبعدما قضى وقته السعيد مع أخرى عاد لبيتها وأولادها وحضنها وفراشها ، كلهن شاكرات حامدات إلا أنتِ ، تبكين وتبكين، وتفسدين مزاجي، وتغضبينني فتلاقين ما تستحقينه وأكثر ، واللهِ  لولا حَسن لطلَّقتك وأعدتك لبيت أبيكِ وتزوجتُ أجمل منكِ ووأكثر حسَبًا ونسَبًا وأعقلَ، واثقًا أنها لن تستقبلني بدموع مثل دموعك، ولاعيون  حمراء مخيفة مثل عيونك، ولا حمق أرعن مثل حُمقك ، لكني لن أفعل هذا في حَسن، ولأجْله فقط أتحمل بكاءكِ وغباءك وأيامك السوداء ... وأفتحُ باب الشقة مبتسمًا، وصوت نحيبها يعلو ويعلو وأفكر أن أخرج ثانيةً ولا أعود ، أفكر ولا أفعل ... وأنام أحلم بالجميلة التي أسعدتني، ونحيب البومة يفسد أحلامي ويقظتي وحياتي كلها ...!
هامش - رقية الكشميري
أنا الضحية، وأنا التي تلومونها، أنا الضحية نعم، وأنا التي تلومونها بنظرة غاضبة ومشاعر حانقة وكأني أنا التي اعتديت عليكم وقهرتكم !!
 أنا الضحية يا حَسن، ورغم هذا أنت تضيق بي ولا تتعاطف معي ولا تفهمني، ولا تحاول أن ترفع الظلم عني ، دموعي توجعك وتتمنى أن تتخلص منها ومِني ، أمّا أبوك الذي ظلمَني وما يزال ، فأبدًا لا تلومه ، لماذا لا تلوم أباك يا حسن؟ لماذا لا تتشاجر معه؟ لماذا لا تحدّجه بتلك النظرة اللائمة التي تعذبني بها كلما شاهدتَ دموعي؟ لماذا لا تطالبه أن يحترمني ويحترم حبي ومشاعري؟ لماذا لا تطالبه أن يحترم الزوجية التي بيننا والبيت الذي نعيش فيه معًا ويحترمك؟ أنا الضحية يا حسن وليس أباك ، أبوك العابث اللاهي الذي يصاحِب الساقطاتِ العاهرات، ويأتي بروائحهن الكريهة لفراشي، وبقايا قُبُلاتِهن الرخيصة فوق جسده، وأسنانهن المشحوذة علامات زرقاء على ظهره ، أبوك العابث اللاهي الذي يغازل الخادماتِ والبائعات وزوجات أصدقائه وكلاب السكك ، يمنح كل واحدة منهن نظرة أفهمُها جيدًا ، نظرة فاحصة يبحث بها عن مكامن أنوثتِها التي تخبّئها بعيدًا عنه ، نظرة تتلصّص على ملابسها الداخلية ، نظرة تتلصّص على ما يخصها وتخبّئه ، يتعمد أن يكشف سترهن ويرسل لهن رسائل لا تخطئها أي أنثى ، نظرة نداء ، هو ينادي عليهن دائمًا ، بعضهن يستجبن والبعض الآخر يرفض ، البعض يستجيب ويقع معه في كمين الصياد، والبعض يفر وينقذ نفسه ، هذا أبوك، وهذا عبثه، وأولئك نساؤه اللاتي يلهو معهن ، أين أنا مِن كل هذا؟؟ أنا الزوجة التي يلومها الجميع لأنها تبكي غضبًا من زوجها لأنه لا يحترم مشاعرها ولا وجودها، يلومها الجميع لأنها لا تَصفح أو تتناسى ، لا تتجاهل أو تسامِح ، يلومها الجميع لأنها تدافع عن وجودها وكينونتها وحقها في حبيب لا تشاركه فيه بقية النسوة ولو على سبيل المزاح واللهو ، أنا الزوجة التي تزوجها أبوك لأنها حسيبة ونسيبة وتشرّفه ، أنا أُمّك ، أنا التي تستقبل ضيوفَه وتفتح بيتها لأهلِه وتضيّفهم بكرم واهتمام ، أنا الزوجة المَصون التي يعود زوجها العابث لحضنها آخر الليل ، عليها وقتَها أن تكتم أنفَها فلا تشُم رائحة العاهرات فوق جلدِه، وأن تفقأ عينيها فلا تريان سجحات أظافرهن فوق ظهره، وأن تقتل مشاعرها فلا تحترق غيرةً وغضبًا ، أنا المطلوب مني أن أحافظ على الرجل العابث وأعيده للبيت بابتسامة وكأنه لم يطعنّي في قلبي ألف مرة، ولم يتجاهل مشاعري وكرامتي ألف مرة ، ولو غضبتُ أو بكيت أو تذمرت يلومني الجميع؛ لأني لم أحافظ عليه، ولأني أفسدت حياته بالنكد والدموع، ولو سبَّني فأنا السبب؛ لأني أجبرته أن يسبّني، ولو رفع صوته علىّ فأنا الملومة؛ لأني أجبرته أن يصرخ وأرهقت أحباله الصوتية وحنجرته ، أنا الضحية يا حسن وأنت ابني أنا ، نَعم أنت ابنُ أبيك وسِره ، وحامِل اسمه ولقب العائلة ، لكنك ابني أنا، وكان يتعين عليك أن تتعاطف معي وتدافع عني وتمنعه من أن يقهرني ، لكنك مثله رجُل ، تجري في شرايينكم الغطرسة والتجبر والتكبر، وتراني مثلما سترى زوجتك وابنتَك، لسنا إلا أُطُرًا لازمة للحياة الاجتماعية الناجحة دون تذمرٍ أو شكوى ، أنت ابني يا حسن ، ابني أنا ، كنتُ أنتظرك ذات ليلة أن تأتيني لتأخذني في حضنك وتَعِدني أن تنهَر أباك وتنتقم لي منه ومِن عبثِه وتلاعُبِه بي ، لكنك أبدًا لم تأتِ ، بالعكس أوصدتَ عليك باب غرفتك وصمَمْتَ أُذُنيك وتجاهلتني؛ لأني - كما تقول جَدتك - نكدتُ على أبيك وعليك ، لماذا أقول لك كل هذا يا حسن؟ أقوله لك فقط لأُعرّفك أنك مثل أبيك ظالِم ، والذي يظلم أُمّه بتجاهلها وبتجاهل أحزانها لن يعز عليه الجميع ، يا ويلَ للجميع من قسوتك يا حسن وظلمِك ، أيها الظالم يا ابن الظالم ، يا ويلَ الجميع من قسوتك!  يا ويلَهم ....!!
 ( 12 )
" شوية توتر !! "
أخبرتني كريمة أن أرملة الدكتور رحيم وصلت للعيادة، وأنها في انتظاري خارج غرفة الكشف، أمرتُها أن تُدخِلها وبسرعة، رمقتني كريمة بنظرة فاحصة وكأنها تحاول أن تفهم ما لا تفهمه وأن تكتشف ما أُخفيه عنها كالعادة  ، دخلتْ بشرى الغرفة مشرقةً جميلة رغم ثوب الحداد وبقايا الحزن في نظرتها  ، أهلا وسهلا ، اتفضلي يا فندم ، خرجتُ مِن خلف مكتبي ورحبت بها وأجلستها على المقعد وجلست أمامَها ، خير مالك؟ ألف سلامه عليكي ، تشرح الأعراض التي تنتابها، والصداع الذي يحطم رأسها و.... لا أسمعها وأهز رأسي وكأني منتبِه لِما تقوله ، أتذكر مكالمتها التليفونية الأخيرة، تعتذر لي عن طريقتها في الحديث وأنها كانت متعَبة والصداع يحاصرها ، قلقتُ عليها وصمّمت أزورها في البيت لأكشف عليها وأقيس الضغط وأطمئن عليها ، أقسمتْ ألا أتعِب نفسي، وأنها ستأتيني العيادة ، أرسلتُ لها سائقي ليحضرها في الميعاد الذي اتفقنا عليه ، ونبّهتُ على كريمة أن تدخِلها لي فورَ وصولها، وأخبرتها أن تؤجل بقية المواعيد لانشغالي بعملية مفاجئة كما ستخبر المَرضي وهي تعتذر لهم ..
اتفضلي على سرير الكشف اشوفك ، وعدتُ في هذه اللحظة الطبيبَ الذي يتعين عليه أن يؤدي عمله بأمانةٍ وصِدق ، وعادت للحظاتٍ مريضتي التي أفحصها لأكتشف ما تعاني وما تشكو،  أغمضتْ عينيها على فراش الكشف وكأنها تهرب مني ، هكذا أحسستُ ، أغمضت عينيها وتركتني أسمع دقاتِ قلبها وأقيس نبضها وأدق ركبتها بمجسات التوتر والتهاب الأعصاب ، اتفضلي حضرتك ، انتي زي الفل ، شويه توتر  و دربكه بسيطه بسبب التوتر  وطبعا مفهوم ليه ، هزت رأسها توافقني وأضافت ، من يوم الوفاه وأنا الحقيقه ما بنامش خالص ... وقاطعتها إذ لا أرغب في أن أسمع حكايات حزنِها على رحيم ولا كيف يتملكها ذاك الحزن ، حضرتك كويسة جدا وما فيكيش أي حاجه ، شويه توتر  حتتخلصي منهم وبسرعه بس تسمعي كلامي. وابتسمت أنتظرها أن تسمع كلامي وتعِدني بطاعتي ، لكنها صمتت ولم تفعل!  
كتبتُ لها بعض الأدوية المخفِّفة للقلق والتوتر، وطلبتُ منها الانتظام عليها ومعاودتي بعد أسبوعين ، شكرتني وصممت أن تدعوني على فنجان قهوة في منزلها اعتذارًا عن المكالمة التليفونية السخيفة، وامتنانًا لرعايتي الطبية لها ، واتفقنا على يوم الجمعة القادم في السابعة مساء ..
سألتُ كريمة أن تأتيني بفنجان قهوة ، أحضرَته وفضولُها يقتلها ، ما لها الهانم؟؟ رفعتُ عيني بنظرة غاضبة تفهمها جيدًا ، ولا حاجه ، اقفلي الباب من فضلك وتقدروا تروحوا !!
أرتشفُ قهوتي وافكر فيها ، في بشرى أرملة رحيم صديق عمري، أبتسِم ساخرًا ، الله يرحمك يا رحيم ، وأتناساه وأفكر فيها، رائحة عطرها تحتل روحي والغرفةَ، وأنفاسها المتلاحقة توترًا وارتباكًا  تلفحني برحيقها، بشرى هانم، أنطِق اسمَها وكأني اُغنِّيه على نغمات مرِحة، جمال عينيها يلاحقني، وكفُّها الصغيرة التي استبقيتها في كفّي تلاطفني، وتمنيت أن تجري الأيام بسرعة ونلتقي ثانيةً يوم الجمعة القادم الذي تمنيتُه أن يأتي غدا!!
وابتسمَ الصياد القابع في الظلام متواريًا بعيدًا، ابتسَم الصياد المتربص بفريسته، فها هي اللعبة تبدأ ومِن جديد .... الولد يقُش!!
هامش - كريمة
خمسةَ عشرَ عامًا أعمل معه في عيادته ، لا أنكر أني أُعجِبت به منذ اللحظة الأولى التي وقعتْ عيني عليه حينما تقدمتُ وجِلةً مرتبِكة لشغل الوظيفة ، نبرات صوته الهادئه ، نظراته الذكية ، احتفاؤه بي وأنا مجرد متقدمة لوظيفةٍ تافهة في عيادته ، دِفء كفّه وقتما مدّها ليسلّم علىّ وأنا خائفة أتعثر في خطواتي وقتما دخلتُ عليه غرفته ، انتي كريمة؟ أيوه يا فندم ، أهلا يا ست كريمة ، وتحشرجَ صوتي وتاهت الكلمات، وجحظت عيني لا أصدق ما أراه بعيني !  لا أُنكِر أنه غزاني منذ وقعتْ عيني عليه، وأني  أُعجِبت به، لكني رددت نفسي لأرض الواقع وبسرعة خوفًا على الوظيفة وأكلِ العيش ، مَن أنا لأُعجَب به وهو الطبيب المشهور الكبير وأنا المسكينة الشقية التي طحنتها الدنيا وتتمنى الوظيفة ومرتّبها الثابت لتستريح وتحيا ...؟!!
أعترفُ أني أُعجِبت بالدكتور حسن، ومنذ اللحظة الأولى التي شاهدته فيها ، لكني عاقلة كما تصفني أُمي ، عاقلة وست العاقلات ، أنكرت الإعجاب ومشاعري وارتديت ثوب الموظفة  المجتهدة التي تنفذ أوامر مديرها وبدقة، واعتبرت حَسن الرجلَ الجميل الذي غزا روحي وقلبي مجرد حلمٍ ملوّن أسرقه رغم أنف الحياة القاسية وقتما أغفو، وفي الحقيقة والواقع رضيت بقربي منه ووظيفتي وراتبها السخي !
أعترف أن إعجابي به تحوّل وبسرعة لحبٍ جارف ، شيء في الدكتور حسن شدني إليه ، ليس شيئًا واحدًا بل أشياء كثيرة ، الحق أن ما عنده وأن سِره الغامض يشد كل النساء إليه ، تلك النظرة الحانية التي تذكّرك بقسوة الحياة عليك ، الابتسامة الحنون التي يمنحها لك بطيبة خاطر وبرقة ، الاهتمام التلقائي الذي يشعِرك بقيمتك عنده ، كل هذا جذبني إليه أكثر وأكثر ، أحببته ولا أجرؤ أن أُفصِح ولا أن أقول ، مَن أنا؟ ومَن هو لأُحِبه؟ هو نزوتي السرية المجنونة ، الرجُل الذي أستحِق أن أحلم به في نومي يشاركني لياليَّ وأمنياتي، وأحلم به في يقظتي رجُلاً وزوجًا وحبيبًا ، هو مجرد حلم جميل ومستحيل ويكفيني منه في الواقع ماهو ممكن ومتاح ، يكفيني أن أكون بقربِه أُنظِّم عمله ومواعيده وأُذكِّره بعيد ميلاد زوجته وضرورة زياره أُمِّه وشراء هدية لابنتِه يوم عيد ميلادها ، يكفيني هذا ويسعدني جدًا ، وكان الله بالسر عليمًا ..
ظننت أني أُحبه وسأحبه بلا أمل ، لكنه فتح لي باب الأمل على مصراعيه يوم ناداني في نهاية يوم عملٍ شاق وطلب مني أن أدلِّك كتِفَيه المرهَقتين ، سألني بنظرة موحية ونبرة شقية ، تعرفي؟ ، كدتُ أن أصرخ طبعًا أعرف وأتمنى ، سعدت وارتبكت وخِفت ، قال إنه متعَبٌ ويتمنى أن ينام ، قال إنه لا ينام في بيته لأنه لا يجد راحته هناك ولن يجدها ، قال إن الهانم تراه حسابًا في البنك وإطارًا اجتماعيًا تتباهَى به بين صديقاتها ، لا تعرفه ولا تشعر به، وإنه حاولَ معها كثيرًا وفشلَ وقبِلَ الهزيمة مِن أجل منة الله ، وأضاف هامسًا ، علشانها والله مستحمل كتير ، أُنصِتُ له ولا أَنطق ولا أَصدق أساسًا ما يقوله لي، ولا أعرف ما الذي يتعين عليه أن أرد به عليه ، ربنا يخليها لك يا دكتور ، هذا فقط ما عرفت  أن أقوله ! وأعود لخرسي وصمتي وارتباكي وخوفي.
أُدلِّك كتفَيه وجسدي يلتصق بجسده، وأصابعي تتحسس جِلده وعضلاتِه وعظامَه، وتغوص تحت أنسجته تبحث عن معاناة الألم لتزيحها ، يقترب مني أكثر وأكثر ، نبضات قلبه تتسارع تحت يدي ورائحة عطره تلتصق بأنفي وأطراف أصابعي ، أرتبِك أكثر وأكثر  ، يثني على أصابعي الرقيقة الحانية التي أزالت أوجاعه ، يزداد ارتباكي وأهمس تحت أمرك يا دكتور ، يسألني أن أُدلِّك فقراتِ رقبته ورأسه ، يقول إن أصابعي سحرية وكلها إحساس، وإنها أراحته، وإنه أدمَنَها ولن يستغني عنها، وبصوتٍ هامس أضاف "ولا عنك"!! هل ترنحتُ وقتما سمعت نبرة صوته وحنانها؟ هل تمنيت أن أقول له إني أحِبه ولا أقوى على بُعدِه وإني مش مصدقه نفسي!! تمنيت لكني لم أنطق ، أَغمَض عينيه ونام وسقطت رأسه للخلف في حضني، وكدت أن أبكي من الفرحة، ها هو الرجل الذي حلمتُ بقربِه يغفو  فعلا في حضني وأصابعي تدلِّك رقبته وتزيح أوجاعه وتريحه ... ولم أقُل له أبدًا إني أحِبه، لكنه فهمَ وعرَف وأدركَ وشَعر ، لم يقُل لي أبدًا إنه يحبني ، لكني تيقنت أنه يحتاجني ويحتاج وجودي، وأن تشنجات رقبته لا يريحها إلا لمساتي، ورأسه المتعبة لا تنام إلا في حضني وساعات راحته لا تكون إلا وهو غافٍ مطمئن في وجودي  والعيادة خالية إلا مِنا - نحن الاثنين - وفقط ....
هل تحبني يا دكتور حسن؟؟ سؤال تمنيت أن أسأله له، لكني أحسست أني لا أحتاج إجابته ، نَعم هو يحبني وإلا ما غفا في حضني وما استراح إلا بلمساتي ... وتصورت واهمةً أن الحياة ستمنحني بعض فرحتها ووجهها الجميل وأن حظي أخيرًا سيترك مساحاتِه السوداء ويتلون بالفرحة، وأن الدكتور حسن هو نصيبي الذي أَخفَته عني الدنيا مفاجأة سعيدة، أظنه أوهَمني أنني سأعيشه وأعيش المستحيلَ معه، أوهمني وقررتُ أن أصدقه وليذهب العالم كله للجحيم، وحين صدقتُ وآمنت ووثقت  وأعددت نفسي للفرحة ورحمةِ ربنا ذبَحَني بمنتهة القسوة وبلا أدنى مبالاة  وكأني حشرة سحقَها تحت حذائه بغفلة، وكأنه لا يراها ولا يقصد!!
ما كانش العشم يا دكتور ، عشر سنوات وأكثر مرت بعدما أدركت حقيقة ما بيننا ، أقصد ما ليس بيننا ، عشر سنوات بكيت فيها مئات بل آلاف المرات ، فكرت كل يوم بل كل لحظة أن  أترك العمل وأن أتركه وأختفي بعيدًا عنه وأنا أسبّه وألعنه وأهلَه كلهم وقسوتَه واليومَ الأسود الذي وقعتْ عيني عليه ،  ما كنش العشم يا دكتور ، تمنيت كل يوم من تلك السنوات العشر أن أقولها له وأرحل ، لكني لا أقوى أن أرحل ولا أقوى على غضبه ، ولم أقوَ أن أقولها له، ولم أقوَ ان أبتعد عنه ...
عشر سنوات أعمل في عيادته ، بليدة معذبة ، ضعيفة هشة ، لا أرحل ولا أصرخ فيه ولا أعاتبه، ولا حتى أُنقِذ ضحاياه من قسوته وكذبِه وزيفه ، وكأني أجلس على مقعد في صالة عرض سينمائي أتفرج على فيلم حزين ينتهي كل مرة بدموعي وأنا خرساء لا أنطق ولا أملك تغيير أحداث الفيلم ولا نهايته ، عشر سنوات تأتيه الضحايا مشرقاتٍ سعيدات مُقبِلات على الحياة والحب ويخرجن من باب غرفته كسيراتِ القلب والنفس والروح، وأنا خرساء وقت يأتين وخرساء وقت يرحلن، أرقب ابتسامته وألبوم ضحاياه الذي يضم إلى صفحاته كل فتره صورة واسمًا جديدًا !!
اليوم أتته فريسته الجديدة التي سيلهو بها ومعها ، أتته العصفورة التي سيلقي شِباكَه عليها ويوقعها ويخدعها ويسحقها ويكسر روحها ، أشفقت عليها وتمنيت لو حذرتها لتفر من كمينِه وقبلما ينطق لساني بحرف ، أتذكّر ما أعيشه وتمسُّكي بقربِه ووجع عذابه بدلا من رحيلي عنه وعذاب بُعدِه ، أتذكّر ما أعيشه وأسخر من نفسي وأوفر نصائحي وتحذيراتي لنفسي وأخرس..
اليوم أتته فريسته الجديدة، دخلت شِباكَه بقدميها ، رحب بها وطلب لها العصير البارد، وقدّم لها حبات الشوكولاته التي أوصاني بشرائها وأطال كشفَه عليها ومنحها منتهى اهتمامه ورعايته ، أراقبه وأفهم ما يفعله وسِحره الذي يلفها فيه ، أرملة الدكتور رحيم ، هكذا عرّفتني بنفسها ، حدّجتها بنظرة فاحصة وعرَفت أنها الموعودة ، وتمنيت لو طردتها من العيادة إشفاقًا عليها .. يكفيكِ حزنكِ على زوجك، أنتِ لا تستحقين حزنًا ووجعًا جديدًا، لكني لم أفعل، وبدأت القصة التي أعرفها وكل تفاصيلها وشكل نهايتها ، ها هي تدخل الباب بإرادتها ولن يطول انتظاري حتي تخرج من ذات الباب تداري دموعَها التي ستنهمر أمطارًا وقتما تنفرد بنفسها في المصعد !! بدأت القصة ، وها أنا أنتظر نهايتها المعروفة واثقةً أن كل شيء سيحدث مثلما حدثً ألف مرة، فقط لا أعرف ميعاد النهاية ، لكنها ستأتي، ستأتي كما أعرفها وكما شاهدتها مئات المرات ، ولن يطول انتظاري !!
( 13 )
" حكاية الدكتور حسن  "
أخرجتُ من حقيبتي زجاجة الويسكي الفاخرة التي لا تفارقني ، أخرجت كوبًا أنيقًا من دلسوار جَدتي ، أسقطت بعض قِطع الثلج وغمرتها بالويسكي وشربتها بسرعة ، في صحتك يا حسن في صحتك يا دنيا .. ومرة ثانية وثالثة .. وتراقصت الصور أمامي ومُحيت الكلمات ومعانيها وصارت همهماتٍ ممضوغة لا تشرح معنى ، ومرة رابعة وخامسة ... وأَضحَك ...
أَضحكُ وأَضحك والسراية القديمة تراقبني برعبٍ وكأني سأقفز من مقعدي وأهدم جدرانها ، أضحك وأضحك وأبحث عن كلمات طمأنينةٍ للسراية والجدران والنساء وقلبي فلا أجد ، أضحك وأضحك ، أعتلي خشبة المسرح وأحكي الحكاية ...
أبدأ العرضَ بلا جمهور ، أنا والشرفة، وكوب الويسكي والزجاجة الفارغة، وبقايا الثلج والجدران الفزعة، والأسقف المرتعشة وتاريخ العائلة، كل هذا معي على خشبة المسرح التي اعتليتُها ، أفتح الستار وأصرخ في الجمهور الوهمي الذي انصرفَ عن عرضي قبل بدايته ، أصرخ فيه وكأني غاضبٌ والحق أني لا أشعر بأي شيء إلا دبيبَ النمل تحت جِلدي، والطَّرَقات العنيفة التي تحطم رأسي والويسكي يفتك بي بلا رحمة ولا هوادة ، أفتح الستار وأبدأ العرض الذي لا أعرف نهايته ، أصرخ ، أيها البُلَداء، أيها الغرباء، أيها المحنّطون في جلودكم الخشنة، أيها الموتى وكأنكم أحياء، أنا حَسن الوهيب البطل والمؤلف والمُخرِج، أنا حسن الوهيب سأحكي الحكاية لنفسي في المقام الأول علّني أفهم ما الذي حدث وكيف عشته ولماذا، فإن سمعتموها مني فاعرفوا أني لم أقصد، وأني أيضا لا أكترث بكم ولا برأيكم في حكايتي ، والحكاية بدأت حين فررت من الجميع إلا نفسي التي أحتاجها وفقط لأفهمها وأفهم الحياة التي عشتها، وربما أعيشها، ويا لها من مهمة شاقة وصعبة وحمقاء ...
الحكاية بدأت أم انتهت؟ لم أعرف بعد ، لكني سأعرف طبعًا وأنتم أيضا ستعرفون ، هل أقص عليكم الحكاية من بدايتها أم من نهايتها؟ الأمر محيّر لكني سأعرف ، أنتم لن يفرق معكم من أين أحكي، فالأمر مُسَلٍ في جميع الأحوال ، أنا الذي يفرق معي طبعًا وعلىَّ أن أعرف الفَرقَ بين النقطتين، الفرق الذي أعيش حياتي بينهما ، نقطة البداية ونقطه النهاية، وما حدث بينهما وما سيحدث !!
وأترك خشبة المسرح الوهمي وأجري للشرفة ، أقلب زجاجة الويسكي الفارغة على شفتي ، أرتشف آخر قطراتها ، تُضيء كشافات الإضاءة العالية على خشبة المسرح وتَرفَع السماعات الضخمة صوتَها يدوّي في الليل الصامت ، أعود في منتصف الدائرة التي رسمها الضوء تلون وجهي وروحي بالشحوب المخيف ، أحكي للجمهور الوهمي حكايتي الغريبة ، أسأل نفسي وأسألكم ، ما الذي سيخسره الوجود لو لم أفهم شيئا وعشت مثل الملايين الذين لا يفهمون شيئا وسعداءَ وراضيين وشاكرين وحامدين؟؟ عشت ومتُّ مثلهم ومثلكم جميعًا لا أفهم شيئا ولا أكترث أساسًا ؟؟  أبحث عن إجابة هذا السؤال فلا أجدها ، فأضيفه لقائمة الأسئلة الصعبة التي يتعين علىّ العثور على إجاباتها قبلما يمر العمر  وينتهي فأموت لا أفهم ولم أفهم شيئًا ..!!
أيها المخدوعون الكاذبون المخادعون غير المكترثين ، انتبِهوا لعبثي ولعبي ولهوي ولا تصدقوني ، لن أحكي لكم قصتي الحقيقية ، ها أنا ذا أعترف أني سأضيف على الحقيقة بعض الرتوش وأمحو عنها بعض التفاصيل، كما أن هذه اللعبة التي ألعبها تستهويني ، فالغموض والغرابة وبعض الكذب أكثر امتاعًا من قصتي الحقيقية !!
سأحكي ما أرغب في أن أحكيه، ولكم أن تصدقوني أو لا تصدقوني ، هذا أيضًا لا يهمني ولا أكترث به ،  هذه هي حكايتي وتفاصيلها الغريبة غير المنطقية، وأنتم وشأنكم تصدقونها أو تكذبونها، ما يحلو لكم قرِّروه ، وأنا أيضًا سأقرر ما يحلو لي ..
تصفيق حاد ، تصفيق عالٍ ، صوت صفير يدوّي في أُذُني ، ترحيبٌ أَم استهجان؟ لا أعرف ولا أكترث ، ما أجملَ أن تصنع مسرحك وتكتب نَصك وتعبث بقدرك وتلهو  دون أن تَعبَأ بكل العقل حولك ، العقل أو اصطناع التعقل ، أيها الجمهور الوهمي الذي لا تتابعني لاتقُل لي إن ما أحكيه غير منطقي ، كل ما نعيشه غير منطقي ، المنطقي أننا نحيا حياة غير منطقية، وكل مِنا يمنطق حياته بالطريقة التي تريحه ، لا تَحكموا علىّ منذ البداية ولا تقرروا أن حكايتي غير منطقية ، هذه حكايتي ، حكاياتكم أنتم مَنطقوها كما ترغبون، واسمحوا لي في نفس الوقت أن أقرر أن حكاياتِكم أيضًا غير منطقية ، أُصفّق لكلماتي وأضحك وأضحك !!!
أيها البُلَهاء البُلَداء الأَسرَة المعتقلون في أُطُر رضا الوهيب وقواعد سليمان الوهيب ودموع رقية الكشميري وأكاذيبي ، مَن قال إن العالم الذي نعيشه يحكمه المنطق والعقل؟ لو أنه هكذا ما عشنا كل العبث الذي نعيشه ، العالم الذي نعيشه لا يحكمه إلا نحن ومعاييرنا الخاصة التي تُمنطِق غير المنطقي فنقرر في لحظة سلام مع النفس أن حياتنا منطقية جدًا ومائة فُل وعشرة !! هذه حكايتي كما أرغب أن أحكيها ، حكاية الدكتور حسن .. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته !!
تصفيقٌ حاد، وصفير عالٍ، وضحكات ودموع، وأَسقط على أرض الشرفة أو على خشبة المسرح أو في حضن منصفة ، أتهاوَى ولا أقوى على أن أُقيِم نفسي، وأقاوِم لأعيش ولو كاذبًا مراوغًا كما كنت ، لا أقوى على شيء إلا مواجهة نفسي لأفيق من الويسكي والأكاذيب والزيف والخديعة علّني أستردها للأبد أو أفقدها للأبد!! أطفِئوا الأنوار وأغلِقوا الستارة ، عرض الليلة انتهى، وانتظِروا عرضًا آخر غدًا !!
هامش - الحاجه منصفة
صفقتُ له بقوة ، أراه واقفًا على خشبة المسرح يؤدي منولوجًا مثل الذي برع فيه يوسف بك وهبي ، صفقتُ له بقوةٍ وتهيأتُ لسماع حكايات حفيدي وما الذي سينتقيه منها ليقصه عليكم ، أجلِس في الصف الأول من مسرحِه الوهمي ، وسأُصفق له كلما برعَ فيما يحكيه، وحين لا تصفقون له سأُصفق أنا وبشدة ، حفيدي وقُرة عيني وأتمنى سعادته ، فإذا كان ما يحكيه لكم سيسعده فأنا فرِحةٌ لفرحِه وسعيدةٌ لسعادته ، هو حُر يحكي لكم ما يشاء، وأنا حُرة أصفق له كيفما أشاء، وأنتم أحرار جدًا أيضًا ، في الحقيقة العالَم كله حُر.. أو هكذا يظن !!
صفِّقوا لحفيدي الدكتور حسن وهو يحكي لكم حكايتَه ، صفقوا له بقوة وأنصِتوا لحكايته واستمتعوا معنا بما يحكيه!! احكِ يا حسن،  أقصد احكِ يا دكتور حسن حكايتك احكٍ ...

نهاية الفصل الثاني

ويتبع بالفصل الثالث