مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الخميس، 1 سبتمبر 2016

تعويذة العشق والدموع ... الفصل الثالث

الفصل الثالث

ما كنتُ ممن يدخل العشقُ قلبَه
ولكنّ مِن يبصِر جفونَك يعشق (3 )




 ( 14 )
" الدفء  "
وقفتُ خلف باب شقتها مرتبكًا وكأنه ميعادي الغرامي الأول ، ارتبكتُ ارتباكًا أفزعني من نفسي وأخافني منها ، لا أصدق أن الدكتور حسن الوهيب يرتبك وهو يُلقي شِباكه علي فريسته الجميلة ، الغريب أني لا أستشعر نفسي صيادًا ولا أحسها هي فريسة ، ربما هذا ما يربكني ! لا أعرف، لكني سأعرف وقريبًا جدًا !!
وقفتُ خلف باب شقتها مرتديًا ملابس أنيقة مريحة، وأحمل باقة زنبق ، ابتسمت حين فتحت لي البابَ بثوبها الأسود ، رحبتْ بي وأجلستني في الصالون ، أحضرت الماءَ المثلج وفنجان القهوة السادة ، صمتٌ ساد بيننا بعد ما تبادلنا بمللٍ كل الكلمات التقليدية التي يتعين أن نقولها في مثل هذا الموقف ، وحضرتك عامله ايه؟  تمام يا دكتور. صمتٌ طويل ، ما نفسكيش تروحي السينما؟؟ فجأة سألتها ، ضحكت حتي سالت دموعها ، أسرّت لي أن هذا السؤال هو آخر ما توقعته مني ، قالت إنها لم تذهب السينما منذ سنوات بعيدة لأن رحيم - الله يرحمه - كان مشغول جدا ، بنظرة شكٍ وريبة سألتني ، هو حضرتك عندك وقت؟؟ هززت رأٍسي نفيا ، بس نفسي اروح السينما !!
دعتني لمائدة العشاء التي أعددتها ، شكرتها وجلست على المنضدة أمامها في الجهة الأخرى وأنا أتمنى أن أسألها أين كان يجلس رحيم؟ وكأنها سمعت سؤالي ، همست وهي تقدم لي الطعام في الطبق الأنيق ، عمرنا ما كنا بنستخدم السفرة؛ لان رحيم ما كانش عنده وقت نقعد عليها ، ابتسمت ، بس انا عندي وقت ، رفعت حاجبيها اندهاشًا ، فعلا؟؟
بعد العشاء جلسنا في الشرفة ، اتفضل القهوة ، نبرة صوتها رسمية أكثر مما يتحمل لقاؤنا ، تسلم ايدك ، شرحت لها ، معنديش وقت فعلا ، لكن نفسي يبقي عندي وقت ، نفسي اعمل حاجات كتيرة ، ابتسمت ، وما بتعملهاش لان معندكش وقت؟ هززت رأٍسي نفيًا ، ما بعملهاش لان مابلاقيش حد يشاركني سعادتها!! هذه رسالتي الأولى يا بشرى هانم ، أتمنى أن  تستقبليها بالذكاء المتوقع منكِ ، ببرود همست ، الله يكون في العون .... وودّعتها على الباب بمنتهى الرسمية وشكرتها على العشاء اللذيذ والقهوة المحوّجة والدفء!! لم أَقُل لها الدفء لكن هذا ما أحسسته في حضورها وبيتها ومنضدة طعامها وشرفتها وفنجان قهوتها ، الدفء ، هذا ما أحسسته بصحبتها ، وفجأة انتابتني رعشةٌ وكأني محتجَز في بلورة صقيع تُجمدني ، الدفء يا بشرى هانم ، هذا ما مَنَحته لي زيارتك وطعامك وسطوع عينيك وحنانك!! أقود سيارتي ببطء وكأني لا أرغب في أن أبتعد عن منزلها ، وكأن الدفء المنبعث من جدرانه، والحنان المشع من عينيها يجذبانني لأبقى ولا أغادرها أبدا!! أقود سيارتي ببطء وأسمع بعض الموسيقى الهادئة وأتوه معها حتي يوقظني رنين تليفوني ومكالمة مايسة وأسئلتها السخيفة اللائمة ، برضه شغل يوم الجمعه يا حسن؟؟ انا خلاص جاي ، همستُ وأغلقت الخط، والصقيع يتملكني ويطحن عظامي وروحي!! الدفء يا بشرى هانم الدفء !!
 هامش -  بشرى
لماذا تنكأ جراحي يا دكتور حسن؟ لماذا تذكّرني بعمري الذي مَر  وأنا وحيدة لا أجد مَن يشاركني فيه سعادته؟ رحيم كان زوجي الطيب لكنه كان مشغولا ببناء نجاحه وعمله وتخليد اسمِه في المراجع الطبية بعد ما أيقن أنه لن يَمنح الحياةَ ابنًا يحمل الاسم ويمد الشجرة ويظلل علىّ بفروعها، كان زوجي الطيب الذي لم يرفض لي طلبًا، لكنه لم يشاركني أحلامي الصغيرة التي قالت أُمي إني لن أعيشها إلا بعد الزواج، وحين تزوجت اكتشفت وبسرعة أني كبِرت ولا تليق بي تلك الأحلام الصغيرة ، رحيم كان طبيبًا مرموقًا ابنَ أصول، وكنت عروسَه الجميلة بنت الأصول ، وعشنا حياتنا كلها في دائرة الأصول وقبضتِها القوية، فيذكّرني رحيم دائمًا بصوت أبي الأجش الصارم بالأصول وحكمها والذي يصِح والذي لا يصِح ، ورضختُ له وللأصول، وسارت حياتنا ولا أروع كما يراها الجميع مِن خارجها ويحسدوننا عليها ...
في بداية حياتنا صارحتُه بأحلامي الصغيرة، وتمنيت منه لو يشاركني تحقيقها فابتسمَ وقال إنها أحلام الصبية الصغيرة التي تركت عروستَها في بيت أبيها وقتما ارتدت خاتمَه الماسي وتزينت بتاج زفافها ، قال إن مركزه كطبيب وأستاذ بالجامعة وله تلاميذ وباحثون لا يسمح له أن يشاركني بعض العبث وبعض الجنون وبعض الخروج عن المألوف، والناس تقول علينا ايه ؟؟  قال إني زوجة ومسئولة وكبرت " خلاص "، وعلىّ أن أتصرف بما يليق بي وبه ، لم يعجبني كلامه لكني رضخت له لأن الأصول تقول إنه يتعين عليّ الرضوخ لزوجي كأي زوجة مطيعة و" بنت ناس " ..
وسرقت الأيامُ أحلامي الصغيرة بعد ما تصرفتُ باعتباري كبيرة وتجاهلتُ سِني وأمنياتي، ووأدتُ عبثي وجموحي الذي لم أعثر على أيام مناسبة لأعيشهما ، عايزه اروح السينما ، قهقهَ رحيم لا يصدق ما سمِعه مني ، قال إن كل الأفلام تأتي في التلفزيون، وإنه اشترك لي في كل القنوات، وإن السينما ممِلة ولا تسمح له بالتدخين، وإن مشاهدة الأفلام معًا في البيت أريح وأكثر سعادة ، سمعته يومَها ولم أعلق على حديثه، ولم ألُمه لأنه لا يجد وقتًا يشاركني فيه في البيت مشاهدة الأفلام ، دفنت الأحلام الصغيرة تحت ركام الأصول والتقاليد، وجاملت أُمه وزرت شقيقاتِه، وصغتُ علاقاتٍ طيبةً بزوجات أشقائه، وفتحت بيتي لهم جميعًا محبة ومودة، وأديت كل المجاملات والواجبات كما تقول الأصول.  
عشت مع رحيم أيامًا لطيفة هادئة تشبهه وانشغاله بعمله وأبحاثه ورسائل الدراسات العليا التي يشرف عليها ، عشت حياة زوجية لطيفة هادئة وأيامها متشابهة متماثلة رتيبة ، أنتظر رحيم حتى يعود من عمله وأعد له العشاء وأنام على ذراعه حتى أنعس فيتركني ويقضي بقية الليل في غرفة المكتب يدرس ويقرأ ويعِد محاضراتِه، ويوقظني صباحًا لأعد له القهوة والينسون ويودِّعني بقُبلةٍ لطيفة مثل أيامه، ويَخرج ولا يعود إلا آخر الليل، وهكذا مرت الأيام والعمر!!
كنتُ قد تصورت أني نسيت أحلامي الصغيرة واعتدت غيابَها ، كنت قد تصورت أني كبرت ونضجت وعقلت وصرت أرملة الدكتور رحيم بثوبها الأسود، فعلىّ أن أفكر وأتصرف حسبما تَقضي الأصول والتقاليد ووصية المرحوم ، اليوم فاجأني الدكتور حسن بزهوره البيضاء، وثنائه على طعامي، وأناقة منضدتي، ورائحة البُن، وجمال شرفتي البحرية ، فاجأني برغبته في الذهاب للسينما ، فاجأني أنه لا يجد مَن يشاركه السعادة ، حتى أنت يا دكتور حسن لا تجد مَن يشاركك سعادتك؟! وأنا التي ظننتك سعيدًا هانئًا؟! نكأتَ جراحي وأيقظت أحلامي الصغيرة، وذكّرتني بكل الذي مضى وتصورته مات مع رحيم، فإذا به يُبعَث حيًا معك !!
واللهِ انا كمان نفسي اروح السينما يا دكتور ، تمنيت أن أقول له ذلك، لكني صمتُّ تمامًا ، وتنهدتُ تنهيدة حارة لأنه ذكّرني بالذي مضى، وكنت أظنه مضى، وأظنني أبدًا لن أتذكره !! 
( 15 )
" اسمعيني "
البرد قارص، والريح العاتي تزأر، وجنبات البيت الخاوي تفح بخوف أخرس من شقوق الجدران العتيقة ، أرتدي جلباب جَدي الصوفي وأتدثر بشالِه وأَخرج للشرفة الموحِشة الخاوية إلا من خيالات وأشباح تتراقص أمام عيني فتفزع خيالي وتربكني ، أصوات مختلفة متداخلة تنبعث من جنبات الحديقة تحطم سكون الليل وسكينتي ، أنين الساقية العجوز القديمة ونحيب تروسها المشحوذة تلف حول بعضها، وصرير دورانها الخشن يحاصرني ويوجعني وكأنه نحيب روحي ، يخيفني ويدهشني صوتها المتتابع المتلاحق وكأني لم أسمعه من قبل ، نَعم لم أسمعه من قبل ، لم آتِ هنا قبل اليوم ، لست أنا مَن حضر وأقام وصاحَبَ جَدته في أجازته ونام بجوارها مطمئنًا وابتسمَ وتصور نفسه فرِحًا في سفره، وعاد يحكي لأصدقائه عن السراية وهيبتِها ، لست أنا ، آخَرُ انتحل وجودي واسمي وعاش بدلا مني، وعاث فسادًا في الحياة، وحين وجب عليه أن يسدد ديونه ويدفع ثمن اختياراته فر  وتركني أواجه مصيره ، لست أنا مَن أتى هنا بل آخَر لا أعرفه، ولست أنا مَن عاش الحياة  بل آخر لا أعرفه ، ولست أنا مَن بغى وطغى بل آخر لا أعرفه ، آخر  انتحل وجودي وعاش به ، هذا الآخر لا أحبه ولن أُحبه ..
الصوت الحزين يتعالى، وصمت الليل يفسح له مجالا ليطغى ويستبد ويتملكني ويأسرني ، الصوت الحزين يتعالى وحَسن الذي أحِبه يجلس وحيدًا تعيسًا في الشرفة يحتمي من بردها وقسوة ليلها بشال جَدِه الدافيء، يبحث عن فهمٍ لكل ما مَر فيه وعاشه، ونهايةٍ سعيدة لِما يتمناه ، حَسن يبحث عن البداية وكيف صارت ليصل للنهاية التي يتوق لها ، كيف جرى كل ما جرى يا حسن ؟؟  وكيف عشتَ كل ما عشته؟؟ ولماذا حدثَ كل ما حدث ؟؟
بحثت عن العشق يحتويني ويسعدني فلم أعثر عليه ، فسِرت في الحياة رجلا مثل كل الرجال كما قال سليمان الوهيب ، شربت الملح وظننته متعة تسعدني، لكن الصقيع حطم عظامي وروحي ، لهوت بكل الطرق المتاحة والممكنة ، انتشيت وسعدت وفرحت وانتصرت ، وزعت الابتساماتِ والمشاعرَ ، كذبت كثيرًا ، أكاذيب بريئة وأكاذيب شريرة ، اخترت دربي وسرت فيه وتصورته حياتي السعيدة، وعلقت على جدراني ابتساماتٍ ودموعًا، وشربت في نَخب حَسن ومعاركه، وظننتي عركت الحياةَ وعرفتها ، وفي النهاية صفعتني الحياة بكل قوتها على وجههي عقابًا ربما أو لتعيدني لرُشدي وطيبتي ربما ، في النهاية أو في البداية ، صفعة عنيفة قوية كشفتْ وعرّت زيف كل ما عشته ، صفعة موجعة استحضرت كل الوجع والدموع والحزن وما فررت منه ، أتى كله عاتيًا ومعه الصقيع حاصرني ، وصرت لا أعرفني ولا أعرف ما عشته، ولا أعرف لماذا عشته!! وأتمنى لو أمحو كل الماضي وكل ما عشته وأبدأ ثانية صفحة جديدة ، أرسمها بعناية وثقة وطمأنينة وفرحة وعشق .. صفحة جديدة أعيشها معها ، هل ما يزال في دفتري صفحة جديدة أعيشها؟ أم هي نهاية الدفتر وآخر الأيام؟ وهي لن تشاركني ما تبقى من الحياة لو ما يزال فيها مِن العمر والأيام بقية؟ والصفعة الموجِعة أتتني بعدما فات الأوان عقابًا وتهذيبًا وليس بوابة عتْقٍ لفرصة أخرى في الحياة ؟؟
أجِب يا حَسن .. أجِب يا حسن عن السؤال الصعب ، هل هي النهاية التي تستحقها؟ أم هي البداية التي يتعين عليك الوصول إليها؟؟ أجِب يا حسن أجِب!!
شرائط الذكريات تمر أمام عيني ، حَسن الذي لا أعرفه ولا أحبه أراه أمامي بطلَ كل المَشاهد ، أري نصال قسوتِه تقتل ضحاياه بالصد والعبث والهجر والزيف والكذب والاستهتار ، وأراني صامتًا أخرسَ لا أمنعه، ولا أحميهن، ولا أصرخ رافضًا غاضبًا ، أراني مستكينًا، وربما مستمتعًا، وربما سعيدًا بعبثه بالحياة وعبثها معه ، لم أكن أعرف أنني الذي سيدفع الثمن!! وحين عرفت كان أوان التراجع قد فات، وصار الديْن واجبًا والوفاء عهدًا!!
شرائط الذكريات تمُر أمام عيني ، ها هو حَسن الذي لا أعرفه ولا أحِبه ، بطل كل المَشاهد ، تشاركه بعضَها الحاجّه منصفة وجَدي الذي لم أره ، بعضها سليمان بيه أبي وحرمه المصون رقية الكشميري ، بعضها زوجتي المصون مايسة وابنتي المصون منة الله ، سميرة وجلبابها الفقير ، وبجوارها فاطمة وعيناها المندهشتان ، شيرين ونظرتها اللعوب ، حتي العجوز الغجرية المخيفة تصارعهم جميعًا وتخطف لنفسها بطولة مشهدٍ كامل يتوارى فيه حَسن ويتركها وحدَها تسرق الكاميرا ، ها هي كريمة تلومه ، ونبيلة تخاف منه ، ها هي مايسة تفتقد وجوده ولا يكترث ، وها هي شيرين تتألم منه ولا يعبأ ، وها هي فاطمة تتمناه ولا يهتم ، الشرائط تجري وتجري والمَشاهد والأحداث تتلاحق وتتلاحق، وأسماء كثيرة تَظهر، ووجوه نسي أصحابها  تأتي، وكل المشاعر تتجلى، ابتسامات، دموع، فرح، ترقب، حزن، قلق، أمل، يأس ...!
فقط هي التي لم تظهر ولا ثانيةً في أي مشهد رغم بطولتها المطلَقة للكثير منهم ، فقط هي التي احتجبت وتوارت وفرت بعيدًا ورحلت إلى حيث لا أعثر عليها أبدا ، غضبى مني ولن تُريني وجهها مرة ثانية ، أنتفِض من الصقيع والتعاسة غاضبًا من استسلامي المهين لجموحها، لاستبدادها، لرحيلها الموجع ، لن تصفح عن حسن الذي لا أحِبه ولا أعرفه ، لكني لست هو ، أنا آخر ، أكثر طيبةً وأكثر نقاءً، وأكثر حنانًا وأكثر صدقًا ، لست هو صدقيني ، اختبريني ، اسمعيني ، أرجوكِ يا بشرى امنحيني فرصتي الأخيرة لأكون مثلما أتمنى وأستحق ، أرجوكِ انسيهِ وسامحيني!!
الساقية تدور وتدور ، وشريط العمر يجري على تروسها ويجري والمشاعر المتناقضة المتصارعة الغريبة تجري وتجري ، كل شيء أراه أمامي إلا هي، إلا بشرى ، تحتجب عني وتختفي ، تمنع روحها من أن تقترب من روحي ، تحرمني من وجودها ، تعاقبني لأني لم أكن كما تصورتْ وكما تمنتْ ، تعاقِب نفسها بصدِّي وهجري ، تعاقبني لأني ظهرتُ في حياتها في الوقت الخاطيء ، لم أختَر الوقت يا بشرى ولم تختاريه ، دعينا نحاول أن نعثر معًا على الوقت الصحيح ، أكلمها فلا تسمعني ، تفر من حَسن الذي لا أعرفه ولا أُحِبه ، ولا تمنحني فرصتي لتعرفني أنا وتحبني أنا !
البرد يشتد والريح تزأر، وأنين الساقية يتعالى ، أنتحِب أو أظنني أنتحِب ، تنهمر دموع روحي قهرًا ، الحيرة تلتهمني، تنهشني، تسحقني، أتمنى أن تصدقني وتمنحني فرصتي الأخيرة التي أستحقها، لكنها حتى الآن لم تصدقني ولم تعطني أي إشارة أو بشارة تخبرني أنها ستمنحني فرصتي الأخيرة !!! أظنني غفوت وما أعيشه الآن ليس إلا أحلامًا أو كوابيس أو خليطًا منهما  ، أظنني يقِظًا أهذي يأسًا وقنوطًا ، أظنني لا أعرف ما الذي يتعين علىّ ظنُّه !!
تقبض الحاجّة منصفة على ذراعي ، تهزني لأفيق ، تفتح حضنها لدموعي وتلومني ، مِن وانت صغير ساعات بتّوه وتبقي الحاجه قدامك وتدوّر وراك ، دوّر صح يا حسن ومسير اللي يتعب يتجازي، واللي يصبر ينول ، دوّر صح يا ابن الوهيب، إلا تعبك هدَر، وتايه وبتدوّر في الحته اللي عمرك ما حتلاقي فيها حاجه ، دوّر صح يا قلبي إلا التوهة ضنى !!  الرّك مش عليها ، الرك عليك انت ، انقذ نفسك يا ابن الوهيب لنفسك يا حبيبي ، وقبل أن أسألها أين يتعين عليّ أن أبحث لأنقذ نفسي من التوهة والضنى ، ترحل وتتركني ..!!
هامش - الحاج الطوخي 
أجلس قريبًا منه في الركن الدافيء خلف باب الشرفة ، أُنصِت لأنفاسه وأوقِظ نفسي لألبِّي طلباتِه لو أَمَر، لكنه لايأمر، وكأنه زهدَ الحياة ومتعَها، الساعات تسير بطيئة وهو كالتمثال الصخري لا يتحرك ولا ينادي ولا يكترث بي وبكل ما يحيط به ، أتى مع نفسه لنفسه ، هذا آخر ما اهتديت إليه في تفكيري ، سأظل إلى جواره لو احتاجني، لكنه أبدًا لن يناديني ، هو يحتاج نفسَه وفقط، كل شيء يقول إن الدنيا قست عليه وجاء يطبّب روحه ويكويها بالنار، ويتوجع وحدَه ويشفى ..
سنوات لم أره ، منذ رحلت الحاجّة منصفة فتحَ البيت وتقبَّلَ العزاء ورحل ولم يعُد ، سنوات كثيرة لم أره ، وحين أتاني أمسِ كسيرَ العينين، أسيرَ الروح، منطويًا على ذاته، تمنيت لو لم يأتِ وترك لي صورته القديمة في خيالي حفيد الوهيب، كما كنت أتمنى أن أراه قويًا مَهيبًا وريثَ اللقب والسراية والقوة ..!
أراقِبه في صمت ولا أقترِب منه، وأنتظِر أن يناديني لأخدمه، لكنه لا يناديني ، يخرج متسللا ويعود غريبًا، الوقت يقتله، والحيرة تستبد به ، لو أن الحاجّة منصفة كانت موجودة لرعَته وطبّبته وشَفَته مِن عشقه ووجعه!! نَعم لا يسبي الرجلَ إلا عِشقٌ لا يطوله ولا ينساه، هكذا همس الحاج الطوخي لنفسه ، هذا الحَسن عاشق يقهره غرامُه، وتقهره كبرياؤه، وتقهره الحبيبة التي لا تمنحه قلبها ولا يلفظها قلبه ...!
لو تباسَط َمعي في حديثه مثلما كان يفعل صغيرًا ويجلس بجوار التوته الكبيرة ويحكي لي همّه، لو باح وتكلم لنصحتُه وهوّنت عليه وساعدته وأخذت بيدِه، لكنه كبِر علىّ وعلى التوته ويخافني مثلما يخاف الدنيا كلها ، يخاف ضعفَه، ويخاف أن يُظهِره، ويخاف أن يفضحه، ويخاف أن يقهره فيصمت ويتوارى!!
هذا الحَسن عاشق، فلا يكسر الرجالَ ولا نفوسَهم الا عشقٌ مستبِد، عشق مالح كماء البحر لا يَروي ولا ينصِف، عشق طاغٍ  مرير كالحنظل لا يشفي ولا يسعد!!
أراقبه منذ وطأت قدماه أرض الحديقة بخطواته المرتبكة، والاثقال التي تنوء بها كتفاه وروحه ، نظرته الحيرى تبحث عن إجابات لأسئلة تَستعصي عليه ، اختلاجات وجهه الشاحب تكشف علته ودواءها ، تفضح عجزه وهو الطبيب المداوي عن علاج روحه ، فلا روحه تعود له ولا تغادره، ويبقى في برزخ الوجع معلقًا يتعذب !!
لو تناديني يا ابن الوهيب وتبوح لي بما يوجعك لساعدتك ، لا تستهِن بي ، فالشيخوخة والهرم والسنوات الكثيرة تملك إجاباتٍ لأسئلتك الحائرة ، والعاشق الحيران لا يفهمه إلا مَن خَبِر العشقَ وتعذّب به ، اسألني أنا ، عمّك الطوخي العجوز !!
 ( 16 )
" مولد السيدة "
صباح الخير يا هانم ، ولا اقول يا بشرى؟؟ استيقظتُ مبكرًا أفكر فيها وأتمنى أن أراها، أفتقِدها وأفتقد الدفء الحاني الفياض بوجودها ، استيقظتُ أفكر فيها مرِحًا سعيدًا وكأني قابلتها وجلست معها ونهلت من فرحتي بقربها ، سأتصل بها وأشاكسها وأغازلها وأخبرها أني أتمنى لقاءها ..... صباح الخير يا هانم ، ولا اقول يا بشرى؟؟ صمتٌ طويل، وحيرة متوجسة، وردٌ تمنيته لم أسمعه ، انا كنت باتطمن عليكي ، عامله ايه النهارده؟؟ كويسة يا دكتور ، الحمد لله ياهانم ... وتيجي نروح مولد السيدة؟؟ أراها بروحي وأسمع صهيل ضحكاتها منعِشةً كأمطار باردة في يوم قائظ ، يا خبر يادكتور وهو حضرتك عندك وقت ؟؟ مالكيش دعوه بالوقت ، تيجي تروحي مولد السيدة ؟ ولم أترك لها فرصة تعتذر ولا مبررًا تهرب ، الساعه سبعه حأمُر عليكي ، اتفقنا؟؟
وأنهيت المكالمة، ومكالمات مايسة وشيرين تلاحقني رنينًا مزعجًا سخيفًا يشتت أفكاري ، ايوه يامايسة ، عندي شغل متأخر النهارده،  نامي وماتستنينش !!  ايوه ماتستننيش سلام !! رنين مزعج يلاحقني ، ايوه ، فيه ايه يا شيرين خمسين مكالمة ؟؟ كلام كثير سريع متلاحق لا أكترث به ولا أعيه ، بقولك ايه  مش فاضي النهارده خالص ، فهمتي ؟؟ لا يعجبها كلامي ، تهمس بميوعة بكلمات شوق سخيفة ، نعم أحسها سخيفة ، أصرخ بكلام أكثر سخفًا لأحرجها ما تلِمّي نفسك!! وأضحك هازئًا مما تقوله ، استحملي لبكره ، تتحدث بسرعة وتشرح وتقول وتتساءل ، أكاد أُنهِي المكالمة مللا ، أزفر الأنفاس الغاضبة وأشعر بصبري ينفد وكأني على وشك انفجار ، ورايا ايه يعني ايه؟؟ أكاد أسبها وألعن أباها ، مين انتي لتحاسبيني ؟؟ بقولك ايه يا شيرين ، انسيني النهارده خالص ، مفهوم ؟؟ وأكاد أُلقي التليفون وأحطمه غضبًا من ملاحقتها السخيفة ، الليلة لا تخصك، وليس من حقك أن تسأليني عن أي شيء لا أرغب أن أخبرك به ، هو انتي نسيتي نفسك يا بت ولا ايه ؟؟ وأُنهي المكالمة وأُغلِق الخط في وجهها!!  
أهديء نفسي وأتنفس ببطء، وأعود بظهري في حضن مقعدي الوثير، وأُغمِض عيني وصدى التكبيرات والذِّكْر وصخب المولد وصراخ الأطفال يراودني ويسعدني ، يلفُّني ويخطفني لليلة مختلفه المذاق والمعنى ..
أضرِب الجرس فتدخل كريمةُ الغرفةَ ، افندم ؟؟ الغي المواعيد المتأخرة ياكريمة ، عندي عمليه ، حانزل على الساعه 6 .. تهمس بصوت بارد رخامي ، فعلا ؟؟ وبحزن وانكسار ، حاضر يا دكتور اللي تؤمر بيه ، وألمح حيرة على ملامحها وفضولا يكاد يقتلها، وتتمنى تسألني مالك فيه ايه؟؟ لكنها تعرف ما سيصيبها لو تجرأت ونطقت فيما لا يعنيها !!! وأتجاهلها حتى تَخرج من الغرفة وتغلق الباب خلفها وعيني ما تزال مغلقة وأنوار المولد وألوانها تسطع تحت جفوني، وقلبي يتراقص من الفرحة و..... شالله يا رئيسة الديوان يا ام العواجز ، شالله يا بنت بنت النبي ، شالله ...
هامش - بشرى
سأرتدي فستانًا قطنيًا خفيفًا ، سأعقف شَعري بشريط ملون ، سأرتدي حذاءً رياضيًا ، سأصلّي في المقام وأدعو السيدة  تهوّن الحزنَ على قلبي وروحي  ، انتبهت لِما أقوله وما أشعر به وتناقُضِه ، أتذهبين مع الدكتور حسن للمولد وتسلمين روحك لصخبِه وفرحته وضجيجه وزحامِه؟ وفي المقام تتمنين تهوين الحزن؟؟ أين الحزن يا بشرى أيتها الكاذبة؟؟ هل تتحدثين عن حزنك على زوجك الذي رحل منذ ستة شهور؟؟ وهل الأرملة الحزينة يا بشرى تذهب للمولد بصحبة صديق زوجها؟ وترتدي فستانًا قطنيًا خفيفًا وحذاءً رياضيًا؟؟ لقد رحل الحزن فعلا عن روحك وقلبك ونسيتِه ونسيتِ وجعَه ؟؟ نسيتِ الحزن ونسيتِ رحيم، وتعيشين حياتك حُرةً لأول مره منذ طفولتك، وتستمتعين بتلك الحرية، ولو بدت لك عابثةً قليلا أو جامحه بعض الشيء ، أبوكِ رحلَ بسلطته عليكِ، وزوجك رحل بقواعده وما يصِح وما لا يصِح، وأنتِ الآن تعيشين حياتك المؤجلة واحلامك الصغيرة ، لا تكذبي على نفسك ، رحيم مات وانتهت قصته مهما أنكرتِ، وأنتِ تعيشين الآن قصة جديدة وبمنتهى السعادة ، هل أزعجتُكِ وفضحت سِركِ وكشفتك أمام نفسك؟؟ هل غضبتِ مني لأني أصدقكِ القول؟ ولأني أُنبّهكِ لِما تعيشينه وحقيقته؟؟ اغضبي كما تشائين، لكني أدرك ما أنت فيه وما أنت مقبِلةٌ عليه ، الدكتور حسن أفلح فعلا يا بشرى في أن يتسلل لحياتك برقةٍ وهدوء، وأَجبركِ أن تفكري فيه وفي لطفِه واهتمامه ورقتِه ، أفلح في أن يتسلل لحياتك، وربما أنتِ فتحتِ له الأبواب على مصراعيها ، قلتِ لنفسك الحَي أبقى من الميت، وإنكِ تعانين الوحدة وتحتاجين الونَس، وإن الأمر لا يعدو بعض الصداقة وبعض الونس ، افتحي عينيك جيدًا وافهمي ما يحدث ، ليست صداقة، وليس بعض وَنَس، ما تعيشينه له وصفٌ آخر، ومعنى أعمق من كل الأكاذيب التي تكذبينها على نفسك !!
انفجرتُ باكيةً لا أُصدق ما أسمعه ، صوت يأتيني من مكان بعيد في روحي يؤنّبني على سلوكي وتصرفاتي التي لا أقصد معانيها الفاضحة التي يحكيها لي الصوت الهامس ، فجأة وكأن رحيم عاد للحياة ويرمقني بنظرته التي أكرهها وهو يُملي علىّ ما يصِح وما لا يصِح ، ولا يصِح يا بشرى أيتها الأرملة الوقور أن تخرجي بصحبة صديق زوجك، ولا أن تذهبي معه للمولد بصخبِه وضجيجِه وفرحتِه وانفلاتِه الكَريه !!
انفجرتُ باكيةً أنتحِب لأن قيودي أقوى مما أظن، ولأن عقلي مكبَّل وروحي أيضًا بكل الأوامر والنواهي التي تربيت عليها وشببت تحت إطارها وأُسِرت في قيودها ، الأصول تقول والعادات والتقاليد تقول، وهذا يصِح وذاك لا يصِح و.... أبكي وأبكي، وأُقرر بحسمٍ وخوف ، سأتصل بالدكتور حسن وأعتذر له عن مقابلته والخروج معه ، لن أقول له إني متعَبة لأنه سيأتي بأجهزته واهتمامه ليفحصني وينظر لي نظرته اللائمة لأني بخير ولا أعاني شيئًا ، سأقول له إني أنتظِر زيارة عائلية مفاجِئة ، سأقول له إن عكره المزاج لا أرغب في الخروج ، سأقول له إني أنتظِر أُمي التي قررت أن تأتيني في زياره مفاجِئة ، سأقول له أي عذرٍ أهرب به من المولد ومنه و..... ما زلت أبكي وأبكي، وقيودي تخنقني، وصوت رحيم يلاحقني في المنزل الخاوي من غرفةٍ لغرفة يهمس ما يصحش يا بشرى ، ما يصحش يا بشرى! وأهز رأسي مغلوبةً على أمري ، حاضر يا رحيم ، حاضر ...!
( 17 )
" ليه؟  "
كنت أظنه يمازحني بغيابه ، يختبر شوقي وصبري ، وأني سأستيقظ من نومي في النهار الثاني لأجده بجواري، وذراعه ملقاة على ظهري، وملابسه مبعثرة على أرض الحجرة ، كنت أظنه يمازحني باختفاءٍ مزعوم وعودةٍ غير متوقعة ، يلعب معي ، يكسر الرتابة والملل ومشقة الحياة وهموم العمل ، كنت أظنني سأستيقظ من نومي على صوت أنفاسه وشخيرِه ، كنت سأصرخ فيه ، انا زعلانه منك يا حسن ، وأنهال على ظهره لكمًا ، كنت سأعضُّه غضبى لأنه خلع قلبي وهدد أمانيَّ وأشعرني أنه خرج ولن يعود، وأني فقدته للأبد ، كنت سأقسِم برحمة أُمي ألا أُصالحه وأنا كاذبةٌ أعرف أني سأصالحه قبل أن يعتذر لي وأصفح عنه قبل أن يشرح لي لعبته المجنونة و" افهميني بس يا مايسة " ، كنت أظنه سيملأ الغرفةَ بورودٍ بيضاءَ وزنبق توقظني رائحتها الجميلة،  فكرت وقلت ربما يعود بهديةٍ ماسية ويطلب مني أن أترك منة الله مع أُختي وأسافر معه شهرَ عسلٍ جديدًا نعيد فيه تجديد مشاعرنا التي جمّدتها ظروف الحياة وانشغاله بعمله وإرهاقي في تربية منة والتدريبات وحصص الباليه ، هذا ما فكرت فيه قبل أن أنام ، وأنا أكاد أُجَن من اليوم الغريب الذي قضيته لا أصدق ما أعيشه، أبحث عنه بلا جدوى وبلا طائل ، بل جُنِنت فعلا ، عاجزة عن فهْم ما يفعله حَسن ، قصاصة ورقٍ تافهة وكلمات باردة ومبلغ كبير في حسابي بالبنك وتليفونات مغلقة!! جُنِنت من كل هذا ومنه ، قابعة في فراشي طيلة الليل أنصت لصوت الباب والمفتاح الذي أنتظره يَفتح به البيت ويدخل ، وقت طويل مَر وأنا أُنصِت لِما لا يحدث ، وفي النهاية غفوت متعَبةً مرهَقة واثقة أني سأستيقظ وأجده نائمًا بجواري ، توعدته حين أوقظه بخصام طويل عقابًا له على إفزاعي وترويعي ، غفوت والكوابيس تنهشني ، وحين فتحت عيني في الصباح لم أره بجواري، ولم أرَ الورود البيضاء، ولم أشُم رائحته، ولم أرَ ملابسه مبعثرة على أرض الغرفة ، وجدت كل شيء مرعبًا مثلما تركته قبل أن أنام ، انفجرتُ باكية خائفة فزِعة ، حَسن لا يمزح ولا يمازحني، وليست لعبة ولا فزورة ، حَسن رحل عن حياتي فعلا ولن يعود ، ليه يا حسن هو حصل ايه ؟؟ ليه يا حسن تعمل كده؟ ليه؟ ليه؟ هو حصل ايه؟ انا عملت ايه ؟؟
هامش -  رقية
الهلاوس التي تركَها لي سليمان وقتما مات، وأسكنها عقلي وتركها تتحدث معي وتحدثني وتنصت لي وأنصت لها صارت هديته الغالية الوحيدة التي تصبِّرني على فراقه ورحيله وموته، وعلى الحياة وحيدة هرمة خرفة أعيش وحدي وخادمة بلهاء وذكريات موجعه وموت لا يأتي ...!
الهلاوس التي تركها لي سليمان هدية وسلوان غيابه ، أفسدت عقلي وأسعدت حياتي وهوّنت غيابه وقوّتني على تحمله ، كنت أحِبه وكان زوجي ولم أكن حبيبتَه أبدا ، تشاجرت معه ليحبني فكرهني أكثر ، طلبت الطلاق فسخِر مني لأني مجنونة ، أنجبت حَسن ولم أنجب غيره ، منحته حَسن وقتما ظننته يحبني ، حسن ابن حبي وابن عمري ، وحين اكتشفت أني مجرد زوجته التي اقترنَ بها لينجِب أطفالا ويكوّن أُسرَة بخلت عليه بالأطفال مثلما بخِلَ علىّ بالمشاعر ، عاش يعذبني بصدِّه، ومات بعد ما ترك لي هلاوس غريبة أَسكَنها عقلي ورحل، وكأنها اعتذاره عن كل ما أوجعني وزاد صبري على فراقه ...!
منذ وفاة سليمان وحياتي وحيدة أنا وهلاوسِي ، أتصوره يعود من الخارج يحتضنني ويقبِّلني ويعترف بحبي، ويطلب مني أن أنجب له عشر بنات يشبهنني، وعشرة أولاد يشبهون حبه لي ، أتصوره يقبض على كفي لا يتركها، وأنام على ذراعه وفي حضنه، وقُبُلاته الدافئة تنهال كالمطر فوق شفتَي ، هلاوس سليمان استبدت بعقلي وتمكنت مني بعد ما أحببتها وسكنت فيها ، ولم يعد الأمر رغم موته أني أتصوره يحبني ويبثني شوقَه ويهدهدني ويدللني ، بل صرت أراه حيًا معي ، يسير بجواري وينام بجواري، ولا يأكل إلا معي ولا يبارحني، هلاوسي الجميلة أعادته حيًا رقيقًا محِبًا مخلصًا حانيًا لحضني وحياتي!! نعم   نسيت اسمَه مِن وطأة الهلاوس، لكنه لم ينسَ اسمي ، نسيت اسمَه ثم نسيت الأسماء كلها ، نسيت شكله ثم نسيت الجميع ، صار سليمان غريبًا، وصار العالم كله غريبًا ، إلا حَسن ..!
حَسن هو ابن حبي لسليمان ، يأتيني بعض الأحيان لطيفًا حنونًا، ويغيب كثيرًا جاحدًا باردًا ، يأتيني أحيانًا مع سليمان وسط طوفان الهلاوس يضحكان ويتحدثان ويحملانني على أذرعتهم القوية يؤرجحانني في الهواء فأضحك ويضحكان ، ويأتيني أحيانًا في الحقيقة ، يجلس بجواري ويربت على كتفي ويحتضن وجهي بكفيه، ويقبِّلني ويهمس بكلمات لا أفهمها، لكن معنى الحب هو المعنى الوحيد الذي يخرج من قلبه لقلبي ..
أمسِ أو ربما أول أمس ، لا أتذكر ، أتاني حسن بباقة ورودٍ بيضاءَ ، أوصى الخادمةَ التي لا أذكر اسمها ، قبَّلَ يدي وطلب مني ألا أغضب منه لو غاب ، تمنيت أن أرد عليه لكن الكلمات تاهت والمعاني ضاعت ولساني يتحرك بين شفتَي لا يقول ما أشعر به ، تمنيت أن أقول له إنه ابن حبي ولا أغضب منه، لكني أشتاق له وأطلب منه ألا يغيب عني وألا يطيل بُعدَه ، تمنيت ولم أفعل ، لم أعثر على الكلمات التي أرغب في قولها ـ ابتسمتُ له صامتة واثقة أنه سيفهم كل ما أرغب في قوله ، وعدَني أن يزورني في الهلاوس مع سليمان ويقضي معي من الوقت ما يستطيعه ، قال كلامًا كثيرًا في الحقيقة والهلاوس ، حاولت وحاربت مع لساني وأفكاري وهمست أنت حبيبي ، ابتسمَ ابتسامة جميلة وقبَّلَ رأسي وودَّعَني ، واختفى ، لوّحت له أودِّعه وأوصيه على نفسه ، قلت له لا تتأخر في هلاوس سليمان، قال أنا معك فعلا أنا وسليمان ، ضحكت وقلت الهلاوس جميلة تحقق لنا ما لا نقوى على أن نحققه في الحياة الموجِعة ، سألني ، وهو ضروري تبقى الحياة موجعة؟؟ في الهلاوس رددت عليه بكلام كثير لا أذكره ، فقط سألته امتى قلبك نوّر بالحب يا حسن ؟؟ ابتسم ابتسامه ساحرة وقال لما طلع لي قلب يا ام حسن!! ما تغيبش علىّ يا حسن ، انت حبيبي حبيبي ، ضحكَ ، أضفتُ  حبيبي وابن حبيبي واللهِ يا حسن!!
 ( 18  )
" حرِّص على بتّك  "
اقتربت العجوزُ الغجرية بملابسها الغريبة، والكحل الثقيل في عينيها، وطابع الحُسن الأزرق الموشوم على ذقنها من نافذة سيارته ، ابتسمت في وجه حَسن ابتسامة غريبة لم يدرك معناها، تَصورها تتسول فبحث بسرعة عما ستجود به يده ليدها ، دَفعت يدَه برقة تبعِدها عن وجهها وفحّت بصوت مخيف ، حرِّص على بِتّك يا ضنايا ، الا ربك ما بيسيبش!! ارتجف قلبه خوفًا وصمتَ طويلا، وسرعان ما تَظاهر أنه لم يكترث بما قالته الخرفة، لكنه أبدًا لم ينسَه!!
هامش -  حسن
اتركي ابنتي وشأنها أيتها العجوز الخرفة ، ابنتي صغيرة بريئة لا شأن لها بي وبحياتي واختياراتي وما أعيشه، ولن تحمل ذنبي ولن تسدد دَيْني ، لو أنكِ غضبى مني كلميني أنا ، حذريني أنا مِن مصيري الأسود ، لو أنك خائفة علىّ نبهيني أنا ، انصحيني أنا ، خذيني في حضنك واهمسي في قلبي وروحي بما ترينه ينقذني من مصيري الذي يخوّفك ، اتركي ابنتي وشأنها أيتها العجوز الخرفة ، إلا منة .. أرعبتني العجوز بحديثها ، لم ترعبني فعلا  لكنها وتَّرَتني ، أفسدت مزاجي ، أغضبتني ، عجوز غبية ، أكره الغباء وبالأخص المرأة الغبية ، تفلح وبسرعه في أن تفسد مزاجي وتوترني وتخرجني من حالتي اللطيفة التي أعيشها ..
مخيفة وغبية تلك العجوز ، أحسستها تحذرني من عشق بشرى، وانكسار مايسة، وقهر شيرين، وضياع فاطمة، وحزن كريمة، و.... لا أذكر بقية الأسماء ولا وجعهن ، أحسستها تحذرني من نفسي ، أحسستها تذكّرني بجرائمي التي أعيشها كل ليلة وطيلة عمري، بمنتهى الضمير المستريح والقلب البارد والاعتياد البليد.  
فكرت أن أعود بالسيارة وأبحث عنها ، لن أوبخها ولن أتشاجر معها ، فقط سأشرح لها مشاعري وأني لا أقصد إيذاء أي منهن ، سأشرح لها أني رجل كباقي الرجال، وعليها إذا لم تصدقني أن تسأل سليمان الوهيب!! سأشرح لها احتياجاتي التي لا تلبيها أي منهن وحدَها ، كل منهن تعيش جزءًا مني ويكفيها ، وأنا لا أعيش أيهن، ولا تكفيني أي واحدة منهن وحدَها، وأحيانًا أشعر أن كلهن أيضًا لا يُشبِعنني ، جزء مني يزيد عن رغبات مايسة التي يكفيها حضن وليلة عشق وبعض الاهتمام ، جزء مني يزيد عن احتياجات شيرين التي يكفيها سهرة صاخبة، وهدية غالية، ونظرات نهِمة، ولعاب يسيل على صدرها ، جزء مني يزيد عن أحلام فاطمة التي تكفيها نظرة إعجاب، وبعض الشوق البارد، ومكالمة تليفون ، جزء مني عبث مع كريمة وعاد وترفَّع ، جزء مني حلم بسميرة واشمأز ، بعض مني يزيد عن احتياجات بشرى!  
انتبِه يا حَسن ولا تكذب على نفسك ولا على العجوز ، انتبِه جيدًا وأنت تتحدث عن بشرى ، إلا بشرى ، لا شيء أبدا يكفيها ، نظراتها تفضحني وكأنها تقول لي أعرفُ أنك تمنحني جزءًا منك وتفر ببقيتك، وأنا لن أمنحك كُلِّي إلا لو منحتني كُلَّك ، بشرى التي لا يرضيها شيء ولا يكفيها جزء مني ولا اثنان ، تهددني بالحرمان من جنة وجودها ، تهددني برقةٍ تشبهها تطردني من فردوسها ، وأتظاهر بالغباء وكأني لا أفهم وأفر من نظرات لومِها وكلمات وجعها، أهرب وأنا أتمنى أن أعود، وأتمنى أن أمنحها كُلِّي، وأسرقها كلها، لكني عاجز عن تحقيق رغباتها، وهي رافضة ومتمردة على رغباتي، لكني سأفلح معها وإن طال الزمن، سأجبرها أن تقنَع ببعضي وتترك البعض الآخر لا شأن لها به !! سأفلح معها وإن طال الزمن!!
كل هذا سأشرحه للعجوز ، سأشرح لها أني لا أستحق لومَها ولا غضبها ولا تحذيرها ، أنا رجل مثل كل الرجال ، لكن كيف ستفهم العجوز الغجرية كل هذا؟ مَن هي لتفهم سر الدكتور حسن وتلافيف نفسه وأفكاره التي يرتبها؟ ونفسه التي لا يمنحها لواحدة فقط ولن يمنحها أبدا؟ كيف تفهم العجوز أن للرجل وجوهًا كثيرة؟ وأن ينبوع امرأةٍ واحدة أبدًا لم  ولن يفلح في أن يروي أطراف حديقته الشاسعة؟ كيف تفهم العجوز كل هذا؟ لا تفهم ولن تفهمني، وستتصورني أُوجِعهن وأنا لا أرغب أبدًا في وجعهن ، تتصورني أؤذيهن وأنا أبدًا لا أرغب في إيذائهن ، هي لا تفهم أنهن اللاتي يوجِعن أنفسهن، ويؤذين أنفسهن وقتما تقرر كل واحدة منهن أن تنبش خلفي وتبحث في أسراري، وتتمنة هتْك حُجُبي ، وقتها ستجد كل منهن ما لا تتحمله ولن تتحمله ، أغمضي عينيك يا حبيبتي، واسكني في حضني، واقبلي بفرحة ورضا ما أمنحه لكِ ، وقتها ستعيشين السعادة التي تتمنينها وأكثر، سأعود بالسياره للعجوز وأقول لها إني أبدا لا أؤذيهن، ولا أجرحهن، ولا أخونهن ، نَعم لست خائنًا ولاعابثًا ، أخون أيًا منهن لو كنت منحتها روحي ثم سرقتها منها ، لكني دائمًا  أمنحها جزءًا من نفسي وأكتب عليه اسمها وأُبقيه لها، ولا أعتدي عليها أبدا وأمنح غيرها ما منحته لها ، أين الخيانة إذن؟؟ سأعود للعجوز غدًا وسأبحث عنها، وعندما أعثر عليها سأشرح لها ما لا تفهمه ولو عجزتُ عن الشرح سأنادي لها سليمان الوهيب ليشرح لها بطريقته البسيطة كل ما شرحه وأفهمَه لي ، لو شرح لها سليمان الوهيب الحكاية أولها وآخرها ، ستفهم وتصمت ، ستدعو لي بالستر، ولابنتي بالفرحة، وتكف عني أذاها وتهديدها، العجوز الخرف أيضًا لا تفهم شيئًا !! مَن سيفهمُكَ في هذا العالم الغبي يا حَسن؟؟


نهاية الفصل الثالث
ويتبع بالفصل الرابع

ليست هناك تعليقات: