الفصل العاشر والأخير
ما تبحث عنه يبحث عنك ( 9 )
( 53 )
"انتظريني "
ذاتَ
ليلةٍ قريبة يا حبيبة الفؤاد سأمنحكِ روحي كلها، وأكتب عليها اسمَكِ وحدَكِ، وأتطهر
من دَنَسي في حضنك، وأعترف لك بكل خطاياي واثقًا أنكِ ستغفرين لي كل هفواتي
وصغائري وجرائمي، واثقةً أن عشقكِ شفاني من كل أنانيتي وتكبُّري وتجبُّري، وأني
الذي طالما فررتُ منك أُقبِل اليوم إليكِ وعليكِ بكل الشوق واللهفة والوجد، متمنيًا
الوصل والقرب والوداد ، انتظريني يا حبيبتي حتي أبرأ من علتي وأشفَى من مرضي، وأعود
لك نقيًا مثلما ولدتني أُمي ، انتظريني ولا تغلقي أبوابك في وجهي ولا تقتليني، انتظريني .. انتظريني يا بشرى..!
وفتحتُ
عيني وأنا أبكي ودموعي تنهمر على وجهي ، مسحت دموعي خجلا وتجاهلت صوت مايسة يسألني
ما بك؟ وكأني ما زلت نائمًا تجاهلتها، وتجاهلت أسئلتها الملِحة، وابتلعت دموعي وأخرست
نحيبي، وتمنيت لو حلقت الآن وألقيت روحي في حضنها، واعتذرت لها وطلبت الصفح
والسماح والوصال ..
تمنيتُ
لو فرغ العالم إلا مِنا، ومحوت الذاكرة والذكريات إلا وجودها ورحلتي معها، ونسيت
غضبها مني ونسيت حزنها علىّ، وتصالحنا وتواصلنا وصارت الدنيا ولا أروع مما يكون، وأروع
من كل ما أتصوره وأحلم به وأتمناه ..
دموعي
تنساب على وجهي رغمًا عني ، ما بين اليقظة والنوم، والغضب والحرمان، تفور مشاعري
كحمم البركان تحرقني وأنا مكبّل بنفسي وجموحي، ودناءتي وعالمي الذي أكرهه وعاجز عن
تغييره .. أبكيتِني يا بشرى وأنا الذي كنت أظنني لا أعرف الدموع، أبكيتِني وفضحتِ
ضعفي الذي طالما ظننتني أبدًا لا أعاني منه ، أبكيتِني يا بشرى شوقًا .. فهل ترضيكِ
دموعي وهل تصفحين ؟؟ انتظريني ..انتظريني ...!
هامش - مايسة
أيقظَني
صوت نحيبِه ، سألته ما بك؟ فتظاهَر بالنوم ، يظنني غبيةً لا أفهم ما الذي يعانيه ،
امرأة تستعصي عليه ، هذا الرجل الذي أقنعني أبي بالزواج منه لأنه سيسعدني، فلم
يمنحني إلا التعاسة ، لا يؤثر فيه ولا يحزنه إلا امرأة تستعصي عليه ، تُهين جبروته
ورجولته المتضخمة بذاتها ، كيف تستعصي عليه فريسةٌ يتمنى اقتناصَها؟ وحين تسقط في
شِبَاكه سيدوسها تحت قدميه عقابًا لها لأنها أمِنتْ له ودخلت شِباكَه ، ينتحِب غضبًا
لأن أخرى تستعصي عليه فتقهره!!
أعلمُ
كل هذا وأفهمه، وأتظاهر أني لا أفهم شيئًا، وأعيش معه الحياة بتفاصيلها الممِلة
ولا أنفجر في وجهه أمزقه، ولا أمزق شرايين رقبتِه، ولا أصارحه بحقيقته التي أعلمها
جيدًا، ولا أقتل نفسي ..!
في
بداية حياتنا الزوجية كنت أظنه يحبني ، وكنت أظن علاقاتِه النسائية الكثيرة ماضٍ
وانتهى بعد زواجنا ، كنت أظن أنه أخلصَ لي وسلّمني قلبه، ومنحني حبه مثلما أخلصت
له وسلّمته حبي وقلبي، تجاهلت كثيرًا كل ما يحدث، وتعاملت معه باعتبارها شائعاتٍ
كاذبة من نسوةٍ حاقدات علىّ وعلى زواجي منه ، ليت أيًا من الحاقدات علىّ تتحمل
مثلي كل السم الذي قطَرَه الدكتور حسن في روحي حتى جدبت مثل الأرض الرملية ، كرهتُه
وكرهت نفسي ولم أعد حتى قادرة على الفرار منه ، منة الله توثِق قيدي في قدمِه ،
ليمسح بي أرض البارات التي يرتادها وساحاتِ الرقص التي يتقافز عليها ، منة الله
حكمتْ علىّ بالسجن الأبدي معه، وقبِلتُ ورضخت وتظاهرت بالسعاده فبغى وطغى، طاردتني
سُمعته الحقيرة واخترقت سمعي وبيتي وكأن الجميع يدفعني أن أواجهه بكل ما أُخِبئه
عنه، ويطالبني بموقف علني واضح يثأر لكرامتي المهدَرة في زيجتي التعيسة !!
لكنني
أُحِبه ، نَعم ، هذه لحظة الحقيقة القاسية التي أواجه نفسي بها ، أُحِبه ولا يقدّر
حبي ولا يبادلني حبّه ، هل تعرف الحبَّ يا حسن ؟؟ أم أن الحجر القابع في جوفك لم
ينبض بالحب؟ وجميعنا أنا وغيري من
النساء ضحاياك ؟ كلنا مجرد وقتٍ يضيع،
وزهو يتزايد، وفخر زائف بذاتك ، أحبه وأكره
نفسي لأني أحبه ، أحبه وأكره نفسي لأني عاجزة عن البعد عنه والاستغناء عن فتات
الحياة التي يلقيها لي واهمًا أنها ترضيني وتسعدني !!
لماذا
أُحِبه؟ ولماذا لا يحبني؟ لماذا لا تحبني يا حسن ؟؟
( 54 )
"تتجوزيني ؟؟"
يومانِ
مَرا منذ مكالمتنا الأخيرة ، تركتها لتهدأ وتركتني لأتمالك نفسي ، سأحمل لها باقةَ
زنبق كبيرة ، بل باقة قرنفلٍ حمراء كما تحب ، سأطرق بابها وأسألها هل تتزوجينني؟
سأتجاهل كل ما قالته في لحظه يأسٍ وحَيرة ، كأني لم أسمع وكأنها لم تقُل ، سأقول
لها حان وقت سعادتنا يا حبيبتي !!
سأتشاجر
معها ، أقول لها طلبتُ منكِ الزواج كثيرًا ، اعتبرتِه لعبةً وضحكتِ وضحكتِ ، اليوم
لا ألعب ولا أضحك ، اليوم أتكلم بمنتهى الجدية ، تتجوزيني؟؟
أقود
سيارتي في طريقي لبيتها، والأفكار تتلاحق في رأسي منذ اللحظة الأولى التي شاهدتها
وحتى مكالمتنا التليفونية الأخيرة، كل شيء يأتيني بكل تفاصيله وكأني أعيشه مرة أخرى
وعاشرة!
والطريق
لبيتها طويل، والشوارع مزدحمة، وأنا صامت مصمّم على الفوز بها، وكفى ما بي من تعب
العمر كله ....!
تتجوزيني
؟؟ سؤال طاردني كثيرًا لأصرخ
به في وجهها ، لألقيه مِن فوق كتفي حِملا موجعًا لحضنها الموصَد في وجهي ، سؤال
طاردني كثيرًا في كل لحظة أحسست احتياجًا جارفًا لحنانها، وتمنيت لو ألقيت روحي في
حضنها لتصالحني على الحياة التي لم تفلح أن تصالحني ، في كل لحظة شعرتُ بالنقص
بعيدًا عنها وكأن اكتمالي بها ومن اجلها ، في كل لحظة تمنيت لو أقبض على كفها ولا
أتركه ، بل أسلّمها كفي وروحي لتقودني في لجج الحياة العطنة وتنتشلني من قاذرواتها
وتنقذني من الغرق فيها ، في كل لحظه أستيقظ من نومي واسمُها على شفتي يناديها
لترأف بحالي مما أعيشه، ولا أمنح نفسي غيره ، تتجوزيني ؟؟
سؤالٌ
أَلَح علىّ دائمًا منذ منحتني تلك النظرة الحزينة الحانية في اللحظة الأولى التي
وقعتْ عليها عيني ، لماذا لم أتزوج تلك السيدة وأمنحها اسمي وأطفالي؟ وتمنحني عمرها
وسعادتي؟ لماذا لم أتزوجها؟ لماذا لم أصادفها قبل أن تقع عينها على أي رجلٍ سواي فأفيض
عليها من قلبي بما يوصد قلبها في وجه كل رجال العالم؟ ولكي لا ترى غيري رَجلَها
وحبيبَها وحاضرها ووجودها ...؟
تتجوزيني؟؟ سؤالٌ يلِح علىّ كثيرًا منذ اللحظة الأولى التي وقعتْ
عليها عيني ، خِفت منه وجُبنت أسأله ، خِفت أفقِدها لو تجرأت عليها واقتحمتُ
عالمها الذي لا أتمنى ألا أُصبِح سيده وسيدها وتاج رأسها وحبيب عمرها ، سؤال حيرني
وأضناني وخفت منه خوفي فقدانها ، وعندما قويت عليه ووجهته لها لم أكن أتوقع إجابته،
وهل ستحلّق فرِحةً في السماء؟ أم ستطردني من منزلها؟ ملامحها لا تمنحني أي طمأنينة
، في نفس الوقت لا تخيفني ، ملامحها مثلها غامضة شجية لا تقول إلا ما ترغب في قوله
..!
تتجوزيني؟؟ طوالَ عامين أنتظر وقتًا مناسبًا لأطلب منها بل لأرجوها
أن تحقق لي أمنيتي التي طالما طاردتني، وحيرتني، وعذبتني، وأوجعتني ، أنتظِر وقتًا
مناسبًا لا يأتي، وحين أتى كنت وجِلا خائفًا أسألها فترفضني وتطردني من جنتِها،
وتخرجني من حياتها.
عامانِ
أقتربُ منها وتقترب مني ، تدفئني وأؤنسها ، توصِل روحَها بروحي فنكتمل ونتكامل ،
عامان أُهدهِدها وأتحمل غضبها وأسئلتها الحائرة وهي ترتِّق جروح روحي وتغزل
بطيبتها وحنانها ملامحَ جديدة لي ولحياتي ، عامانِ أتمناها لأخلع عنها ثوب الحداد
وأُزيّنها بثوب فرحي؛ فالحداد لم يُخلق لكِ يا جميلة، والحزن لا يليق بعينيك
الساطعتين ، تتجوزيني ؟
عامانِ،
أَطرُق على بابك فتفتحين مرتابة ، وأهدم في أسوارك فتبنين في لحظة ما هدمتُه في
دهر ، وأقترب منكِ فتبعدين ، وأفتح لكِ دروبي لتصاحبيني فيها فتتعثر خطواتك ترددًا
وتفكيرًا، وخوفًا وعزوفًا ...!!
يا سيدةَ
قلبي وكل الروح هل تتزوجينني ؟ ما لكِ صامتة وكأنكِ لم تفرحي بطلبي؟ وكأنكِ لم
تسعدي بكلماتي؟ وكأنكِ لم تكترثي بما أقول؟ ولم تنتظريه مني طويلا؟ ما لكِ صامتة
وكأنكِ تحتاجين وقتًا لتجيبيني بالرفض أو القبول؟ وكأنكِ تُجهزين أسبابكِ لتقتليني
أو تمنحيني الحياة وخلودها؟ يا حبيبتي ، واثق أنكِ حبيبتي ، بل أنتِ الحب الذي
تصورته وهمًا فأكدتِ لي جهلي، وأنه الحقيقة الوحيدة الجميلة التي لم أكن أعرفها ،
يا حبيبتي أنتظر إجابتك ، بل ينتظر قلبي إجابتك لينبض أو يكف عن الخفقان ، أنتظر إجابتك
فلا تقتليني انتظارًا ، أكرهُ الصمتَ والتفكير والتردد ، فرصةٌ واتتَكِ فاقتنصيها
ولا تضيعيها ، ألا تعرفينني؟ أنا الرجل الذي تجري وراءه النسوةُ وهو لم يَجرِ إلا
خلفكِ ، أنا الرجل الذي تتبعثر الابتساماتُ والقبلات في طريقه فلم يبتسم إلا في حضرتك ووجودك، ولم يتمنَّ
إلا أن يقبِّلك ويموت هانئًا ، تتجوزيني ؟
هامش - بشرى
أتاني
بباقة قرنفلٍ حمراء وابتسامة وكأني لم أقُل له شيئًا ، جلس وطلب قهوته وابتسم،
وسألني الزواج، وقال إن خاتمي عليه اسمُه في جيبِه، وحان الوقت السعيد لنعيش
حياتنا التي لم نعِشها! قلبي تبعثرت دقاته
فرحًا وحزنًا، لكني لم أوافقه ولم أرفضه ، قلت كلماتي التي أُحسها ، احنا
اتقابلنا في الوقت الغلط !! رفع حاجبيه دهشةً وسألني وامتي الوقت الصح ؟؟
قلت له الوقت المناسب الصحيح مضى ولم نلتقِ فيه ، ضحك وكأنه يسخر من كلماتي ، لكنه
يعرف قدْر صحتِها وصدقها ...
كنت أتمنى
أن أقابلك في وقت مختلف ، لا أستشعر ذنبًا وأنا أحِبك، ولا أحِسُّني مجرمة، ولا أُحِسك
خائنًا ولا كاذبًا ، كنت أتمنى أن أقابلك في وقت مختلف لأعيش معك الأحلام التي
ادخرتهاـ فإذا بي ادخرتها لوقت لم يأتِ ولن يأتي ، نتزوج؟ وماذا بعد؟؟ ماذا ستقول
لزوجتك وابنتك؟ وكيف سيرونني ويرونك؟ وهل نستحق سبابهما ولعناتهما؟ هل نستحق غضبهما
وكراهيتهما ونحن لم نبحث إلا عن سعادتنا؟ نتزوج؟ وماذا بعد ؟؟ نخبيء زواجنا ونعيش
متواريين خائفيْن من كشف سرنا؟ مهدديْن بالآخرين ونحن لا نفعل ما نستحق عليه اللوم
ولا منه الغضب ؟؟ نتزوج ولا نفكر إلا في أنفسنا وسعادتنا ونسحق الآخرين الآبرياء
الذين كل حظهم التعس أننا دخلنا حياتهم فأفسدناها؟ لا نتزوج ونبقى تعساء، لا نعيش
ولا نسعد لأننا نقدّر الآخرين ونعمل حسابهم ؟؟ كل الأسئلة صعبة، وكل الإجابات أصعب!!
ألم أقل لك يا حسن ، احنا اتقابلنا في الوقت الغلط !!
هذا
حواري الداخلي الذي لم أقله له ولم أنطق به، سألني، تتجوزيني ، صمتُّ طويلا
فظنني أفكر ، ودَّعني بقبلةٍ صغيرة رقيقة على خدي وقال أنتظِر الميعاد الذي ستحددينه
لنفرح ونعيش ، ودّعتُه ودموعي معلّقةٌ ظنها دموعَ الفرح وهي دموع الحزن الذي تملَّكَني
بعد ما أدركتُ وتيقنت أن شيئًا لن يسعدني معه، وأنه الوقت الخاطيء الذي ظلمَنا،
وربما لو تقابلنا في وقت آخر وفي ظروفٍ آخرى، ربما كنا عشنا الحياةَ التي نستحقها،
ربما !!
( 55 )
"الهروب "
أسبوع
لم يتصل بي حسن ، يتصورني أفكر في عَرضِه ، يرسل لي بعض رسائله الرقيقة، ويبثني
حبه وأشواقه، ويؤكد لي أنه ينتظر ردي ، كنت أعرف الرد منذ اللحظة الأولى ، كنت أعرف
قسوته علىّ قبل قسوتِه عليه ، أعرف أنه أحبني بحق، وأني أحببته جدًا ، أعرف أن أرواحنا
تلاقت، والسعادة التي ظننا أننا لن نعثر عليها أتت لنا في وجودنا معًا ، أعرف أني
منحته الدفء، وأنه منحني الطمأنينة، وأننا جرّبنا معًا حنان العشق ووهج الغرام
ومعنى الفرحه التي يأسنا من العثور عليها ، أعرف كل هذا وأكثر، لكني أعرف أننا
التقينا في الوقت الخاطيء، وأن الزمان لا يعود ، وأبدًا لن يمنحنا الوقت الصحيح
الذي كان يتعين علينا أن نلتقي فيه قبل أن تتعقد ظروفنا وأحوالنا، مثلما عشناها وأوجعتنا،
وقست علينا ومزقت أرواحنا وقلوبنا ....
أسبوع
لم يتصل بي حسن، كنت أعد نفسي للسفر لشقيقي في كندا ولم أُخبِره، أفِر منه وأهرب
من عشقه، وأبعد عن قلبه وطمأنينة روحي معه ، كنت أهرب من أحلامي الصغيرة التي
تمنيت أن أحققها معه ، كنت أفر من قسوة الظروف التي ظلمتني وظلمته، لكني لا أملك أمام
قسوتها إ‘لا الهروب منه ومن أحلامي ... أغلقت تليفوني المحمول، وسافرت دون أن أخبره،
ودونما وداع، قبل أن أغلق التليفون أرسلت له رسالة أرفض عَرضه للزواج وأخبره أني أحبه،
وكنت أتمنى أن أقابله في الوقت الصحيح ، لكنه مَر وفات، ولم يَبقَ لنا إلا أن نفترق،
وأن يحاول كل مِنا أن يعيش حياته .. وربنا يقدّرنا !!
هامش - حسن
فقدتُ
عقلي وصوابي، فقدتُ اتزاني ورزانتي، فقدتُ نفسي، جُننت بحق وليس مجرد وصفٍ مجازي
ولا مبالغة زائفة ، اتصلت بها ألف مرة ، بل ألف ألف مرة ، كل ثانيةٍ أتصل بها ، أكاد
أقذف التليفون جنونًا وغضبًا من صوت السيدة التي تخطرني برتابة وبرودٍ أن الرقم
الذي أتصِل به خارج نطاق الخدمة ، أكاد أحطم التليفون، وقبل ما ألقيه في الهواء أو
أدهسه تحت قدمي ينتابني أمل أحمق أنها ستردّ علىّ في المحاولة القادمة ، لكن
المحاولة القادمة والتي بعدَها وألف مرة بعدَها يأتيني صوت السيدة التي سببتها وأهلَها
وأباها وكل تاريخها ، يأتيني صوتها أن الرقم الذي أتصِل به خارج نطاق الخدمة !!
وصلتني
رسالتها وجاءني ردها ، أفقداني صوابي وعقلي ، قررتُ أن أقتحم منزلها وأتشبث بها، وأعِدها
أن أُسِعدها، وأن هذا الوقت الذي التقينا فيه هو الوقت الصحيح لنا، وظروفنا تسمح أن
نكسر العالم كله من أجل بقائنا معًا ، سأتشاجر معها وأصرخ في وجهها وأُصمم أن نتزوج،
وأطلب أُمها لتأتي، وأشقاءها ليباركوا زواجنا.
أخذتُ
سيارتي وانطلقت في شوارع المدينة كالمجنون ، أطرق باب شقتها بعنف أكاد أكسره ،
ينتابني جموحٌ نزِق بأنها تختبيء مني خلف الباب ، أهمس وأناديها لتفتح الباب ، أعِدها
أني سأشرح لك كل شيء ، أهمس للباب بحُبٍ وكأنها تسمعني، أرجوها أن تفتح .. لكن
الباب أصمّ لا يسمعني، والبيت خاوٍ، وجنوني يزداد ويتصاعد، ودقات قلبي تتسارع، وأُحِس
روحي تنسحب من جسدي، وأني سأموت على بابها راجيًا متمنيًا علّها تسامحني .. لكني
لا أموت ولا أعثر عليها !!
أرجوكِ
يا بشرى .. أرجوكِ لا تغلقي في وجهي أبواب
الحياة ، أعرف أني لا أستحقك، لكنكِ تستحقين حبي ، أرجوكِ يا بشرى .. أرجوك ... وأتصِل
برقمها مرةً وعشرًا وألفًا ولا مجيب إلا صوت السيدة الملعونة "خارج نطاق الخدمة" ، "خارج
نطاق الخدمة"!!! وسرعان ما عرَفت أنها سافرت خارج مصر، ولم تترك لي عنوانًا
ولا وسيلة اتصال، وأنها أغلقتْ في وجهي أبواب الحياة والرحمة!!
( 56 )
" مالك ؟؟ "
لا أرغب
في العمل ولا الحياة ، وجهي الشاحب يفضحني ، غضبي وعصبيتي يوشيان بي للجميع أني في
حالة غير معتادة، وأني كالقنبلة على وشك الانفجار في وجه الجميع ، في البيت تشاجرت
مع مايسة وهي تلاحقني بأسئلتها الغبية عما بي، وما الذي يضايقني، ما لك؟ ما لك؟
ما لك؟، صرخت فيها ، ايه ما فيش غير مالك ؟؟ سببتُها والأيام السوداء
التي أعيشها معها ، أشفقتُ عليها من غضبي وجنوني ، أشفقت على نفسي من غبائها ، تشاجرت
معها وأغلقت على نفسي غرفة المكتب ، بعثرت كروت اللعب في الهواء وكدت أمزق كروت
البنات التي طالما تباهيت باللعب بهن ، هدأت نفسي وقررت أن أنزل من البيت ، اعتذرت
لمايسة وقلت لها إن ظروف العمل سيئة ، أظنها صدقتني أو قررت أن تصدقني، ودَعت لي
براحة البال ..
رننتُ
الجرس على شيرين، فتحتْ شعثاء الشعر، حمراء العينين، انفجرتُ في الضحك كالمجانين
من شكلها المخيف ، ألقيت جسدي على الفراش وطلبت منها أن تغلق باب الحجرة ولا تَدخل
عليّ ، سألتني ما لك؟ انفجرتُ في الضحك أُحِسني تعِس الحظ، لا أحد يفهمني
ولن ، انفجرت في الضحك وسببتُها وغباءَها، وقلت لها انتي مالكيش دعوه ما لي ، يلا
اطلعي بره الاوضه ، وأغلقت الباب علىّ وهي فزِعة وكأنها لا تعرفني ، لم أنم
لكني أغمضت عيني بشدة وتمنيت أن هرب من الحياة كلها ، تمنيت أن أموت ، سافرتْ بشرى
ولا أعرف مكانها ، رفضتْ عَرضي بالزواج وهربت مني ، أتذكرها فأبتسِم وكأنها أمامي،
وتجتاحني موجات دفء وكأن أنفاسها في روحي ، أعاتبها فلا تسمعني ، تطرق شيرين البابَ
تسالني عايز حاجه ؟؟ أنتفِض غاضبًا وأُحِس الحياة مثل ثقب الإبره لا مكان
لي فيه ، لن أتحمل أسئلتها وزنَّها، ولا إلحاح مايسة وغباءها، ولا فزع فاطمة
وخوفها، ولا ملاحقة كريمة وعتابها ، لن أتحمل تلك الحياة التي كنت أظنني أعيشها
سعيدًا فإذا بها منتهى تعاستي، قفزت من الفراش وسرعان ما خرجت من شقه شيرين أبحث
عن هواء أتنفسه، وأنا في الشقة مختنق وكأن وجودها الكريه على روحي وقتَها يقبض على
روحي ويميتني ..!
في
العيادة أمرتُ كريمة ألا تسألني ما لي، وانتي مالكيش دعوه مالي، صرختُ فيها
إني مش ناقص قرف وزَنّ، وقررت أن أترك كل الحياة خلفي وأنفرد بنفسي مع نفسي،
سأترك العالم كله خلفي، أحتاج لـ حَسن ليحل مشاكله مع حَسن ومع الدنيا كلها ، سأرحل
من البيت وأعتذر للمَرضَى وأؤجّل العمليات وأغيب بعض الوقت الذي لا أعرف قدْره ، أسبوع
أو سَنة أو لآخر الدهر ، سأنفرد بنفسي لأفهم ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ وقتَها ، بعدَها
، إمّا أن أعود للعالم الذي أفر منه الآن ، أَقبَله ، أغيّره ، وإمّا ألا أعود أبدًا
، الآن عاجزٌ عن تصوّر كيف سأكون، ووكيف سيكون العالم كله ، كل ما أعرفه أني أرغب
في الرحيل والعزلة ، فليكن الرحيل والعزلة مع حَسن ولأجْلِه..!!
( 57 )
" سأعتذر لهم !!"
سأدعوهم
جميعًا للعرض الأخير ، أعددت شرفة السراية مسرحًا ورتّبت المقاعد المريحة
للمتفرجين ، طلبت من الأشجار والنخيل أن يصمتا وقتما أتحدث وأحكي، ووعدوني بالصمت
، طلبت من الكروان ألا ينوح طوال فترة العرض؛ فالحزن فيه يكفي ويفيض فتمردَ علىّ
وقرر أنه سينوح ويشكو لله ظلمي وقتما يرغب، ولن أقوى أن أخرِسه ، تحممتُ وتعطرت
وارتديت بذلتي الأنيقة، وألقيت على كتفي عباءة جَدي الموشاةَ بالقصب، وأمسكت عصاه
الأبنوس وتهيأتُ للعرض الأخير ...
سأدعوهم
جميعًا علّني أُشفَى وأبرأ من وجعي ونوحي ، سأدعو كريمة وفاطمة ، سأدعو سميرة
ونبيلة ، سأدعو شيرين ، سأدعو مايسة ، سأمنحهم مقاعدهن في الصف الأول ، سأدعو
سليمان الوهيب ورقية الكشميري ، جَدتي منصفة ستأتي ولو لم أدعُها فهي لا تفارقني،
وتحيطني برعايتها طيلة الوقت ، سأدعو الطوخي ورضا الوهيب ، سأدعوهم كلهم لمسرحيتي
الأخيرة ، أنا البطل ، أنا المؤلف والمُخرِج ، أنا المجرم والبريء ، أنا العاشق الآثِم
، أنا العابث اللاهي ، أنا الضحية والجاني ، أنا كل شيء وعكسه ، سأخلع ملابسي
وروحي أمامهم ، سأعترف بكل جرائمي وذنوبي ، سأعترف بكل خطاياي ، سأعتذر لهم جميعًا،
لا أطلب صفحًا ولا غفرانًا ، سأعتذر لهم جميعًا وأُغلِق الستار ، لا أنتظر تصفيقًا
ولا إعجابًا ولا تعاطفًا رقيقًا ، سأحكي لهم الحكاية كلها من بدايتها لنهايتها،
وفي المشهد الأخير سأعتذر لهم وأُغلِق الستار على الحياة القديمة التي عشتها وأبدأ
بدايتي الجديدة التي أتمناها ، سأسمع صوت قلبي وأسير خلفَه أبحث عنها وأطلب صفْحَها
ورضاها ، علّ الحياة تبدأ ثانية !!
هامش - حَسن
ما أصعبَ
أن تكون قاتلا وتَجمع جثثَ ضحاياك بوجعهم وبحزنهم، بدمائهم الساخنة، ببقايا الروح
المخنوقة وتعتذر لهم عن التلذذ بقتلهم! ما أصعبَ هذا وما أشَقه ، لكنه الثمن
الغالي الذي يتعين علىّ أن أدفعه لأغلق خلفي الحياةَ القديمة ولأتطهر بالألم علّ
الحياة الجديدة التي أتمناها ترأف بي وتبدأ، وأعود مِن برزخ الألم للعيش والحياة!!
أيتها
الجثث الدامية ، أنا القاتل المجرم ، أعتذر لكم جميعًا من إجرامي وعبثي بحياتكم،
ولا أنتظر منكم صفحًا ولا مغفرة ولا سماحًا ، وأتوقع أن تضربوني وتسبّوني، وربما
تقتلونني مرة وألف مرة ، حقكم ولا ألومكم فيه ، أتوقع أن تكرهوني وتحتقروني
وتبصقوا في وجهي مرة وألف مرة ، حقكم ولا ألومكم فيه ، لكنها الصفحة التي وشمت
بالطلاسم حيّرتني، توهتني، دللتني، أفسدتني، عذّبتني .. وحين فككتُ طلاسمها عدتُ
لنفسي وأدركت جُرم ما فعلتُه وضرورةَ فضحِه والاعتذار لكم، وها أنا ذا أعتذر لكم
عن كل شيء، عن جرائمي وسفالتي، وقسوتي ونذالتي، عن وجعكم .... وأطوي كل الصفحات
القديمة، وأُصالح نفسي على نفسها، وأتمنى لها الخير، لستُ واثقًا .. لكني أتمنى !!
وأستيقظُ
من النوم ونحيب النسوة يحاصرني، وأُقرر أن أغادر سراية الوهيب وأعود للقاهرة لأبحث عن حياتي الجديدة التي يتعين علىّ
أن أعيشها .. علّني أُفلِح في أن أعثر
فيها على بعض السعادة التي يستحقها حَسن ، أو تلك التي أتمنى أن يستحقها!!
( 58 )
أحلام صغيرة
هُنا
في الصقيع، والثلجُ الأبيض يحيطني في كل مكان ويحتل روحي ، هنا وأنا وحيدة أحترق
بالشوق للحب المستحيل والعشق القاهر ، هنا أُنقِّب في أحلامي الصغيرة البريئة أنتقي
منها أجملها وأعد نفسي أن أعيشه وأحققه في الوقت الصحيح !! أُذكِّر نفسي وأنا وحيدة
أنه في القلب دائمًا مَخبَأ، كهفًا، سردابًا، بئرًا نخبيء فيه الأحلام الصغيرة
التي نتمنى أن نعيشها، ونكتشف بسرعة أننا لن نقوى على أن نعيشها لأي سبب لا يقنعنا
بالتخلي عنها ، نتعايش مع الممكن ونَقبل بالمتاح ، لا نتذمر ولا نشكو ، لا نتمرد
ولا نغضب ، فقط نخبيء الأحلام في مكان آمِن علّ الأيامَ والظروف تمكننا يوما من أن
نعيشها ، وحتى لو لم نعِشها فوجودها سِر صغير، كنز ثمين، أمل قوي يساعدنا على تحمل
ما نعيشه ولو لم يعجبنا كله أو بعضه !!
وها
أنا ذا أخبِّيء أحلامي الصغيرة للأيام القادمة علّها تحمل لي بعض الفرحة وتحمل لي
فرصة أعيشها ، وحتى هذا اليوم أتعايش مع
الممكن، مع المتاح، مع الألم والوجع، وأتمنى تحقيق أجمل أحلامي، بل أكاد أثق أنها
ستتحقق !!
هامش - الحاجّة منصفة
لو
حنّيتي له ما تتكبريش ، حَسن طيب زيك ويمكن أطيب ، لو حنّيتي له ما تتكبريش وروحي
له برجليك ، قولي له انك حنيتي وانك لسه بتعشقيه ، عارفه ساعتها ، حيشيلك فوق راسه
وعمره ما ينسي جميلك ، أصل العشق مش مين يروح لمين ، العشق تكونوا مع بعض ، هو
النهارده يا بنتي يستاهلك وانتي تستاهليه، انتي طيبه وأصلك طيب، وتستاهلي الخير،
وحَسن اتبدل حاله والبَركه فيكِ ، خليتي قلبه نوّر، وخلتيه يسمع صوت قلبه ويمشي
وراه ويسلّم روحك ليكي ويستني تردي عليه ، لو حنيتي له ما تتكبريش ولا تعندي،
وروحي له واسعدي قلبه وقلبك ، إلا العمر يا بنتي ما بيتعاشي إلا مرة واحدة ، هو
جهز مَهرك وقال كل الغالي للغاليه، ما تكسريش نفسه وخاطره، ما تضنّيش عليك
بالسعادة، ولا تضنّي علي نفسك بالفرحه ، ولمّي الروح علي الروح وسهّلي الصعب ،
فهمتيني يا حبيبتي؟ لو حنيتي له ما تتكبريش !!
( 59 )
" سنلتقي ذات يوم "
عدة
سنوات مرت لا أذكر عددها تحديدًا، ولا أكترث بنسيانها منذ عدت من رحلتي الغريبة
للبحث عن نفسي ووجدتها ، رحلة مضنية سحقت كبريائي وغطرستي وعجرفتي ، سحقتني لأتطهر
من خطايا وذنوبٍ وأكاذيبَ وزيف وخديعة، وعبث الحياة التي عشتها وكرهتها ودفعت
الثمن الغالي لأطوي صفحاتِها وأفتح صفحه جديدة ربما أكثر سعادة، ربما أقل وجعًا ،
سحقتني لأعود لنفسي التي أُحِبها ..
تصورتْ جَدتي أني أتطهر مِن أجلها، ومن أجلها
فقط ، تصورتني جَدتي أتطهر من خطاياي وذنوبي من أجل بشرى فقط ، تصورتني سأعود لنفسي
الحقيرة التي نبذتها وقتما يئستُ من عودتها لحضني وحبي ، هكذا تصورت جَدتي ، لم أُجادلها
وقتَها وقلت لها الأيام بيننا ، لقد عدت لنفسي يا جَدتي، عدت لنفسي وصرت فخورًا
بها، وتخلصت من إرهاق الكذب وحقارة الخديعة، وصرت أعني ما أقوله ولا أعني له معنى آخر
، لقد صرت حَسن الذي أُحِبه يا جَدتي ، لا أُنكِر أنه من أجلها، لكنه أيضًا من أجلي
أنا، من أجل بشرى نَعم، لكن من أجل حسن الوهيب أيضًا !!
بعدما
عدت لنفسي بفتره قصيرة طلَّقتُ مايسة وتركتُ لها البيت والسيارة ومبلغًا ماليًا
كبيرًا، واعتذرت لها عن حياتها التي أفشلتُها بأنانيتي وكذبي، وعن كل ما عاشته معي
من غبنٍ وظلم ، انفجرتْ في البكاء وقالت إني لم أُحِبها أبدًا ، قبَّلتُ يديها
واعتذرت لها لأني فعلا لم أُحِبها أبدًا ، همستْ لكني كنت أُحِبك ، قبَّلتُ كفَّها
اعتذارًا وقلت لها إنها تستحق مَن يحبها ويسعدها ، بكيتُ إشفاقًا عليها مِن قسوتي،
وأوصيتها بمنة الله، وأخبرتها أني موجود دائمًا بجوارها أخًا وصديقًا لو قبِلتْ ،
قالت لن تَقبَل أبدًا ، كررتُ اعتذراي وقلت لها الأيام كفيلة أن تصلح ما أفسدَه
حسن الوهيب.
افترقتُ
عن شيرين بعدما عوضتُها عن كل ما سببته لها من ألم وإهانة ، سبَّتني وشتمتني وغضبت
مني وقالت إني ابن كلب طول عمري وما ليش امان ، ابتسمتُ بطيبة وقلت لها صحيح،
وتركتها مذهولة لا تصدقني ولا تصدق رد فعلي ، حاولتْ أن تتصل بي بعدها أكثر من مرة
، لم أرد عليها ومحوت رقمَها وطويت الصفحة تمامًا ..
دعوت
فاطمة للغداء ونصحتها ألا تُسلِم قلبها للعابثين مثلي، وقلت لها إنها مثل أختي
وابنتي وعليها تحافظ على نفسها، وإنها جميلة تستحق حياة جميلة مثلها ، بكت وضحكت
وقالت أنا كنت عارفه انه حلم وحيخلص ، أوصيتها خيرًا بنفسها وقلت إن الحلم
الحقيقي لا ينتهي، وستجده وتعيشه، ووقتها ستعرف أن ربها أَنقذَها من ظلمي وكذبي
وقسوتي ..
قبَّلتُ
رأس كريمة امتنانًا لكل ما قدمته لي من مشاعرَ صادقةٍ، وقلت لها إني لا ولم أستحقها،
وخيَّرتها بين البقاء في العمل أو الرحيل مكرّمةً معززة، فاختارت البقاءَ كشريكتي
في النجاح في العمل وقالت إن هذا يكفيها ...
ذهبتُ
للإسكندرية في الشتاء، ووقفت علي شاطيء البحر الرمادي، وتحممت برذاذه البارد،
واعتذرت لكل النساء والبنات والفتيات اللاتي عبثت بمشاعرهن وكذبت عليهن وتلاعبت
بقلوبهن ، قلت للبحر لو تعرف أسماءهن بلِّغهن اعتذاري، وإذا نسيتَ الأسماء مثلي ،
اطلبْ لي منهن الصفح ، وألقيت باقة قرنفلٍ أحمرَ في البحر العالي علَّ زهرةً منها
تعثر على ضحاياي فتصالحهن علي الأيام التي أفسدتُها بقسوتي واستهتاري، وتمنيت لو أن
بشرى كانت معي وهي تحب إسكندرية في الشتاء وتحِب القرنفل ، تمنيتها لو أنها كانت
معي تشهد على تطهري وأسفي واعتذاري ، لكنها لم تكن هناك ولا في أي مكان أعرفه ..
أزورأُمّي
كثيرًا، وأجلس معها وآخذها في حضني، وأتكلم
معها في أي شيء، وأسمع كل ما تقوله بحبٍ وعرفان ، تسألني عن قلبي الذي نوَّر فأضحك
وأقول لها نوّر يا رقية ولسه منوّر ، تضحك وتقول لي أكيد سليمان فرحان
بيك ، أضحك وأقول لها مش واثق!!
شكرت
نبيلة لرعايتها لأُمي، ففهمت بفطرتها أني أعتذر لها عن مضايقتي السابقة لها ، قالت
حمدًا لله على سلامتك يا دكتور ، كان شيطان وغار ، ابتسمتُ لها امتنانًا
وهمستُ غار فعلا !
مزقتُ
كروت اللعب التي عبثت بها كثيرًا بعدما التقطت إحدى أوراقها فإذا بها "الشايب"،
يشبهني وكأن هموم الحياة كلها تراكمت على كتفه ، ابتسمت وأعدته للعلبة وأنا أنصحه أن
يبحث عن نفسه علَّه يجدها فيعود شابًا عفيًا قادرًا على مواجهة الحياة وتحمُّلِها
!!
أخيرًا
عرَفتُ منة الله بعد سنواتٍ من ميلادها، لم أعرفها خلالها، وأحسستها ابنتي التي لم
أُعطِ روحي فرصة حبِّها ، أخيرًا عرَفتها، عيناها الساطعتان بالذكاء، ووجنتاها
المبتهجتان، وشفتاها المبتسمتان، جدائلها الطويلة، وشَعرها الأسود الداكن ، كل هذا
يفرحني ويخيفني ، جميلة وذكية ، تعالَ يا دكتور سليمان وشوف حفيدتك وتمنى لها
حظ سعيد وأسعد منا كلنا ، أسير معها في الشارع سعيدًا أحتضنها وكأنها حبيبتي،
بل هي حبيبتي وأعَز الحبايب ، أهرب أحيانًا من أسئلتها المحرِجة عن سبب طلاق أُمِّها
فتضحك وتقول أنا عارفه ليه، ولا تشرح لي ما تعرفه ، عرفتُ منة الله وعرَفتني
أخيرًا بعد طول غربة ، أشاركها أيامها ولعبَها المرِح، وأسمع حواديتها البريئة، وأَعِدها
أن أحكي لها حكاياتٍ كثيرة وقتما تكبر فتغضب مني وتقول إنها كبرت فعلا وانا
اللي مش واخد بالي ، جَدتي منصفة ترعاها معي وتوصيني عليها وتدعو لها بالحظ
السعيد في الحياة، وأن يكفيها ربي شر ولاد الحرام، فأهمس آمين .. آمين .. آمين
..
لم أقابل
بشرى للأسف مرة ثانية، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها، حاولتُ أن أصل إليها بعدما عدت من رحلتي للعثور على نفسي ،
حاولت أن أعثر عليها وأن أقص عليها رحلتي مع نفسي واكتشافي لها ومعاناتي حتي عدت
لنفسي ، حاولت أن أشرح لها قدْر ما فعلَته هي في حياتي، وطاقة النور التي منَحَتها
لي، وقلبي الذي أُنيرَ بحبِّها وعِشقها وطيبتها وبراءتها، لكني لم أعثر عليها للأسف
!!
لو
كنت عثرت عليها في أي وقت طيلةَ تلك السنوات الماضية ، كنت سأعترف لها بكل جرائمي
وخطاياي وأكاذيبي التي تعرفها والتي لا تعرفها ، كنت سأكشف لها روحي وجروحي وأُعرّفها
علي الرجل الذي صار رجلَها وهو حبيبها وعاشقها ، أُعرّفها عليه وعلي زلاته وأخطائه،
وأطالبها أن تَصفح عني وعن الماضي الذي تبدَّل لحاضر سنعيشه معًا أنا وهي بلا أكاذيبَ
ولا زيفٍ ولا خوف ، كنت سأعترف لها أن المشكله لم تكن مايسة التي تعرفها، بل كانت
المشكلة في انحطاطي الذي لم تعرفه، وفي النساء اللاتي عبثت بهن ومعهن ، كنت سأشكرها
على كل ما فعلته في حياتي ولو لم تقصد ، كنت سأقول لها إني أحببتها وما زلت، وإني
تطهرت لأليق بها، وعليها الآن أن تطمئن لي وألا تخاف مني ، كنت سأقول لها إني صرت أستحقها،
وإني سأحافظ عليها ما حييت، وإني أعشقها ولن أعشق غيرها أبدًا ، لكني لم أعثر
عليها ولم أقابلها طيلةَ كل هذه السنوات ، للأسف .. للأسف.
سنواتٌ
مرت ، كل يوم أسأل نفسي هل نسيتها؟ وأنتفض صارخًا
أبدًا!! وأسأل نفسي مرة أخرى وهل نسيَتْنِي هي؟؟ وأهز رأسي نفيًا واثقًا أنها
لم تنسَني ، وأني بقدْر ما أُفكر فيها تفكر فيّ،
وبقدْر ما أتذكرها تتذكرني، وبقدْر ما أَفتقِدها تفتقدني، وبقدْر ما أشتاق
لها تشتاق لي، وأن مشاعرنا حيةٌ متبادَلة ولم تمُت لا عندي ولا عندها، والدفء
بيننا سارٍ، والأروح متوحدة، وستبقى حبيبتي وحبيبةَ روحي .. تلاقينا ثانيةً أَم لم
نلتقِ !!
هل يئستَ
أن تقابلها يا حَسن؟؟ أبدًا ، لم أيأس ولن ، أسير في الشوارع أبحث عن ملامحها ، عن
رائحة طيبتِها ، عن دفء حنانها ، أُحدّق في الوجوه أبحث عن ابتسامتها البريئة وعينيها
الساطعتين المتوهجتين ، يقيني راسخٌ أنني سأقابلها في وقتٍ ما لا أعرفه ، في مكانٍ
ما لا أتوقعه ، سأقابلها بغير ترتيب كما التقينا في المرة الأولى ، سأقابلها هذه
المرة في الوقت الصحيح ، وقتَها سأقبض على كفِّها ولن أُضيّعها مِني أبدًا ، وحتى أقابلها
، الآن أُحِبها، وأشتاق لها، وأعشقها، وأُناديها بقلبي وروحي علّها تسمعني فتعود
!!
باحِب
القرنفل ... باحبك واحب الزنبق
باحب
الياسمين ، باحبك واحب الفل
باحب
الحمص الأصفر ... باحبك واحب الفستق
باحب
البرتقال ... باحب البلح
أحِب
شِعر نزار قباني ..... احبك واحب صلاح جاهين
باحب
عبد الحليم ، باحب محمد فوزي وطبعا باحبك
باحب
الشوكولاته بالبندق ، باحبك واحب ملبّس اللوز
باحب
البحر ، وانا كمان بحبك واحب البحر
وحتي
تعود وستعود ، أعيش معها ولها يدفئني صوتها، وضحكها، وطيبتها، وبراءتها، وسطوع وهج
عينيها، وعشقها.
سنلتقي
المرةَ القادمة يا بشرى في الوقت الصحيح ، وقتَها لن أُضيّعك ولن أُضيّع نفسي، وسأحتضنك
بقوةٍ وأُغلِق ذراعيّ عليكِ وأُطمئِنك لتسكني لي وتسكنيني ، سنلتقي في الوقت الصحيح ، ثِقي بي وصدّقيني !
وما
يزال القمر يسطع كل شهر بحنانه، بطيبته ببراءته، بدفئه يشبه روحَها وابتسامتها،
يطمئني بوجودها ويؤكد لي يقيني أننا سنلتقي ذات يوم ، وقريبًا جدًا !! وما يزال
القمر يسطع في السماء ينير الحديقةَ، والشرفة، والسراية، والعيادة، وبيتي، وكل
الدنيا، يربت على روحي يبدد خوفها و....
هذا ليس قمرًا في ليلة تمامِه ، هي ابتسامتها الحنون التي طال شوقي لها ، هي
ابتسامتها الحنون تنير الليلَ وحياتي كلها ، آهٍ يا بشرى ليتَكِ تَصفحين عني
وتعودين ، ليتَكِ تعودين!!
هامش - سراية الوهيب
سألتُ
الطوخي ما الذي يفعله الدكتور في الحديقة؟ قال زرَعَ شجرة ياسمين منذ أعوام، ويأتي
بنفسه يرويها ويرعاها ويقلِّم أوراقها ويقطف زهيراتها، ليصنع عقدًا وسوارًا لابنتِه
الجميلة التي يُحضِرها معه في زياراته الكثيرة، ابتسمتُ لأنه عاشقٌ ولم يَنسَ بشرى،
وابتسمتْ هي أيضًا لأنه لم يَنسَهَا !!
نهاية الفصل العاشر والأخير
النهاية
1 - جبران خليل جبران
2 - إيليا أبو ماضي
3 - المتنبي
4 - إيليا ابو ماضي
5 - جبران خليل جبران
6 - جبران خليل جبران
7 - أحمد شوقي
8 - جلال الدين الرومي
9 - جلال الدين الرومي
10 - جلال الدين الرومي
هناك تعليقان (2):
نمضى فى الحياه بكامل ارادتنا مُكبلين بقيود القدر
الحياه ليست إلا حلقات تتداخل وتتشابك مابين ماضى وحاضر ،لا يستطيع احد ان يتخلص من ماضى لينطلق لمستقبل
ربما يتجاهله او حتى لا يكترث له ولكن فى النهايه يكتشف بان مايحدث له وليد ماضى ترك بصمته على روحه وقلبه ومشاعرة
فلكل منا نصيب من ماضيه
لم يستطع حسن ان يتحرر من ماضيه ولم يستطع ان يخرج خارج دائرة صنعها له القدر
قرر ان يمضى قُدما مع التيار دون ان يهتم لشئ
يعبث ويلهوا ويترك بصمته على الايام
حتى كانت بشرى اللحظه الملائكيه التى ضمته بصمت وحنان فعرف الحب للمرة الاولى ولكن للقدر دائما كلمه اخيرة
رائعه
حدوتة الراجل الطفل اللى بيدور على الحب فى كل قطفة واى نظرة الكون بتاعه واى واحدة فى سكته قلب يكسره كل شئ يدور فى فلكه ينهل من الدنيا وملذاتها ولما جاله الحب جاتله البشرى كان خلفه سلسلة من الدمار والوجع شدته عنها بعيد شفناه بعيون كل اللى حواليه حتى البيت وقفله المصدى
والمراية اللى شافت كل شئ وكل شخص فى البيت وكل هم ودمعة من العيون الحزينة لحد ما صدت
عجبتنى قوى يا اميرة الشخصيات كانت قدام عينيا وانا باقراها حتى البيت عرفته وشفته بيتشكل اوضة اوضة قدامى
النهاية صح ماهو مش لازم ياخد الكعكة كلها هو زى الطفل اللى طمع ودفس ايده جوة الكعكة وما نالش منها الا الفتات ما استناش نصيبه يجيله حتة صاحية سليمة
هى بقى حكاية تانى قصتها قصة كل بنت عصفورة فى قفص العيب ومايصحش وانتى بنت ناس واللازم والمفروض خرجت من سجنها وشافت طريق الحرية وعرفت ان حبه هايبقى سجن جديد اختارت تمشى
الحب طهره وكان لازم يرجع لاصله علشان يفوق عرف ان كل شئ له نهاية ولازم عجلة الجنون تقف وحصل
كانت قراءة ممتعة جدا خالص تحياتى
إرسال تعليق