مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



السبت، 31 أكتوبر 2009

تووووووت تووووووووت !!!

رغم كل شيء ورغم كل ماحدث قبله ...... كان يوما عظيما !!!!!

( ١ )
تسلل الكثيرين لداخل المحكمه ... تواروا داخلها في الاروقه البعيده وفي الكافتيريات المغلقه .....
اختبئوا في الادوار العليا وغرف الموظفين ، دخلوا القاعات التي لاتخصها قضايهم كانهم جمهورا ينتظر
دعواه ودوره امام القاضي ...
يتقابلون في الممرات وعلي السلم كالغرباء لايبتسمون لايحييون بعضهم كانهم لايعرفوا بعضهم ، هذه هي الخطه التي اتفقوا عليها ، من سيكسر الحصار ويدخل المحكمه لايقترب من الاخرين ، يتصرفوا بعدم اكتراث بما سيحدث في تلك القاعه ، كانهم مجرد جمهور للمحكمه يشربوا شاي يدخنوا يضحكوا كانه جميعهم غرباء لايخصهم ذلك الحدث الكبير الذي لايفكرون حقيقه الا فيه ...
منعت قوات الامن العشرات بل المئات من الدخول او الاقتراب من الباب او حتي الوقوف علي رصيف المحكمه ..
عساكر عابسين وجوههم حجريه يحيطون المحكمه وجميع الشوارع والحارات المحيطه بها ....
هي كلمه واحده لاتسمع غيرها ....ممنوع الدخول ...
كان يوما صيفا قائظا .. نهايات صيف ١٩٨٦ ...
الجو ثقيل حار رطب .... والحدث الكبير الذي ينتظره الجميع اضاف للجو خنقه اكثر
مئات البشر المحتجزين علي الرصيف البعيد يفصلهم عن المحكمه العساكر والسيارات الماره والارصفه والشراسه الامنيه ..
نساء اطفال صغار عواجيز رجال في منتصف العمر شابات جميلات ، كرنفال من البشر ، جلاليب فساتين بدل بنطلون وقميص افرول ازرق بشحم القطر ، بعضهم يجلس علي الارض ، بعضهم يركن ظهره علي الحائط الخلفي ، رجل يدخن سيجاره ، طفل ياكل سندوتش ، شابه قلقه تمسح دمعه فرت منها ، سيدتان يتكلما عن الايام السوده التي يعيشاها ، رجل عجوز يبتسم يطمئن الجميع ، مئات البشر المتوحدين في الحدث الكبير الذي يجمعهم ...
جميعهم يحدقون في المحكمه القريبه البعيده ، جميعهم لايتمنوا الا كسر ذلك الحصار المخيف والتسلل للداخل ...
بعضهم يقف مكانه من السادسه صباحا وقت ابكر الحضور متصورا انه سينجح في الدخول لكنه فشل من مجرد الاقتراب من المحكمه التي اغلقت كل ابوابها في وجه الغرباء والمتطفلين من قبل صلاه الفجر ..
الشمس الحارقه عموديه علي رؤوسهم لكن القلق الذي ينهش قلوبهم اسخن واوجع من الشمس ومن حص
ار الشرطه ومن اي شيء ...
داخل المحكمه يدخل بعض المخبرين يبحثوا عن المتسللين الفارين ، لكن اهل المحكمه وموظفيها نجحوا تضامنا وحبا في تخبئه الجميع راسمين علي وجوهم ابتسامه بارده كان شيئا لا يحدث ...
لعنه الله علي الانتظار ..... الانتظار هذا الطير الذي وقف علي رؤوس الجميع خدرهم !!!!
( ٢ )
باب قاعه المحكمه التي ستشهد اهم الاحداث واخطرها اليوم مغلقا بعشرات العساكر الاشداء متشابكين الاذرع شباب صغير السن صلب البدن عيون حجريه سوداء ووجوه سمرا كانهم تماثيل فرعونيه منحوته في الجبل تحرص المعابد والقصور والكهنه والالهه ، يشكلون سور
بشري قوي كالاحجار البذلتيه لا يتفاهمون ، لايتفاعلون مع العابرون امامهم يسآلون " هو فيه ايه " كانهم اصماء يتحركون باشاره من رئيسهم ان لم يصدرها لن يتزحزحوا من مكانهم ولو هدمت الدنيا فوق روؤسهم ...
بين حين واخر ، يصرخ رئيسهم بصوت حاسم " افتح يابني " فيتحرك السور البذلتي خطوه اثنين ويفتحا وسط اجسادهم المتشابكه طريقا يسمح بعبور المحامي الذي كشف شخصيته لرئيسهم واثبت له انه محامي من ضمن فريق المحامين المشتغلين في تلك القضيه الكبري وسرعان مايفتح باب القاعه ويلقي المحامي بالتدافع لداخلها ويحكم السور البذلتي اغلاق المدخل مره ثانيه وتظل القاعه محاصره !!
لعنه الله علي الحصار ..... الجميع محاصر ... خارج المحكمه وداخلها ، خارج القاعه وداخلها ، في الاروقه والممرات ، حتي من لم ياتي وبقوا في البيت من باب السلامه .... الجميع محاصر !!!
( ٣ )
في المحطه ... محطه رمسيس .... الكل قلق متوتر ينتظر مالذي سيحدث هناك ..
الكل متوتر ..... خائفين علي خيره رجالهم سائقين ومساعدين وفنين ....
لااحد يتكلم في الموضوع ولا يناقش ادق تفاصيله مثلما كانوا يفعلون لمده سبعه شهور سابقه
لكن ماسيحدث هناك بعد ساعه او اثنين يشغل بالهم يحتلهم منذ سبعه شهور واليوم بالاخص و" فرجه قريب " !!!
لكن الامل ينبض في القلوب يصارع الفزع ويقفز براسه بين الكلمات " خير ان شاءالله خير " ..
يستعدون للبكاء والاحساس بالقهر والهزيمه ..
يستعدون للاحتفال والفرحه ..
منذ الفجر وجميع القطارات الحديديه وسائقوها والفنين والاهالي جميعهم قلقين متوترين ...
هل سيعود الرجال ام سيغيبوا للابد ....
لعنه الله علي الانتظار ....... مال الوقت لايتحرك .. مال الزمن لا يسير ...
كيف تتحرك عقارب ساعات المحطه وجدول التشغيل يسير علي خير مايرام والناس تركب القطارات وتنزل والقطارات تخرج من المحكمه وتعود لكن الوقت بالنسبه لما يشغلهم لايتحرك قيد انمله و" استرها يارب " .....
( ٤ )
السياره الصندوق الزرقاء الكبيره تسير علي الكورنيش صوب وسط البلد بسرعه رهيبه ..
تتقدمها سيارات الشرطه تتبعها سيارات الشرطه ، صفارات التنبيه مدويه عاليه تفتح الطريق وتلغي الاشارات وتسهل الانتقال من سجن مزرعه طره البعيد لمحكمه باب الخلق في وسط القاهره ..
داخل السياره يجلس الكثيرين من الرجال السمر الاشداء تتآرجح بهم السياره يضحكون لايكترثون بالحر ولا الحراره الشديده داخل الصندوق الذي ينقلهم ، بعضهم يقف داخل الصندوق يحدق من شباكه الحديدي الصغير علي الشوارع خارجه ، تلك الشوارع التي ابعدوا عنها لمده سبعه شهور واكثر ، منذ لحظه القبض عليهم لم يروا الشوارع التي يعشقوها الا من خلف الشبابيك المسيجه بالحديد في تلك الصناديق الزرقاء المتحركه ...
حين تقف السياره الصندوق في اشاره مرور ، يصرخ احدهم بصوت جهوري " اصحي يامصر " فيرد الباقون بحماس " اصحي يامصر "
يصرخ اخر بصوت جميل رخيم قوي " قطر بلدنا ياناس مشتاق للعطشجي والسواق " يرد الباقون " توت توت " ويزداد الصخب من داخل الصندوق يزداد الصخب والهتافات متداخله " اصحي يامصر ... توت توت ... اصحي يامصر " مختلطه بصفارات التنبيه تطلقها سياره الشرطه بغضب وانزعاج ، لااحد نجح في اسكاتهم لااحد نجح في اخراسهم و" توت توت " !!!
انهم المتهمين في القضيه السياسيه الكبري التي اطلقت الصحف عليها " قضيه اضراب عمال السكك الحديديه "
سائقين ومساعدين وفنين يعملون بالهيئه القوميه للسكك الحديديه .. ممن تزعموا قبل ذلك الوقت بحوالي ثمانيه شهور اضرابا شاملا كبيرا شل مصر كلها ، وقت توقفت القطارات عن الحركه وتكدس المسافرين في المحطات ولم يذهب الناس لاعمالهم ، يوم استيقظت مصر علي حدث جلل ، السكك الحديد اضربت ، اضراب شامل قوي مؤثر لجآ اليه موظفي الهيئه بعد ان سدت في وجوههم كل سبل الحوار وامكانيات التفاوض واصرت الادارات العليا بالهيئه علي " اكل حقوق العمال " ، تفاوض العمال مره واثنين وعشره ، طالبوا بحقوقهم ، اصروا عليها ، لكن الهيئه تجاهلتهم واصرت علي الافتئات عليهم و " اضربوا راسكم في الحيطه " لكن اصحاب الحقوق المظلومين لم يضربوا راسهم في الحيطه ولم يشربوا من البحر ولم يستقيلوا " اللي مش عاجبه يمشي يغور في ستين داهيه " بل قرروا ان يظهروا قوتهم وقدر احتياج الهيئه ومصر كلها لهم ، قرروا يضربوا عن العمل فتشل البلد فيعرف من لايعرف حجم المشكله وقدر القوه ....
انهم رجال مصر الاشداء الذي دافعوا عن حقوقهم وحقوق اسرهم واطفالهم وزملاءهم ، ووقفت القطارات جثث هامده وتكدس المسافرين والمودعين بالمحطات وسرعان ماانتشر الحدث وعلم به كل الناس وانفجرت المناقشات صاخبه " طيب ليه صحيح مابيدوهمش حقوقهم " وحاول الرؤساء المباشرين ورؤساهم الاعلي " لم الموضوع " واستدعوا العمال يهددوهم يحاولوا كسر ارادتهم يحاولوا ترويعهم تخويفهم ، حاولوا استجدائهم العمل من اجل مصالح الناس المعطله ، حاولوا خداعهم " مشوا القطارات وكل اللي انتم عايزينه حتاخدوه " لكن الكيل كان قد فاض واتخذ القرار الحاسم بالاضراب رساله واضحه قويه حاسمه !!!
وسرعان ماقبض علي العديد من العمال باعتباره قاده الاضراب ... وسارت القطارات ودخل الرجال السجن و" حمرت الهيئه عينيها " مافيش حقوق مافيش اضراب ....... وسرعان ماتكونت لجان دفاع عن قيادات الاضراب ولجان تيسيير الحياه اليوميه للمعتقلين اكل وشرب واعاشه وزيارات الاهالي ولجان رعايه اسر المحبوسين و....... انكسر الاضراب لكن التضامن والتكاتف لم ينكسر ... سارت القطارات وسافر المسافرين لكن بقي عمال السكك الحديديه كتله واحده تؤمن بحقوقها وتدافع عن ابناءها المحبوسين وتؤمن ان الاضراب حقها وستلجآ اليه مره ثانيه وعاشره ان لزم الامر ....
مازالت السياره الصندوق الزرقاء تجري علي الطريق ومازال ركابها يهتفون بقوه وحماس وصدق " اصحي يامصر " ... " توت توت .. قطر بلدنا ياناس مشتاق للعاطشجي والسواق " ... اصحي يامصر اصحي يامصر !!!!
ولعنه الله علي الظلم الذي عاناه هؤلاء الرجال فاستبيعوا ودخلوا السجن ومازالوا ينتظروا مصيرهم الغامض الذي سيتحدد اليوم وقت ينطق المستشار الحكم في القضيه .... لعنه الله علي الظلم الذي حول اصحاب الحقوق لمتهمين محبوسين لايعرفوا لانفسهم مصير !!!
( ٥ )
داخل قاعه المحكمه يجلس عشرات المحامين مبتسمين يرتدوا الارواب السوداء تحتها البذلات الانيقه ، بضعه محاميات يندسن وسط الحشد ، القاعه خاويه الا من المحامين وبعض صحفيين .... يفتح الباب ويدخل الرجال للقفص يهتفون " اصحي يامصر " ينفجر المحامين بالتصفيق ويردوا الهتافات ، الاهالي المحتجزه علي الرصيف البعيد خارج المحكمه يردو الهتافات وينفجر الصخب الاهالي تهتف " اصحي يامصر " والمتهمين يصرخون " توت توت " ترد الاهالي بعيدا " توت توت " الاصوات مدويه والتصفيق مدوي والامل في النفوس والرضا عن النفس يلون وجوه المتهمين بالرضا والقناعه ويلون وجوه المحامين بملامح الانتصار الوشيك و" توت توت .. قطر بلدنا ياناس مشتاق للعاطشجي والسواق " ويخرج الحاجب من غرفه المداوله يصرخ " الدايره خلاص جهزت وحنتشغل " !!!
( ٦ )
يسود الصمت داخل قاعه المحكمه ينتظروا الحكم
يسود الصمت داخل المحكمه ينتظروا الحكم
يسود الصمت بين الاهالي المحتجزين ينتظروا الحكم
يسود الصمت في محطه رمسيس ينتظروا الحكم
( ٧ )
محكمه !!!!!
" حكمت المحكمه ببراءه جميع المتهمين .... رفعت الجلسه "
وقامت القيامه !!!!!!
( ٨ )
انفجرت قاعه المحكمه بالهتاف
بعدها بثانيه انفجرت المحكمه بالهتاف
بعدها بثانيه انفجر الجمهور المتحجز علي الرصيف البعيد بالهتاف
اختلطت الاصوات الصراخ بالفرحه بالزعاريد بالاناشيد
" توت توت " .... " خدنا البراءه من الباب العالي " ... " يعيش القضاء المصري العظيم "
" ياليله بيضا يانهار سلطاني " .... " عاش اضراب العمال وعاش العمال " ... " توت توت .... توت توووووووووت "
فتح باب قاعه المحكمه دخل الكثيرين من الجمهور الذي كان اختبآ بعيدا
دخلوا يصرخوا يهللوا يهتفوا يرقصوا يعتلوا البنشات ينادوا علي المتهمين يصرخوا باسماهم فرحين سعداء
المحامين تصفق ، المتهمين يهتفوا ويحضنوا بعضهم البعض
دفع الجمهور المحتجز اسوار العساكر من طريقهم وهرولوا يعبروا الطريق في اتجاه المحكمه يهتفوا يصرخوا
خرج الجمهور المختبآ في الحواري المحيطه بالمحكمه والمحلات القريبه يهتفوا يصرخوا
تداخلت امواج البشر الجمهور المحتجز يعبر الطريق المحامين الخارجين من المحكمه للجمهور يهنئوهم يعبروا الطريق
يقف الجميع يحضنون بعضهم علي الرصيف وسط الطريق يهنئون انفسهم
هتافات زغاريد دموع فرح قسمات تحدي ملامح شكر لله
" ويلا بينا علي المحطه " ويحاول الامن يفرق الجمهور لكن احدا لايقوي في تلك اللحظه علي كسر الفرحه واراده التحدي
ويسير الناس اهالي المتهمين زملائهم ابنائهم بعض المحامين صوب المحطه " قطر بلدنا ياناس مشتاق للعطشجي والسواق " ، " خدنا البراءه من الباب العالي " !!!!
( ٩ )
كآن الصوت والصراخ والفرحه حمله الاثير للمحطه !!!
حين دخل الجمهور الفرح واهالي المتهمين المحطه ، كانت المحطه وقطاراتها وعمالها ورجالها وجمهورها قد بدوا الحفل ...
القطارات مزينه بفروع الاشجار الخضراء ، القطارات تطلق صفافيرها مزغرده ، الرجال في جرارات القطارات مبتسمين فرحين يلوحوا بايديهم للناس لبعضهم ، البعض يرقص في ساحه الانتظار بالمحكمه ، البعض يلوح بالفروع الخضراء ، القطارات مازالت تزغرد
يدخل الناس من المحكمه ، احضان قبلات فرحه دموع ، القطارات تغرد و" خدنا البراءه من الباب العالي ، خدنا البراءه من الباب العالي "
وحين تعلوا بجسدك تحلق في المحطه في تلك اللحظه ستجدها وكل شخص وكل شيء بداخلها القطارات الجرارات كراسي البوفيه بائعي الجرائد البشر الاهالي العمال اهل العمال المسافرون المودعون ، ستجدهم جميعا سعداء فرحين منتصرين اقوياء و" توت توت " ، " تووووووووت توت توووووووت " ، " توووووووووت تووووووووووت تووووووووووت تووووووووت " ، " خدنا البراءه من الباب العالي " !!!
( ١٠ )
السياره الصندوق الزرقاء تعود بالمتهمين للسجن استعداد لاجراءات الافراج عنهم
السياره كانها مبتسمه بابطالها ، الشوارع التي تسير عليها كانها فرحه بابطالها ، رجال الامن والعساكر كانهم يبتسموا فرحين بالابطال و" اصحي يامصر ..... اصحي يامصر " !!!!!


...... كنت محامية صغيرة ضمن هيئه الدفاع في القضيه ...
كنت وسط محامين عظماء اتعلم المحاماه والوطنيه..
وعشت هذا اليوم العظيم وشاهدت كل احداثه كما كتبتها بالضبط..
وللاسف مهما وصفت وقلت وكتبت كان اليوم اعظم الف مليون مره مما وصفته وحكيته ..
كان اليوم العظيم يحتاج عين وقلب وكاميرا عاطف الطيب !!!! رحمه الله عليه !!!

هناك تعليق واحد:

سحر الجعارة يقول...

يامرمر ده رصيد إنسانى لا يجوز إهماله ، متهيألى فيه مواقف كتيرة تستحق التسجيل من ذاكرة ثرية بالمواقف والبشر.
ياريت تبدأ فى تسجيل مواقف مشابهة من مشوارك
سحر الجعارة