الفصل الرابع
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكنا ( 4 )
( 19 )
" ما تخافيش مِني "
انتي
خايفة ؟؟ سألني فجأة ،
ارتبكتُ ولم أجد إجابة ، لا ، همستُ بصوت مرتعش ،
ضحكات متلاحقة ساخرة عالية ونظرة حنان ، انتي خايفة يا بشرى؟ بتحدٍ
وغضب لأنه رأى ما أُخفيه ، افرض! نعرف انتي خايفه من ايه، ونحاول نخليكي مش خايفة
، أتمنى أبكي، لكني أخاف من دموعي ومِنه ...
يجلس
في غرفة الصالون وأمامه فنجان القهوة ، استقبلتُه بثوبي الاأسود ووجهي الشاحب وعينَي
الحمراوين ، أتاني منزعجًا بعد المكالمة المقتضَبة التي اعتذرتُ فيها بصوت متحشرج
عن الذهاب معه للمولد ، لم يسألني في التليفون عن سبب اعتذاري ولم يلاحقني بإصراره
على معرفه السبب ، فقط قال بصوت حانٍ إنه سيزورني في أقرب وقت للاطمئنان علىّ ،
وها هو أتى بعد ثلاثة أيام تركني أفكر فيها مع نفسي ، أفكر وأبكي ، أتى بعد
استئنذانٍ تليفوني رقيق ، دخلَ في الموضوع مباشرة ، انتي خايفة يا بشرى !! أتمنى
أن أبكي، لكني أخاف من نفسي ومِنه ، سيحتضنني ويهدهد روحي ، انتي خايفه من ايه
؟؟ مني؟؟ لا بد أن أُصارحه وأُصارح نفسي بكل ما أشعر به ، بصراحه خايفه جدا،
ضحكاته المتلاحقة الصاخبة ترسم على وجهي ابتسامة رغم معاندتي وإصراري ألا أفعل
، ليه يا بشرى ؟؟ انت راجل متجوز وعندك بنت وانا ..... قاطعني ، ماتخافيش
مني والله ، لماذا أصدقه؟ نعم أصدقه ، أتمنى أن أقول له إني لا أخاف منه ، أخاف
من رحيم ولومِه الذي لا ينقطع ، أخاف من العائلة وأُمي ، أخاف من المجتمع الذي سيصِمني
بما لا أستحقه ، لا أخاف منك يا حسن لكني أخاف من كل شيء آخر ، أتمنى أن أخبره بدفين
مشاعري ، لكني أصمت وأنتظِر بقية حديثِه ، ماتخافيش مني ، دي الحاجه الوحيده
اللي اقدر اقولها لك دلوقتي ، ماتخافيش مني، بقيه الكلام المهم نبقي نقوله في وقت تاني لما
تهدي!! وترك فنجان القهوة دون أن يمسسه، واستأذنَ وغادرني وصدى صوتِه يتردد في
روحي ، ماتخافيش مني!!
ازاي
يا حسن مااخافش منك ؟؟؟ ومراتك وبنتك والناس ورحيم وماتخافيش مني والله ، ماتخافيش مني!! وأبكي مقهورةً عاجزة عن التفكير والتصرف ، وكأني ما زلت
في المَدرسة أتعثر في كل القيود التي نسَجَها الجميع حولي كخيوط العنكبوت تقيدني
ولا يراها ولا يشعر بها غيري ، الخوف
يتملكني من أبي وأُمي، والعائلة والأقارب، والغرباء وكل الناس ، الخوف يتملكني فلا
أملك إلا دموعي أذرفها ساخنة، أتمنى عونًا لا أعرف مِن أين سيأتي ولا متي؟؟ ماتخافيش
مني والله ، ماتخافيش مني يا بشرى، وأتمنى أن أقول له حاضر لكني لا أقول !!
هامش - حسن
أنت
كاذبٌ ومراوِغ يا حسن، لكنك بارع حتي كدت أُصدقك ، هذا الصوت أعرفه ، إنه صوت
سيادة الدكتور سليمان الوهيب ، جلس بجواري في السيارة وأنا ذاهب لشيرين لأسهر معها
وتليفوني مغلق لأني مشغول بالعمليات المهمة
كما تظن مايسة ، كاذب ببراعة ، يضحك ويضحك ، أهز رأسي نفيًا لست كاذبًا يا دكتور
سليمان ، ينظر لي بطرف عينِه ، أضحك ، مش قوي يعني، يضحك وأضحك وأُكمِل
سيري مسرعًا في الشوارع المزدحمة، لكن عينيها تلاحقانني وكأنهما يرغبان أن يخترقا
جمجمتي بحثًا عن الحقيقة ، يودِّعني الدكتور سليمان ويتمنى لي وقتًا لذيذًا مع
عشيقتي المثيرة ، أودّعه وعلى طرف لساني قول لم أَجهر به ، لست كاذبًا يا دكتور
سليمان ..
شعور
غريب يجتاحني حتى أتمنى أن أعود لها وأقسِم لها أني لست كاذبًا علّ الدكتور سليمان
يصدقني ، يُدخِل رأسه من نافذة السيارة وأنا أركنها أمام البار الذي سأقابِل فيه
شيرين ، يُدخِل رأسه ويهمس ، المهم انت تصدق نفسك !! أُلقي مفتاح السيارة
للمنادِي الذي يهلل مرحبًا بي وألوِّح لطيف الدكتور سليمان مودعًا وأنا اؤكد له أني
لست كاذبًا ، ربما كاذبٌ بعض الشيء لكني لن أكون ، أعِدك!! وأَدخل البارَ بوجهي
العابث، وأفتح حضني لشيرين ومجونِها، وأطرد بشرى وعينيها من البار وأزجرها؛ لأن
السيداتِ المحترمات مثلها لا يليق بهن التواجد في مثل هذا المكان وسط الساقطات، وأغضب
جدًا لأنها تسللت من خلف ظهري لهذا المكان المنحَط !!
( 20 )
" أين أنت يا حسن ؟؟"
سألني
أبي ، مالك يا مايسة؟؟ فكرت لثانية أن أقول له إن حسن اختفى ولا أعرف مكانه
، لكني جبنت وخفت من أبي ورد فعلِه العنيف ، ولا حاجه، مصدعه شويه ، ألح أبي
، يعني كله تمام ؟؟ أيوه .. وأنهيت المكالمة بسرعة قبل أن يختنق صوتي ببكاء
العجز!!
أين أنت
يا حسن؟؟ ها هو اليوم الثاني أوشك أن ينتهي وأنت ما زلت غائبًا ، يبدو أنك فعلا
كنت تتصرف بجديةٍ لم أصدقها في البداية ، يبدو أنك رحلت بغير رجعةٍ دونما تفسيرٍ أو
شرح ، كالأسد الحبيس في قفص ضيق أدور وألُف حول نفسي ..
تطلبني
كريمة تسألني عن الدكتور، أقول لها بخير، وأنهي المكالمة بسرعه قبل أن تسألني بخير
ازاي ؟؟
أتخبط
ككُرة الإسكواش بين الجدران الملساء ، أبحث عن أي شعاع يهديني وسط الظلام الدامس لأي
فكره تنقذني من جنوني الذي يتسلل ببطء لعقلي ورأسي ، وكأني أعيش كابوسًا، أصرخ وأتمنى
أن أستيقظ منه ، كأني أرى فيلم رعبٍ يخطفني أشراره من طمأنينتي ويلقون بي في
الفراغ المرعب وحيدةً فزِعة ، أُحلِّق في الفراغ وكأني بالونة هيليوم أفلت رباطها
من أصابعَ صغيرةٍ فحلقت في السماء صوبَ اللاشيء ، أبحث عن حسن الذي ما تصورت أبدًا
أنه سيبعد عني ، أبحث عنه في عالمه الذي لا أعرفه ولم يسمح لي أبدًا بالاقتراب منه
، أحاول أن أكتشفه من أول وجديد ، أحاول أن أكتشفه بحق وليس بما سمح لي قبل ذلك
باكتشافه ، قاسٍ لحد لا يمكن أن أصدقه عنه ، قاسٍ لحد أنه تركني أحترق بحيرتي غير
مكترثٍ أو عابيء ، قاسٍ لحد أنه ضَن علىّ بالشرح والتفسير ، قاسٍ لدرجة أنه يوجعني
وهو يعرف غير مهتم ، كيف تفعل بي ما تفعله الآنظ تختفي وتتركني عاجزةً عن الفهم
وعاجزةً عن التقبّل ، وعاجزةً عن الشرح للآخرين الذين يسخَرون مِني وأنا قليلة
الحيلة بلهاء ؟؟
ما زلت
في القفص الضيق الذي يزداد ضيقًا وتقترب قضبانه من جسدي المعتقل أكثر وأكثر ، تضغط
علىّ ، تخنقني ، تضيق أكثر وأكثر ، ابتسامته الساخرة تَظهر لي وكأنه يغيظني ، هو
حيث أراد وقتما أراد، يعيش ما رغبَ فيه بمنتهى الأنانية، وليذهب العالم كله للجحيم
، وأنا محبوسة محتجزة معتقَلة في بيته مع ابنته، مع مشاعري وحبي وخوفي وعجزي،
بلهاء ساذجة أفكر فيما لا أعرفه، وأحاول أن
أكتشف ما تَعمّد أن يخفيه عني ، هل تعاقبني يا حسن على خطأ لا أعرف؟ه ولا تكترث حتى
لتشرح لي خطأي؟؟
صرختُ
فجأة ، هو لا يعاقبني ولا يغيظني ، هو في الحقيقة لا يكترث بي ولا يفكر فيّ ، أنا
جزء مما يهرب منه ، وربما كنت أنا التي يهرب منها بالأساس ، لا يكترث بي، ولا يفكر
فيّ، ولا يعاقبني، ولا يكافئني، أنا لست موجودةً معه وعنده ، أنا شيء تركَه ورحل ،
مثل العيادة والمَرضي والنقود التي في البنك والسيارة !!
أين
سيارته ؟؟ هل سافر بها ؟؟هل تركها وتحرك بغيرها حتي لا أتتبعه منها ومِن خط سيرها؟!!
ضحكتُ
ضحكًا هستيريًا ، أراني مخبِرًا بنظارة سوداءَ ويخفي وجهَه بجريده بالية، ارتدى
معطفًا قديمًا وهو واقف تحت المطر أمام عيادته علّني أراه وأسير خلفَه وأعرف سره وأقبض
عليه ، ضحكٌ هستيري مجنون أخافني على نفسي وعقلي ، كوابيس تطاردني في يقظتي وأفكار
حمقاء تقبض على رأٍسي، وضحك أحمق يداهمني، لقد جُنِنت فعلا ، هل هذا ما ترغب فيه
يا حسن ، أن أُجَن؟؟ أم أنك لا تكترث بي أساسًا؟ وحتى لو جُنِنت فلتذهب للجحيم يا حسن
، فلتذهب للجحيم أنت وأسرارك وغموضك ورحيلك واختفاؤك ، فلتذهب للجحيم أيها الأناني
المجنون!!
أين أنت
يا حسن؟؟ ضحِكٌ هستيري يتردد صداه في جنبات الغرفة المغلقه المحتجزة فيها أنا،
ومخاوفي، وجنوني !!
هامش - فاطمة
سألتني
زميلتي في المحل ، مالك يا بت ؟؟ حيكون مالي يعني ؟؟ بعصبيةٍ وغضب انفجرتُ
فيها لا أُطيق سؤالها ولا كلامها ولا حياتي كلها!! قفزتْ بعيدًا عني ، أتاني مدير الوردية غاضبًا
، افردي بوزك يا بت ، فتحتُ فمي على مصراعيه، ورسمت ابتسامة مجنونة على
وجهي، وسألته بعصبية ، حلو كده؟ أشاح بيده في وجهي ، اعدلي وشك يا بت
لاعدلهولك ، أغلقت فمي ومحوت ابتسامة الزيف ولمعت الدموع في عيني ، لا ده
انتي حالتك صعب قوي ، خدي اجازه احسن لك ، انفجرت فيه بصوت خفيض وغاضب ، على
حساب مين؟ على حسابك ؟؟ بقولك ايه والنبي تحل عني الا مش ناقصه رواقة ، صرخت
فيه فابتعدَ عني وهو يظنني مجنونة!!
في الحقيقة
، ظنُّه في محله ، لقد جُنِنت فعلا ، دخلت لغرفة تغيير الملابس وانفجرت في البكاء
، أحِس قهرًا رهيبًا لا أعرف له حلا ولا خلاصًا ، أُدرِك أني مجرد بائعة حلويات
على قد حالي، وأنه الدكتور المشهور بالغ الصيت ، أدرِك أن الفارق بيننا هو الفارق
بين السماء والأرض ، أدرِك هذا منذ اللحظة الأولى، ويدرِكه هو أيضًا ، لِمَ اقتربَ
مني؟ لِمَ رفع بيننا الحواجز؟؟ لِمَ هدمَ الجدران العالية؟؟ لِمَ تباسَطَ معي
وغازلني وبثني شوقَه وهيامه ؟؟ لماذا انتَبَه لوجودي أساسًا وهو المحاط بالجميلات
الثريات الأنيقات؟؟ لِمَ أصَر أن يقترب مني وزاد إصراره وقتما صددتُه واتصل بي بدلا
من مرة عشر مرات؟ وزار المحل كل يوم وأثنى
علىّ لمديري وقال له إني بائعة بارعة، وإنه لن يشتري إلا مني وطلب لي مكافأة
استثنائية؟ لِمَ مَد حبال الوصل بيننا وأَظهر اهتمامًا وحنانًا؟ وسألني عن أُمي
المريضة وطلب مني أن أصحبها لعيادته؟ لماذا وألف ألف لماذا ؟؟
وحين
تعلقتُ به ووقعت في حبه يائسةً خائفة لأني حكمت على نفسي بالموت، وهو الذي أبدًا
لن ينظر لي ولن يراني ، فتحَ لي طريقه ودعاني أسير معه فيه، وأكدَّ عليّ أنه يعرف
الفوارقَ بيننا لكنه يحبني ويحبني أنا ، يومَها جحظت عيناي من الفرحة وعدم التصديق،
وانهمرت دموعي التي أخذ يجففها بمنديله الحريري ، يومَها قال إن لون عينَي يعجبه،
وإن نظرتي الناعسة كلها حنان يفتقده ، قال لي إنه متزوج من سيدةٍ فُضلَى أُم ابنتِه،
وإنه أبدًا لن يهدم بيته ولن يطلِّقها من أجلي ، نَعم هو يحبني أنا، لكنه لن يهدم
بيته ويشرد طفلته بأنانيته ، يومَها قال لي إنه يحبني وإن براءتي أَسَرَته، وطيبة
قلبي أَعجَبته، وطلب مني أن أصبر عليه حتى يرتب أموره ويرى كيف سنكون معًا وللأبد
، هل صدقتُه وقتَها ؟؟ طبعًا صدقته ، كنت أتمنى أن أصدقه ، انتظَرَني في سيارته بالقرب
من المحل ، فتح لي الباب وأجلسني على مقعدها الوثير بجواره ، أهداني سلسلةً ذهبية بقلب
صغير ، دعاني للعشاء ، قال إنه يتمنى يجرب معي بعض سعادة الحياة التي لا يعيشها مع
زوجته المتعجرفة ، أكَلنا في أحد المحلات على الرصيف ، أكل بيده وترك الشوكة
والسكينة حتى لا يحرجني ، قال إنه معي يعيش نفسه ويكون ما يحبه، ويتحرر من الشكليات
الزائفة والقيود الخانقة ، قال إنه يتمنى لو خلع البذلة والكرافتة وارتدى جلبابًا
مريحًا مثل جلباب جَده ، قال إن جَده فلاح لم يخلع الجلباب أبدًا ، قال إني أُذكِّره
بجَدته الطيبة وإني أُشبِهها ، هل صدقته؟ طبعًا صدقته ، ولِمَ لا أُصدقه ؟؟ كيف أشُك
في أنه يكذب علىّ أو يتلاعب بمشاعري؟ مَن أنا ليكذب علىّ الدكتور حسن الوهيب؟ مَن أنا
ليتلاعب بمشاعري؟ مَن أنا ومَن هو لينظر لي أساسًا؟ هل صدقتُ كل ما قاله؟ طبعًا
صدقته ، كنت أتمنى أن أصدقه ، عيناه اللامعتان، وابتسامته الجميلة، وطيبة قلبه،
والسعادة الظاهرة عليه وهو بصحبتي يأكل على الرصيف، ويسمع أغاني المهرجانات، ويقف
بسيارته الفارهة على الكوبري ويأكل دُرَة وحُمّص الشام ويشتري لي سميطًا وجِبنة ،
كل هذا أكد لي صدقه وأنه معذَّبٌ مع زوجته المتعجرفة التي تضيق عليه وتحرمه من
المتع البسيطة والفرحة التي يعيشها معي ، صدقته طبعًا وكيف لا أصدقه؟ شهورًا طويلة
يلاحقني، وشهورًا أطول يصاحبني من مكان لمكان، ومن متعة لمتعة ، كيف لا أُصدقه؟؟
شهورًا أنتظره يرتب نفسه وهو يعِدني كل مرة أنها هانت واقتربت ، وقريبًا سنكون معًا
وللأبد ، صدقته ، طبعا صدقته ، ولماذا يكذب علىّ؟ ومَن أنا ومَن هو ليرهق نفسه
ويكذب عليّ؟ كنت أراه بعض الوقت النادر القليل ، لكنه كان يحتل بقية الوقت والحياة
كلها ، لا أتصل به إلا قليلا، لكني أُفكر طيلة الوقت أن أتصل به ، أنتظِره طيلة
الوقت ، وانتظاره منحني جمالا وحبًا للحياة ورغبة في النهل من سعادتها ومتعتها ،
وهانت وقربت قوي ، وبعدين ؟؟ ولا قبلين !!
فجأة
، اختفى ، كما أَقبلَ غاب، وكما أغدقَ نضب، وصرت معلّقة في حبال العشق الواهية أنتظِر
حبيبًا لا أجروء على السؤال عنه ولا الجهر بحبِّه ، والصد والهجر يقتلانني كل ثانية
ألف ألف مرة!! وماذا بعد ؟؟
وأبكي،
وأبكي، وأبكي، وأبكي .. وأبكي ......!
( 21 )
" انتي كويسة ؟؟ "
اتصلتُ
بها لأطمئن عليها ، انتي كويسة يا بشرى هانم ؟؟ ايوه يا دكتور .. طيب الحمد لله
، وصحتك؟؟ الحمد لله ، الحمد لله ، مع السلامه ، بصوتٍ حانٍ مرتبِك تهمس ،
مع السلامه يا دكتور .
مشاعر
متناقضة تجاهَها ، أتمنى أن أقتحم عالمها الموصَد وأُطمِئن خوفَها ، وأغضب منها
ومن صدها، ومن النبرة الرسمية التي تكلمني بها ، أُصمِّم أحيانًا أن أغزوَها وأتوعدها
وأنا خارج من البار وشيرين تقبض على ذراعي وتتمايل علىّ ، أصمّم أن أغزوها وأطرق
بابها في تلك الساعة المتأخرة من الليل وأصارحها برغبتي فيها، والاقتراب منها
والاحتماء بدفئها من الصقيع الذي يحيطني ، أشعر بهذا أحيانًا ، أحيانًا أخرى وأنا
على فراشي وظهري لمايسة وهي تقترب مني وتلتصق فيّ وأنا أبتعِد عنها وأنكمِش داخل
نفسي ، أتمنى أن أطلبها في التليفون وأصرخ فيها مَن تظنين نفسكِ أيتها المتعجرفة
لتصديني؟ ألا تعرفينني؟ ألم تسمعي عني ؟ ألم تروادك الرغبة للاقتراب مني مثل شيرين؟
والالتصاق بي مثل مايسة؟ ومجرد الكلام معي مثل فاطمة؟ ألا تفتقدين نظرات حناني مثل
كريمة؟ مَن تظنين نفسك أيتها المتعجرفة ؟؟ أتمنى أن أطلبها وأصرخ فيها ، لكن
الصقيع الذي يلفني ويوجع روحي يذكرني بما أعيشه وبما أفتقِده ، كل هؤلاء النسوة لم
يُفلِحن في أن يبددن الصقيع، ولم تمنحني روح أي واحدة منهن أيَّ دفء ولا حنان ، هي
فقط التي منحتني الدفء ، أحتاجها ، هذا ما أعرفه جيدًا ، أحتاجها وأتمنى أن تحتاجني
، أتمنى الاقتراب منها وأتمنى أن تفتقِد قربي ، أتصِل بها لأطمئن عليها ، نبرة
صوتها ترجف روحي ، الدفء الذي ينبعث من روحها يصلني ويطمئني، ويوجعني ويشعرني بما أفقده
وأفتقده !!
هامش - بشرى
أسبوع
كامل لم يتصل بي ، عددتُ الأيام وأحسستها ثقيلةً بطيئة ، أنتظر اتصاله كل ثانية ، أفر
من رحيم ونظراته اللائمة، ومن أبي وصارم أوامره وأنتظر اتصاله ، لو دعاني للسينما
سأذهب معه، ولو قال إنه سيأتي ليشاهد معي مباراة كأس مصر سأرحب به ، لو قال إنه
سيمر علىّ لنأكل آيس كريم سأوافقه ، لو
طلب مني فنجان قهوة في صالوني الأنيق سأدعوه ، لكنه لم يتصل ، يوم والثاني
، عصبيتي تزيد، وغضبي منه يزداد أكثر ، لن يتصل بي ثانية؟ فكرة طرأت على رأسي ، خوف شديد اجتاحني ، كدت أبكي لأني تصورت أني
فقدته للأبد، وأظنني فقدته فعلا للأبد !! أسبوع كامل مَر علىّ باردًا وسخيفًا ، ممِلا
وموحِشًا ، أمي سألتني عن سبب عصبيتي ، قلت لها يعني مش عارفه؟ تصورت أن
عصبيتي سببها رحيل زوجي ، قالت ادعي له بالرحمة ، قلت برتابة ، أدعو ، صرختُ في
الخادمة لأنها لم تأتِ في ميعادها ، بكيت وقتما وجدت تليفوني مغلقًا أخرسَ لأن
البطارية فرغت ولم أنتبِه ، تصورت أنه حاول أن يكلمني وفشل !!
أسبوع
كامل أنتظِر اتصاله ، اليوم ومع فنجان قهوتي النهارية ، شاهدت اسمَه على تليفوني
المحمول ، كدت أصرخ من المفأجأة والخوف
والفرحة ، باتطمن عليكي ، همس وانتظرَ ردي ، تمنيت أن أدعوه على فنجان قهوة
لكني خرست ، انتي كويسة؟ سألني وهو لا يقصد يسألني عن صحتي بل يقصد يسألني ألا
تفتقديني طيلة الأسبوع ؟؟ لو سألني بشكل واضح عن مشاعري طيلة الأسبوع لبحتُ له
بالوحشة التي تملكتني، والخوف الذي اجتاحني، لكنه لم يسألني ، كلمتان والثالثة وأنهى
المكالمة ، بقيت أحدق في التليفون المحمول وكأني أنتظِره أن يطلبني ثانيةً، لكنه
لم يفعل !!
ثابتةٌ
مكاني كتمثال حجري، ومشاعري بليدة لا أفهم ما الذي يحدث بيني وبين الدكتور حسن الذي اندفع صوبي
فصددتُه ، أو هكذا تصوَّرَ ، فثبتَ مكانه وتمنيت لو أناديه لكني لم أفعل ، ما الذي
يحدث وسيحدث؟؟ لا أعرف لكني ما زلت خائفة !! وكأنه يسألني مِني؟؟ وأتمنى أن يسألني
لأجيبه ، لا خالص مش منك بالعكس .. لكنه لم يسأل، وما زال كل ما يحدث غامضًا
مخيفًا!!
( 22 )
" اُمّال راجل ازاي !؟؟"
ضحكتْ
جَدته الحاجّة منصفة حين شكَت لها رقية أن صغيرها حَسن مثل أبيه، قليل الأدب وبلا
أخلاق، وأنه يتلصص على الخادمة الصغيرة وهي تغيّر ملابسها من شق الباب ، ضحكت
الحاجّة منصفة ولامت رقية على كلامها الخايب ، وهي دي قله ادب يا رقية ؟؟ امّال
ايه يا ماما ؟؟ لا قله الادب انه يرد عليكي ، مايسمعش كلام ابوه ، وقتها اه نزعل
ونكسر رقبته ، لكن دي مش قله ادب. لا تصدقها رقية ، امّال ايه يا ماما ؟؟
شرحت
لها منصفة إنه راجل من ضهر راجل وانه
مثل ابيه وجده وكل رجال العائلة ، رجاله تشرف ، لم تفهم رقية ما تقوله منصفة ازاي يعني؟ ضحكت منصفة ، بُكره تفهمي،
ولا مش مهم!! أمرَتها منصفة أن تتركه وشأنه يكبر ويتعرف على الدنيا بطريقته،
وطمأنتها أن الخادمة الصغيرة ستخافه، ولن تشكوه لأحد، ولن تذيع سره ولن تنطق، ولن تضيرها
نظراته العابثة. وضحكت وهي تشرح لرقية إن بُكره كمان حيزنق البت في الحيطة
ويجرب فيها اللي نفسه يجربه !!
فزعت
رقية من كلام منصفة ومن طريقتها في الحديث فرِحةً فخورة بجريمة الصغير وقلة أدبه ،
قالت إنها ضربته وهددته أن تشكوَه لأبيه، وتوعدته لو فعل ما فعله مرة ثانية ستعاقبه
عقابًا شديدًا ، ضحكت منصفة لأن زوجة ابنِها خايبة ومش فاهمه حاجه، قالت
لها لو أخبرتِ أباه بما فعله حَسن لفرح به وشجّعه وتباهى به؛ لأنه ابنُه بصحيح ،
حذّرتها من أن تتعرض له ثانيةً في كل ما يفعله، وناشدتها غمضي عينك يا رقية ولا
كأنك شايفاه ده راجل وما يعيبوش غير جيبه وخيبته بعيد يا شر ، فما تخيبيهوش جنبك
الله يخليك، وسيبه يتعرف على الدنيا، والصغير النهارده بكره يكبر، ولازم يرفع راس
ابوه واسم عيلته ويشرفنا والراجل اللي مش راجل يفضح ويقصف العمر ومالوش لزمه
ولاينفع طبله ولا طار يكفينا الشر ...
نادته
منصفة فرِحةً فخورة به، واحتضنته ومنحته جنيهًا ليشتري ما يريد، ونظرات رقية الفزِعة
لا تفهم ما الذي تفعله الجَدة العجوز مع حفيدها الصغير وسنوات عمره الثمانية،
وكأنها تشجعه على قله أدبِه ، معقوله كده يا ماما ؟؟ ضحكت منصفة وهمست
لرقية إلا معقولة ، طبعا معقوله جدا ، ده راجل يارقية راجل ، عايزاه ايه ، يشد
الجيبه على ركبته لما يقعد ؟؟؟ سيبه يارقية الله يخليك ومالكيش بيه صالح وربنا
كريم ينصفنا بيه ويعلى اسمه كمان وكمان ، سيبه يارقية ده مش بنت حتعلميها الحيا
والخشا وتكسري ضلعها ، ده راجل من ضهر راجل ولازم يتعلم يحرت الارض ويزرعها ، امال
راجل ازاي !!! وما زالت رقية فزِعة لا تصدق ما تسمعه، وما زالت الحاجّة منصفة
فرِحةً فخورة بحفيدها .. والاماره، والبشاره، والرايه، المرفوعه ....!
هامش - حسن
كنت
كعادتي أتلصص على جَدتي وأُمي، وأسترق السمعَ لحديثهما، أُمي تشكوني لجَدتي، وجَدتي
تضحك ساخرةً من قيود أمي وصارم أوامرها ، تشكوني أمي لجَدتي لأني اختلست بعض
النظرات البريئة للخادمة الصغيرة التي تعمل في منزلنا ، لم أفعل يا أمي ، تمنيت أن
أقول لها إني لم أقصد أن أنظر لها ولا أن أحدق فيها ، مجرد صدفة سعيدة قادتني لباب
غرفتها وكان ما كان ..!
ذات
يوم يا رقية هانم ، وبالصدفة البحتة فتح البيه الصغير "حسن بيه" كما
تناديه الخادمة سميرة ، فتح عليها باب غرفتها لا يقصد تلصصًا ولا اختلاس نظرات ولا
قلة أدب كما تظنين ، فتح الباب عليها فوجدها عاريةً بقميصها القطني الخشن وذراعيها
العاريتين، وشَعرها المبلول مبعثر على كتفيها ، ارتبكت سميرة وصرخت " يا لهوي
" وخاف البيه من صراخها فأغلق
الباب مسرعًا وكأنه ارتكبَ إثمًا وجريمة ، خاف البيه من صراخها وخرج مسرعًا من
الغرفة ، لكن ذراعيها العاريتين وقميصها القطني الخشن وفتحة صدرها الواسعة لم
يفارقوا خيالَه ، فجأة اكتشف البيه اللي هو حضرتي ، اكتشف أن لسميرة أسرارًا
تخفيها عنه، وجسدًا تبعد عينيه عن اكتشافه ، صرختها ، يا لهوي ، لم تفارق أُذُني
، أتذكرها فابتسم وأضحك ، أتذكر ارتباكها وانتفاضتها وذراعيها اللتين عقدتهما على
صدرها فأبتسِم وأضحك ، في البداية كنت أبتسم وأضحك ، لكنّ إحساسًا آخر لا أعرفه
ولم أفهمه صار يداهمني كلما تذكرت سميرة في تلك اللحظة ، إحساسٌ اخر كالجوع يقرص
جوفي، يستفزني، ويدفعني لأكتشف سرها الكبير ، يا لهوي؟؟ ما الذي تخبئينه عني يا سميرة؟ ما الذي خِفتِ
عليه فعقدتِ ذراعيك أمام عيني تحجبين بصري عنه ؟؟ والإحساس الغريب يكبر ويكبر ،
يستفزني أكثر وأكثر ، وصرت لا أفكر إلا في سميرة وسرها وما تخفيه ، يا لهوي ،
صرخة لا تعرف ما الذي تفعله فيّ وقت أن ترن في أُذُني، أرتبِك، أتلعثَم ، سأطرق
عليها الباب وأسالها ما الذي تخفينه؟ لماذا صرختِ؟ وما الذي تخبئينه عني؟ سأفتح
الباب فجأة وأدخل الحجرة وأسالها لماذا صرختِ يا سميرة؟ سآمُرها أن تخلع جلبابها وتكشف
لي قميصها القطني الخشن ، سآمرها أن تُبقِي ذراعيها لصيقتين بجسدها وألا تخفي عن
عيني ما أخفته المرة الفائتة ، سآمرها وستطيعني ، ألستُ أنا البيه التي أتت سميرة
منزلنا لتلاعِبه؟؟ لقد سئمتُ كل الألعاب التي لعبناها معًا ، السبع طوبات، وصيادين
السمك، وتماثيل إسكندرية، سئمت كل الألعاب ولم أعُد أفكر إلا في لعبة واحدة ، أن أدخل
عليها الحجرة وآمرها أن تخلع جلبابها وتكشف لي قميصها الخشن !!
خِفتُ
من أمي أن تقتلني لو عرفت ما أفكر فيه ، خِفت أن تشكوني لأبي لأني قليل الأدب وأفكر
فيما لا يجوز أن أفكر فيه ، ولِمَ أُعرّض نفسي لغضب أمي وجموحها؟؟ لو دخلت الحجرة
على سميرة ربما تصرخ مرة أخرى يا لهوي يا لهوي ، ربما تدفعني بقبضة يدها
القوية في صدري ، ربما تسحبني من ذراعي وتشكوني لأمي مثلما فعلتْ يومَ قصصتُ بعض شَعرِها
وهي نائمة، يومَها استيقظتْ فزِعة تصرخ، وحين لمحت المقص في يدي وخصلات شَعرها
مبعثرة على مخدتها ، يومَها سحبتني من ذراعي لأمي وصرخت وبكت وعاقبتني أمي عقابًا
شديدًا وحرمتني من الخروج من غرفتي ثلاثة أيام، وأجبرتني أن أعتذر لسميرة لأني
قليل الأدب ، ما الذي يضمن لي ألا تسحبني سميرة من ذراعي لأمي وتشكوني لها أنا وأفكاري
قليلة الأدب؟ فكرت طويلا في أمي وعقابها، وقررت ألا أُعرّض نفسي لغضبها ، هل سأُخرِج
سميرة من رأسي؟ أرغب في هذا ، أُخرِجها هي والإحساسَ الغريب الذي ينهش في جوفي ،
لكن الإحساس لا يغادرني، ولا رغبتي المحمومة في اكتشاف عالمها الخفي الذي صرختْ
بسببه يا لهوي ، وتعلمت أن أسير على أطراف أصابعي وأنتظر نومَ أمي بعد
الغذاء، وأتسلل من غرفتي صوبَ المطبخ ، أشرب بعض الماء ، هذه حجتي لو سألتني أمي
لماذا ذهبتَ للمطبخ؟ ذهبتُ لأشرب ، أتسلل من غرفتي للمطبخ ، أشرب بعض الماء وأسير
بخفةٍ أكثر وأكثر صوب حجرة سميرة الملاصقة للمطبخ ، تدخل بعد الغداء وغسيل الأطباق
ونوم أمي ، تدخل للغرفة ، تبدّل ملابسها بأخرى تخدمنا بها بقية اليوم ، أعرف كل
هذا وأتربص بتلك اللحظة ، أتربص بتلك اللحظة ، حين ترفع ذيل ثوبها لأعلى وتسحب
جسدها من الجلباب وتبقي بعض الوقت بقميصها
القطني ، لا تغلق الباب عليها ، طبعًا لم تتصور أن البيه الصغير اللي هو انا
، بدأ يفكر في مثل تلك الأشياء ، تراني طفلا صغيرًا لا يشغله إلا اللعب والرسم
ومباريات الكرة وركوب الدراجات ، لا تتصور أن الطفل الصغير يعاني إحساسًا غريبًا
ينهش جوفه ويدفعه بإصرار لاختلاس بعض النظرات لجسدها وقميصها الخشن وذراعيها العاريتين
... ويوم وعشرة، وربما أكثر أو أقل لا أذكر ، أفلحتُ في أن أقف ثابتًا كتمثال لعبة
تماثيل إسكندرية كاتمًا أنفاسي أختلِس النظرات من شق الباب المفتوح ، أراها وهي تخلع
ثوبها وتبقى بقميصها الداخلي بعض الوقت، ثم تسحب جلبابًا آخر وترتديه وتربط شَعرها
بإيشارب نظيف، وقبل أن تمد أصابعها على مقبض الباب وتفتحه أُحلّق مسرعًا لحجرتي، أُحلِّق
مختفيًا من أمام بابها، وحين تفتح الباب وتناديني لنلعب ، أرفع صوت شخيري الزائف
فتبتسم لأني نائم وسأرحمها بعض الوقت من ضجيجي وصخبي !!
يوم
وعشرة ، أختلِس النظر لجسدها وأهتك ستر سرها الصغير وأبتسِم، لا أعرف سببًا، والإحساس
الناهش في جوفي يهدأ ويستكين ، لكن أمي لم تتركني في حالي ، ذات يومٍ صرختْ في أُذُني
وأنا خلف باب سميرة ، صرخت ، بتعمل ايه هنا يا ولد؟!!
وكانت
الفضيحة التي كبَّرتها أمي ، نهرتني وعاقبتني على قلة أدبي وسوء تربيتي، ونهرت
سميرة لأنها لا تغلق عليها باب الحجرة، وأنها قليلة الأدب والتربية، وهددتها أن تعيدها
للقرية مع البهائم لأنها واحدة منها ، هكذا قالت أمي ، بكت سميرة وأقسمت أنها لم
تفعل شيئا ، سمعتها فكررت على أمي ما قالته سميرة ، لم أفعل شيئا ، صرختْ أمي وكنت
عايز تعمل ايه كمان يا قليل الادب؟ ولم أكن وقتَها أفهم ما الذي يمكن عمله؟
ولماذا تصفني أمي بقلة الأدب؟ لم أفعل شيئا إلا محاولة اكتشاف السر ، بعض النظرات
المبعثرة وأعود لغرفتي وفراشي ، شكتني أمي لأبي فضحِك ولامَها لأنها عملت من الحَبة
قُبة ، غضبت أمي منه وحذرته من إتلاف أخلاقي ، شكتني أمي لجَدتي التي أمرتها أن ترفع
يد عقابِها عني ، خاصمتني أمي أيامًا كثيرة، ولم تصالحني إلا بعدما وعدتها ألا أكرر
أبدًا ما فعلته، وأني سأكون دائمًا عن حُسن ظنها، وولدًا مؤدبًا .. وسوري يا مامي
!!!
لم
تفهم أمي أبدًا ما الذي كان يفور في روحي ناهشًا جوفي ، لم تفهم أبدًا أن بعض
النظرات السريعة للقميص القطني الخشن والذراعين العاريتين كان يُسكن إحساسي
ويسعدني ..
ابتعدتُ
عن باب غرفة سميرة كما أمرتني أمي ، لكن سميرة أبدًا لم تبارح خيالي ، أفكر فيها وفي
جسدها البض ، تأتيني في اليقظة والنوم ، تصرخ يا لهوي ، فأصرخ يا لهوي
، ويا لهوي هذه غير تلك ، تأتيني في الكوابيس تهددني أنها ستشكوني لأمي
وتأتيني في اليقظة فرِحةً وكأنها سعيدة بنظراتي المتلصصة ...!
ابتعدتُ
عن باب غرفة سميرة ، لكن سميرة لم تبتعد عنها ، وأتت هي لغرفتي!! نَعم أتت لغرفتي
ولم تصرخ يا لهوي ولم أصرخ يا لهوي ، وكانت هذه قصه اخري .. يا لهوي
...يا لهوي ...!!
( 23 )
"إيه اللي جابِك هنا يا فاطمة؟ "
فوجئتُ
بها تفتح الباب بقوةٍ وتجرني بعنف من فراش جَدي، توقظني من عميق نومي ، فتحتُ عيني
لا أصدق أني أراها أمامي، فاطمة؟؟ قفزتُ على الأرض لا أصدق أن فاطمة عثرت علىّ في
المخبأ الذي فررتُ فيه منها ومن غيرها ، هل هذه المرأة المتنمرة شعثة الشعر عاقدة
الحاجبيْن هي فاطمة التي أعرفها منكسرةً خاضعة ممتنة قليلة الحيلة؟؟ ايه اللي
جابك هنا يا فاطمة؟ أسألها وأظنني أهذي، أتخيل، أتصور، ولا أعيش إلا وهمًا
غريبًا !!
أصرخ
فيها ، فاطمة !! لا أصدق ما أراه أمامي ، هل فعلا أظافرها الطويلة تمزق وجهي وتشوّه
ملامحي؟ هل الكلمات السافلة القبيحة التي أسمعها هي ما تتفوه به فاطمة؟ تسبّني وأهلي
واليوم الأسود الذي شاهدتْ وجهيَ الأغبر فيه؟؟ أدفعها بعيدًا عن وجهي وأبادلها
السباب بأقذع منه ، وأصرخ بتعملي ايه يا مجنونه يا بنت المجانين؟!!
ليه
يا دكتور عملت فيا كده؟؟ انا ماعملتش حاجه ، انتي اللي كان نفسك تحبيني ، نفسك
تبصي لفوق وتعيشي الوهم ، انتي اللي خدعتي نفسك وكذبتي عليها ، انتي اللي قررتي
تصدقي ان حسن الوهيب بجلاله قدره يحب واحده زيك ، انتي كانت نفسك تتخدعي وانا عملت
لك اللي نفسك فيه !!
تقفز
بأظافرها الطويلة صوبَ وجهي ثانية، تمزق فيه وهي تصرخ ، هي دي الحسبه اللي
بتنام وانت حاسبها وراضي عن نفسك وضميرك مستريح ؟ هي دي الحسبة ؟ اني انا اللي
عملت في نفسي كده؟!! طيب انا كان نفسي اتخدع وخدعت نفسي ، انت بقي يا بيه يا ابن
الاصول خدعتني ليه ؟؟!!
أدفعها
بعيدًا أصفعها بقوةٍ على خدها الأيمن ، تترنح وتطير عن الأرض وتسقط وتبكي وتنتحب ،
انا كنت بالعب!! تفتح عينيها رعبًا لا تصدقني ، تلعب؟؟ فجأة يَخرج حَسن
الذي كان صغيرًا ببنطاله القصير من خلف سرير جَده ويجلس بجوارها على الأرض بطيبة
وبراءة يمسح دموعها ويشرح لها ، كنت بالعب يا فاطمة ، هو انا مش صغير برضه ومن
حقي العب ؟؟؟ تحدق فاطمة فيه لا تصدق ما تراه ، بس انت كبرت يا دكتور ومش
من حقك تلعب بينا!! يضحك حسن وتدمع عيناه من كثره الضحك ، مين قال اني كبرت يا
فاطمة؟ ماانا لسه صغير قدامك اهو ، وبعدين انا ماكنتش بالعب بيكم انا كنت بالعب
معاكم وانتي قبلتي تلعبي معايا يا فاطمة ، زعلانه ليه بقي؟؟
ترتبك
فاطمة وهي على الأرض تبكي، وخدها الأيمن يوجعها من الصفعة الشديدة التي ضربها لها
الدكتور حسن، ودموعها يمسحها حسن الصغير بطيبةٍ ورِقة ، انت لسه بتلعب يا حسن! يضحك
حَسن ايوه ، لسه بالعب ولسه عايز العب ، تلعبي معايا يافاطمة ؟؟!!
تدخل
سميرةُ الغرفةَ وهي تنهرنا جميعًا ، شششش ، البيه الكبير نايم ولو سمع حسكم
حيدور فينا كلنا الضرب !! ينادي حسن الصغير سميرةَ ويسألها ، مش انا كنت بالعب
ياسميرة ؟؟ تضحك بخجل، ايوه بس كنت قليل الحيا ، تشرح لفاطمة ، كان
قليل الحيا من يومه ، بس الحق كان صغير
وبيلعب ، الست منصفة نادتني في المطبخ وطيبت خاطري وقالت لي ماقولش لحد على
اللي حصل في البيت لان البيوت اسرار وعلشان ابويا يفضل ياكل عيش في السرايه ،
وقالت البيه كان بيلعب وقلت لها طبعا كان بيلعب !! وبعدين الست رقية جابت ابويا
وعملت فضيحه وقالت له كلام معرفوش بسببه قطع جسمي نساير ، قلت له زي الحاجه ما قالت
لي ده عيل وكان بيلعب ، لطخني قلم على وشي وقالي لعب ايه يا قليله الخشا هو ده لعب
برضه ؟؟!! تشرح سميرة لفاطمة ، خفت اقوله لعب حتي اسال الحاجه منصفة ،
واتخرست!!
ينظر
لهما حسن الصغير ببراءة ، كنت بالعب ولسه عايز العب ، تلعبوا معايا ، لملمت
فاطمة دموعها ورحلت ، ما كنتش فاكراه لعب ، كنت فاكراه بحق وحقيقي !! سميرة
عقدت حاجبيها وقالت لحسن بغضب وعصبية ، كفايانا اللي نابنا من لعبك يا بيه ، حد
الله بيني وبينك!!
وبقيت
الحجرة خاويةً إلا مني ومن حَسن وقتما كان صغيرًا وجَدتي منصفة ، كفايه لعب
ياحسن ، اوان اللعب عدي وانت مفروض كبرت وعقلت وسيد الناس ، كفايه لعب ، وارسي على
بر ياحبيبي الا كثير النط قليل الصيد ، ارسي على بر ، ونظرت لحسن الصغير ونهرته ،
كفاياك شقاوه وكفايه اللي طاله بسببك وسبب لعبك !!
وأجلستني
جوارها على فراش جَدي وقالت ، دوّر عليها يا حبيبي واستسمحها واشرح لها حكايتك
وقول لها على اللي صار، وقول لها ان قلبك نوّر بحبها، وان اللي فات غير اللي جاي
وكل وقت وله أدان ...وقبل أن أرد عليها دخلت بشرى غضبى من الباب وسألتني بعصبية
، انت كنت بتلعب يا حسن؟؟ كنت بتلعب معايا انا كمان ؟؟ كدة برضه يادكتور يا ابن
الاصول ، كده برضه؟؟ همست كريمة التي فوجئت بها في منتصف الغرفة ، ما كانش
العشم يا دكتور ما كانش العشم تلعب بينا وتبهدلنا معاك كده ، ماكانش العشم ...
واستيقظتُ من النوم لا أصدق الكوابيس التي تفسِد نومي ونفسيتي وحياتي!!
جلست
على الفراش وأشعلت سيجارة، وعشت الكابوس مره ثانية وكأن الفيلم يعاد من أوله ،
وشاهدت فاطمة ودموعها ، وسميرة وخوفها ،
وكريمة وانكسارها ، وبشرى وغضبها ، همستُ ، والله بالذات معاكي انتي يابشرى
ماكنتش بالعب ، فصرخن جميعًا كداب يا حسن!! واستيقظتُ من النوم مفزوعًا
من صدى صوتهن العالي يدوّي في أُذُني ويكاد يحطم رأسي وجدران السرايه ويدفنني
تحتها!!
هامش - سميرة
هو
كان البيه وانا كنت الخدامه اللي كانت تلاعب البيه ، مخدتش بالي واحنا بنلاعبه انه
كبر، وان عرق الوهيب البصباص مادد لحداه ، مخدتش بالي ان العيل الاهبل الزنان اللي
طول الوقت ممروع وعايز الدنيا كلها في عبه كبر فجأة وعينه تتدب فيها ستين رصاصه
وعامل فيها راجل وال ايه بيزنق عليا في الحيطه!
الاول
ماخدتش بالي ، ولما خدت بالي عملت مش واخده بالي ، اجيب لروحي نصيبه ويكذبوني
ويصدقوه ويقطعوا عيشي ويفضحوني ويتبلي العيل عليا ويلبسني بلوى ؟؟ عملت روحي مش
واخده بالي ، كنت بازقه بعيد عني وامسك ايديه واقوله حاكسرها واهدده حاشيكك لامك لكن ولاعمري كنت حانطق ،
كنت اشوفه فين واقعد في حته تانيه ، الواد طلع حويط وكبر فعلا وانا مش واخده بالي
وسبق عليا واشتكاني لامه قال ايه مابلاعبوش!! امه على نيّاتها ومش هنا ، الاول
شخطت فيا وبعدين انتبهت ، زعقت له وفضحتني ، ومعرفش قالت لابويا ايه لكنه قالي وعينه بتطق شرار ، لمّي هدومك ونزل فيّا
ضرب ، ولما رجعت البلد قال لامي لازم نطاهرها ونجوزها ، وميل عليها وقال لها اللي
معرفوش ، خبطت على صدرها وقالت كده يا سميرة ؟؟
العيل
اللي كبر من غير مااخد بالي ، قطع عيشي ورجعني للبلد وفضحني افترا وزور وخلي ابويا
حلف عليا اول واحد يخبط على الباب يسلمني له بجلابيتي من غير شروط ولا حنة !!
بالحق
انا غلطانه اني سكت ؟؟ كان مفروض اسكعه كف وافضحه عن ابوه ، لا غلطانه ايه ؟؟
ولاعمرهم كانوا حيصدقوني ويكذبوه، انا حيالله حتة خدامه في البيت وهو البيه ابن
البيه ابن الهانم!
وأهي
الايام راحت لحالها وعدت واتكفي على الخبر ماجور وكلنا نسينا وكأنه عمره ما حصل ،
الايام راحت لحالها وعدت والبيه الصغير بقي البيه الدكتور، والنهارده عم الطوخي
بيقول ان جاي هربان من مصر وانه عاشق قلبه مكسور وانه مش طايق روحه ومش طايق حد
يكلمه!!
ده
ذنبي يا دكتور ، ذنبي ربنا بيخلصه منك ، والذنب حق لسه له بقيه ، وكل الحق حيوصل
لغايه عني وانا قاعده مكاني وسايبه ايدي .. وابقي قولي سميرة الخدامه قالت !!
( 24 )
" و.. أنا نسيته "
شهرانِ
مَرا والدكتور حسن لا يتصل بي إلا نادرًا ، اتصلَ مرتين، ثلاثًا، وربما أربعًا ،
لا أتذكر بالضبط ، فكرت فيه بعض الوقت وفي صمته وندرة اتصالاته، ثم قررت أن أتجاهله
وأتجاهل أحاسيسي ، قررت أن أرسم له إطارًا أعتقِله فيه ، الحق أعتقِل نفسي ، لكنه
الإطار الممكِن المتاح والمنطقي المقبول في الظروف المعقدة التي أعيشها ، هو مجرد
صديقٍ لرحيم اقتربَ مني ليواسيني، وأخذَته الأيام في عمله وحياته وزوجته وابنتِه
ونسيني ، أوجعَني ما قررته وما ظننته، لكني قررت أن أتعايش معه وأعيشه بمنتهى
الكبرياء ، هو نسيني وأنا نسيته، والأيام مرت ثقيلة باردة لأن زوجي رحل فجأة
وتركني ...
قضيت
الأيام خلف الأيام، والأسابيع خلف الأسابيع، بلا روح، بلا نفس، بلا حماس، أضغط على أزرار الريموت كنترول، أقلِّب في
القنوات ، أتابع البرامج ولا أسمع ما يُقال ، أشاهد الأفلام ولا أنتبِه لأحداثها ،
بعض الزيارات للأصدقاء تقتل بعض الوقت ، صداع يحطم رأسي ومسكنات تهوِّنه ، وفي
الليل وعندما أُطفيء كل أنوار الشقة ، أسمَع صدى صوتِه يحدثني ، لا أقصد رحيم ، بل
أقصد الدكتور حسن ، أسمَع صدى صوتِه يحدثني ، أتجاهله بالعمد وكأني لا أسمعه، وأقرر
لنفسي وبمنتهى الحزن أنه نسيني، وأقرر أني أيضًا نسيته، وأنام أنا وكوابيسي والوَحشة
!!!
هامش - حسن
ناديت
كريمة في نهايه اليوم المزدحم وسألتها ، هي مدام بشرى مش ليها استشارة؟؟ مدام
بشرى أرملة الدكتور عبد الرحيم الرواني مش ليها استشارة؟؟ هزت كريمة رأسها ، عارفاها يا دكتور عارفها
، بس ده كان من خمس شهور ، ميعاد
الاستشاره بتاعتها عدّى من زمان !!
دفنت
رأسي في الأوراق أمامي غاضبًا من اندفاعي وسؤالي الأحمق ، تقف كريمة أمامي تنتظر
بقية كلامي الذي أخرسته غاضبًا ، أطالت الوقوف وفي عينيها سؤال ملِح ، وايه اللي
فكرك بيها يا دكتور؟؟ يطول الصمت حتى تسألني ، أي خدمه يا دكتور؟ شكرًا يا كريمة ، ااقفلي الأنوار، وروّحي !!
بقيتْ
مكانَها وعيني في الأوراق المبعثرة تهرب من أسئلتها السخيفة، فيه حاجه يا كريمة؟
مستنيه حاجه؟؟ ابتسمتْ ، سلامتك يا دكتور، خلاص حامشي ، بس عايزه اقول
لحضرتك ان فيه كتير قوي من المَرضي ليهم مواعيد استشاره وماجوش مش ارمله المرحوم
عبد الرحيم بس! هززتُ رأسي بلا مبالاة مصطنعة، ان شالله عنهم ما جُم ، يلعن
ابوها على ابوهم !!! ألمح ابتسامتها
الساخرة، ونصرٌ صغير حققته علىّ وقتما أخبرتني أنها كشفت سري الذي أخفيه عنها ، تصبح
على خير يا دكتور!
وتَخرج
وأبقى وحدي حانقًا عليها، أتمنى أن أمزق وجهها بغيظي، فضوليه انتي يا كريمة،
وتتدخلي فيما لايعنيكي ولايخصك، سؤال
سألته ليكي واجبتي عليه وانتهي الامر ، مالك انتي وبقيه المرضي تفكريني بيه؟؟
هل استرحتِ وقت أن عرفتِ أني منشغل ببشرى وأفكر فيها وأتمنى أن أراها؟ ولو أتت للاستشارة
بعد خمسة شهور من ميعادها؟؟ هل استرحتِ؟؟ ملعون ابوكي، على أبوها، على أبو المرضى،
على أبوالحياة كلها!!
( 25 )
" عايز حاجه يا سي حسن ؟؟ "
أيقظَني
حفيف خطوات صغيرة بطيئة محلّقة صوب غرفتي ، انتبهتُ من نعاسي وسؤال لا أعرف إجابته
وقتها ، مَن سيفتح علىّ الباب الموصد ويقتحم غرفتي ويقتحمني في هذا الوقت؟ البيت
خاوٍ إلا من جَدتي النائمة في غرفتها ، وأبي وأمي لن يعودا من السينما مبكرًا، البيت
موحِش صامت، والليل مخيف، هذا ما كنت أحسه والنعاس يفِر مني ولا أقوى أن أعيد سُباتَه
لروحي ..
مستلقٍ
فوق الفراش أتصفح مجلاتي، ونُعاس خدِر يحاصرني وينتشل وعيي بعيدًا في غياهب
المناطق الغريبة الساكنة، هذا آخر ما أتذكره ، متى غفوت وسقطت المجلات على الأرض وألقِي
ذراعاي متخشبتين من فوق الفراش؟ لا أعرف ولا أتذكر ، لقد غفوت فعلا ، هذا ما اكتشفته
وقتما استيقظت على وقع الخطوات المحلقه صوبي ...
فتحتُ
عينَي الملتصقتين ببعضهما بصعوبةٍ، وكأن صمغًا يلصق جفنَي بخدرٍ ثقيل ، ألمح
خيالاتٍ تتراقص من أسفل الباب المغلق، ومحاولات وجلة لفتح مقبضِه الثقيل بيدٍ
مرتعشة ، يسقط جفناي فوق بعضهما ويلتصقان أكثر وأكثر ، حفيف الخطوات المحلقة
يعيدني لوعيي الغائب ، ما يزال مقبض الباب يرتعش مهتزًا ثقيلا وكأنه متردد يستجيب
لمحاولات فتحِه أو يقاومها ويحكِم إغلاقه ، اليد القابضة عليه ليست يدَ جَدتي
وقتما تقتحم خلوتي بمنتهى القوة والثقة ، وليست أصابع أبي القوية التي تكاد تخلع
الباب نفسه من حَلقِه ، وليست كف أمي الرقيقة الباكية وهي هرِعة تفتح الباب لتطمئِن
على وحيدها ، مَن يحاول فتح بابي والبيت خالٍ إلا مني ومن جَدتي ومن أشباح الليل؟؟
يسقط
جفناي مرة أخرى ملتصقين، وتسحبني يدٌ عملاقة من بعض الوعي لنفقٍ ساكنٍ صامت إلا من
أنفاس النعاس وخدر غفوته ، أردد على مسامعي وأنا أتأرجح بين الغفوة واليقظة، إنها
هلاوس النوم التي تصور لي ما لا يحدث وكأنه يحدث فعلا ، هلاوس تصوّر لي اقتحام غرفتي لسبب لم أعرفه بعدُ
كعادة كل الهلاوس في بدايتها، لكني سأعرفه وقتما تصل بي لنهاية جموحها وجنونها ،
هلاوس الليلة تصوّر لي وكأني معتقَل في زنزانة، وكأن سجّانها يفتح البابَ ويدخل،
في يده سوط يمزق روحي وجسدي وأمانيّ ، أردد على مسامعي وبصوت لا يسمعه إلا عقلي ،
لا تَخف يا حسن ، إنه مجرد كابوس ستعيشه بعض الوقت ويذهب ككل الكوابيس التي أخافتك
، لا تَخف يا حسن ، إنه مجرد كابوس يصوّر لك أن احدهم يتلصص على باب غرفتك، ويده
تحاول مرتعشة أن تفتحه، وأن ساقيه ستحمله إليك لينتزعك من فراشك ، كل هذه هلاوس يا
حسن لا تَخف منها ، صوت آخر يرد علىّ ويجيبني من داخل رأسي وتلافيف عقلي ، لا أشعر
خوفًا، وما أعيشه ليس بكابوس مزعج ، شيء مريح يجتاحني من هلاوس الليلة وتفاصيلها ،
شيء مريح يجتاحني وكأن هلاوسي الليلة تخطفني لحلم رقيق يهدهد روحي ويسعدها ، شيء
مريح يجتاحني وأسكن لهلاوسي وأنتظرها تفصِح عن غموضها وغرائبها ..
أشُد
جفنَي بعيدًا عن بعضهما ، أشُدهما ومعهما أجذب وميض بعض الانتباه واليقظة من قاع
جمجمتي ، ما أعيشه حقيقةً وليس حلمًا رقيقًا ولا هلاوسَ غريبة ، ألمح شعاعَ ضوءٍ
شاحب يتسلل لغرفتي من الشق الصغير الذي أفلحت اليد المرتعشة الممسِكة على مقبض الغرفة
في فتحِه بين الباب الثقيل وحلقِه الراسخ ، لا أتبين ملامح ولا قسمات ، أكاد أصرخ
مَن يفتح الغرفة؟ لكني أبتلع صوتي ، ستستيقظ جَدتي فزِعة، وربما تموت من شدة الخوف
، ربما تجري من غرفتها فترتطم بالمنضدة الزجاجية الكبيرة وتَسقط وتتحطم ساقاها،
شعاع الضوء يكبر، والفتحة الصغيرة تتسع، والشبح الذي يفتح الغرفة يتراءى أمام عيني،
وسط الظلام الدامس رأس وجسد أعرفهما ولا أعرفهما ، خطوات محلقه تقترب من فراشي ، أغمض
عيني بقوة ، لن أفتحهما ، صوت هامس أعرف نبراتِه يقترب من أُذني ، أنفاس ساخنة
تلفح رقبتي ، مش عايز حاجه يا سي حسن ؟؟ أفتح عيني لا أصدق ما أدركته ،
سميرة؟؟ أفتح عيني مندهشًا ، سميرة ؟؟ مش عايز حاجه يا حسن ؟؟ أهز رأسي نفيًا
، في هذه اللحظة أحس عطشًا رهيبًا ، سأطلب منها كوب ماء ، كيف دخلت حجرتي وأيقظتني
وسألتني عن عطشي الذي لم أكن أشعر به حتى أدركتُ
وجودها؟ ما لأنفاسها ساخنة متلاحقة؟ أرتبِك!! نَعم أرتبِك ، هذا هو إحساسي الغريب
الذي شعرتُ به ، جسدها قريب من ذراعي ، وجهها لصيق بوجهي ، صوتها الهامس يوترني ،
لِمَ لا أصرخ فيها ، عايزه ايه يا بت؟ ايه اللي دخّلك هنا ؟؟ أتمنى أن أصرخ
فيها لكني لا أصرخ ، لو صرخت فيها لفزعتْ ، سأشكوكِ لأمي ، لو هددتها لخافت وخرجت
بسرعة من الغرفة وأحكمت إغلاق بابها ، لكني لم أفلح ، أحبالي الصوتية تيبست،
والكلمات أحجار تمزق لساني ولا تخرج من شفتَي الجافتين ، عايز حاجه يا سي حسن
؟؟ هل هذا صوت سميرة التي أعرفها وأعرفه ؟؟؟ لا أعيش ما أراه وأحسه ، بل هو
هلاوس الليلة وحلمها الرقيق ، هلاوس الليلة أتت بسميرةَ من فراشها وحلقت بها صوب
غرفتي وأقحمتها في نومي ، زيَّنَتها وعطَّرتها وجَمّلتها ، ليست هي التي أعرفها،
بل أجمل وأرق وأحَن ، احتفظت الهلاوس لسميرةَ باسمِها وغيّرت فيها كل شيء، وجرَّأتها
حتى اقتحمت غرفتي وها هي ستقتحم فراشي وتلتصق بجسدي وتنام بجواري .. وعايز حاجه
يا سي حسن؟؟
في
هلاوسي تبدلت سميرة وصارت أجملَ وأرق وأحَن ، صار جلدها القشف ناعمًا حريريًا ، وشَعرها
الأشعث جدائلَ طويلة ، ورائحتها المنفرة
عطورًا نافذة ، تبدلت سميرة وتبدلتُ أنا ، لم أعُد الصبيَّ الصغير ذا البنطال القصير
والساقين الرفيعتين والصوت الأخنف ، تبدلت الشعيرات المتناثرة فوق شفتَي لشنبٍ
كثيف وقوي، ذراعي حد حملتها على ساعدٍ واحد منها وألقيتها طائرة فوق الساعد الاخر
، تبدلتُ وصرت رجلا قويَ الجسد والعزيمة والروح ... وعايز حاجه يا سي حسن ؟؟؟
واستيقظتُ
صباحًا خائفًا فزِعًا، سعيدًا مرتبِكًا، أتمنى أن أسألها هل قاسمتِني ما عشته أمسِ؟ وأتيتِني
فراشي وشاركتِني البهجة التي عرفتُها؟ أَم هي هلاوسي الجميلة وأنتِ لم تبرحي غرفتك
وفراشك وجلبابك الخشن؟؟ استيقظتُ أتمنى أن أنام مرة أخرى وتداهمني هلاوسي مرة
ثانية، وخامسة، وعاشرة، وأن تتلون الغرفة بألوان ساطعة، وأن تصدح الموسيقى الغريبة،
وأن تتناثر ضحكاتها شموسًا وسط الليل !!
عايز
حاجه يا سي حسن ؟؟ لمْ تواتِني
الجرأة لأسألها ، لكن في يوم قريب سأتجرأ وأسألها، وأعرف منها وبدقة إجابه كل الأسئلة
التي حيّرتني وما تزال..!
هامش - الحاجّة منصفة
نادته
كعادتها كل صباح وقت أن تسمع خطواته في الممر اللصيق بغرفتها ، نادته وقد استيقظتْ
مبكرًا ليؤنِسها ويكسر صمت البيت الأخرس، واصحابه ما يزالون نائمين ، حسن تعالى
يا حبيبي انا صحيت خلاص ، يدخل غرفتها مبتسِمًا ، أهلا أهلا يا حبيبي ،
تفتح حضنها له فيقبّلها على وجنتيها قبلاتٍ سريعة مختلفة عن التي اعتادتها منه كل
يوم، ولا يسكن بين ذراعيها ولا يسكن حضنها ، يسعِد صباحك يا حبيبي ، بنجور يا جدتي
، تضحك ساخره ، آدي اللي خدناه من الست رقية الكشميري ، بنجور يا حسن مش
للرجاله ، لِمامتك وخالتك والحريم البسكويت ، مافيش راجل من ضهر رجل من عيلة
الوهيب يقول بنجور يا حبيبي !!! يرتبك حسن وهي تحاول أن تُمطِره بقبلاتها ،
حاضر يا ستي ، صباح الخير ، صباح الورد والفل يا حبيبي ، يتملص من حضنها
وذراعيها ، تتركه يبتعد وتحدق فيه ، ازيك يا حسن ، ازيك يا ستي !! مرتبكًا
يتحرك في الغرفة وكأنه يتمنى أن يخرج منها مسرعًا ، لا يجلس بجوارها على الفراش،
ولا يلقي برأسه على صدرها، ويتصرف بطريقة غريبة على غير عادته !!
تحدق
فيه صامتة بعينيها الضيقتين ، تحدق فيه وتفحصه كأنها تبحث عما سيفاجئها وقتما تكتشفه
، حوارها الداخلي صاخب ، أفكارها تتلاحق بسرعه كشريط سينمائي منذ لحظة ميلاده حتى
هذه الثانيه التي يقف أمامها فيها ، غريب أمر حسن هذا الصباح، كأنه نام صبيًا
واستيقظ شابًا ناضجًا ، كأنه نام صغيرًا ساذجًا واستيقظ كبيرًا منتبِهًا ، صوته
الصغير كبر واخشوشن ، جسده المطوي المرتبك " اتفرد " وشد ، ابتسامته البريئة
صارت أخبثَ وأعمق ، ليلته أمس تختلف عن كل الليالي السابقة ، نام صغيرًا واستيقظ
رجلا، ولو لم يدرِ ولو لم ينتبِه بعد ...!
ابتسمت
الحاجّة منصفة فخرًا ونادته ليقترب منها ، ناولته مصروفَه اليومي وسألته بخبث ، انت
طيب يا حبيبي ؟؟ ارتعاشةٌ صغيرة فوق شفتيه، وشعيراته النافرة المبعثرة فوقها أكدت
لها إحساسها ، ايوه يا ستي ، الف بركه يا حبيبي ، دايما يا حبيبي دايما ..
تملّص
من حضنها وفر بأسراره بعيدًا عن عينها الثاقبة ، ضحكت وضحكت فرِحةً بحفيدها ، نادت
سميرة بصوت آمر هرع بها من المطبخ لغرفة الحاجّة الكبيرة في طرفة عين ، تجاهلتها
وهي واقفة أمامها ترتعش من الخوف ، خير يا ست الحاجّه؟ اؤمريني. تركتها أمامها وكأنها لا تنتبه لوجودها وفحصتها
من رأسها لطرف إصبعها، وبسرعة وبعين خبيرة ، بقايا النعاس وعلامات البطانية الخشنة
على وجنتيها، والشعر المكبوس من ثقل المخدة فوق رأسها ، كل هذا أكّد لها أنها لم
تغادر فراشها في تلك الليلة التي كبر فيها حسن واتفرد ضهره ، أمَرَتها ،
بت يا سميرة تعرفي تعملي قهوة؟ طبعا يا حاجّه ، طيب وريني شطارتك!!
ضحكت
الحاجّة منصفة وضحكت ، سأنبّه سليمان لابنِه ، سأخبره أن الصغير بيكبر، وان
الولد شد عوده وفرد ضهره ، سأنبّه سليمان يتحدث معه ويهديء روعه ويشرح له كل
ما يتعين عليه شرحه !!
وخرجت
من الحجرة وهي تنبّه على سميرة ، هاتي القهوة في الصاله ، حاشربها مع سيدك
سليمان ، وانتظرت ابنَها يخرج من غرفه نومِه لتتحدث معه عن حَسن .. واللي
جرى لحسن !!!
نهايه الفصل الرابع
ويتبع بالفصل الخامس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق