الفصل الثاني
هجروا الكلامَ الي الدموع
لأنهم وجَدوا البلاغةَ كلها في الأدمعِ ( 3 )
( 11 )
" كل الرجالة كدة !! "
كنتُ
صغيرًا جدًا لا أعرف لماذا تبكي أُمي رقية هانم الكشميري؟؟ اليومَ فهمتُ طبعًا ما
الذي كان يُبكيها ولماذا أبدًا لم تكُف عن البكاء ، الحق فهمتُ قبل اليوم بسنوات
بعيدة ، فهمتها لكني لم أتعاطف معها أبدًا ، يا سيدتي دموعك أفسدتْ حياتنا جميعًا
، أفسدت حياة أبي وحياتي، وطبعًا أفسدت حياتَكِ في المقام الأول ، ليتكِ أفلحتِ في
أن تكُفي عن البكاء ونظرتِ للحياة نظرةً واقعية مختلفة ، كنتِ أنقذتينا جميعًا من
الجنون الذي عشناه والحزنِ الأسود الذي عشتِه ...
آهٍ
مِن دموعك يا أُمي العزيزة ، آه من دموعك ، آهٍ من بكائك يا حبيبتي ، آهٍ من بكائك
، كنتِ صغيرة لا تفهمين في أمور الدنيا شيئًا ، لو فهمتِ ما يحدث في العالم كله
حولك ما بكيتِ وحرقتِ عينيك وقلبكِ بكل هذا الحزن !!
اليوم
وقبلَه بسنوات بعيدة فهمتُ سبب بكائها، لكني أبدا لم أتعاطف معها ، بل ولُمتُها أيضا
، لُمتُها على كثرة الدموع والحزن والقهر الذي عاشته وعشناه جميعًا ، أظنها دموعها
هي السبب الذي نفّرَ سليمانَ الوهيب منها أكثر
وأكثر وأطلق جناحيه للسماء الواسعة يحلق فيها خلف أسراب اليمام الفرحة في السماء
الواسعة ، ربما لو تمالكت نفسها وسيطرت على أفكارها الشريرة وحزنها الأسود،
وابتسمتْ في وجهه ومنحته حبها وحنانها ، ربما ، أقول ربما ، ربما أحَبها أكثر وأقترب
منها واحتواها وأسعدها فعشنا جميعًا سعداء ، لكنها لم تفعل ، لم تبتسم ولم تكُف عن
البكاء فاسودت حياته وحياتنا جميعًا...
أكره
البكاءَ والدموع ، يذكرانني بأُمّي ، نَعم فأُمي هي إلهة البكاء في المجرة الشمسية،
وهي التي بكت كما لم يبكِ غيرها ولا أكثر منها في الحياة كلها منذ بداية الخليقة
وحتى اليوم مخلوق قَط ، بكت حد كرهتُ البكاءَ والدموع وحياتي كلها ...
ذكرياتي
عن ليالي نحيبها الطويل تطاردني في يقظتي ونومي ، تطاردني في أشد لحظاتي سعادةً
وتفسدها ، ذكرياتي عن ليالي نحيبها أفسدت طفولتي وما زالت تفسِد حياتي كلها ، كنتُ
صغيرًا جدًا أُخبّيء رأسي تحت اللحاف وصوت نحيبها يلاحقني ويطاردني ويخيفيني ، كنت
أتظاهر بالنوم أكثر وأكثر، ولا أتحرك من مكاني ولا أذهب لحجرتها ولا أسالها لماذا
تبكي ، لو فعلتُ لسمعت مثل كل مرة بصوتها المرتعش أنها بخير، وأنه علىّ العودة لفراشي وإكمال نومي ، لو اقتحمتُ فقاعةَ حزنِها الأسود
واقتربتُ منها خائفًا مرتاعًا أبحث عن طمأنينةٍ عجزتْ دائمًا عن أن تمنحها لي
لرأيتُ دموعها المتلاحقة وعينيها الحمراوين وشاهدتها تصطنع ابتسامةً بائسة على
وجهها المحتقن متصورةً أني سأطمئن بها ولا تعرف أنها ترعبني وتزيد مخاوفي ....
ليالٍ
كثيرةٌ لم أتحرك من فراشي وتجاهلتُ نحيبها، وتجاهلتها تمامًا ، ها هي تبكي وتنتحب
، وسرعان ما سيعلو صوت أبي ينهرها ويتطاول عليها بألفاظ لا تليق به وبها ، ها هو
صوته الهادر يحطم زجاج النوافذ ويتساقط من شرفة غرفته للشارع ليسمع سبابَه لها
البوابُ وعمّال الجراج وصاحبة الكشك والغرباء، جميعهم يعرفون الآن أن أبي الدكتور سليمان الوهيب يسبّ حرمَه المصون
السيدة رقية الكشميري بألفاظ لا يقولها أولاد الأُسَر الراقية ولا ينطقونها أبدًا
، سيعرفون أنه يسبّها ويعرفون أنها تبكي ويعجزون مثلي تمامًا عن حل تلك المشكلة
المزمِنة بين أبي وأمي ...
ذكريات
ليالي نحيبها تطاردني حين يعود أبي قُبيل الفَجر مترنحًا سعيدًا يدندِن بأغانٍ
ونغمات ممضوغة ، سيجدها ككُل ليلة تنتظره في فراشها غضبى تعيسة ، سيتجاهل دموعَها
وغضبها وسيحاول أن يلاطفها علّ الليلة تمُر على خير ، لكنها لا تسمح له ولا لنفسها
بأي خير ، ستدفعه بعيدًا عنها، وعيناها تطلقانِ شررًا أحمر ، سيغضب منها لأنها لا تقدّره
ولا تحترمه و" تشوّح " في وجهه بذراعيها كالغَجر قليلي التربية ، ستقول
له كعادتها إن قليلي التربية هُم مَن يعودون قُبيل الفَجر يترنحون سُكارَى وعلى
وجوههم قُبُلات العاهرات الرخيصات، سينفجر أبي، يسبّها لقلة أدبها وسوء تربيتها ،
ستبكي أكثر وأكثر ، سينفجر بينهما الشجار المعتاد، ويكسر صراخهما جدرانَ المنزل
وقلبي ، أسأل نفسي دائمًا لماذا لا يتصرف بفطنة وذكاء ويعود مبكرًا بعض الليالي حتى
لا تبكي؟ ولماذا لا تَقبل عودته متأخرًا وتتجاهل حزنها حتى لا يصرخ؟ لكن أيًا منهما
لا يحقق أمنياتي وتبقى أسئلتي عبثية حمقاء لم أعرف لها إجابة وقتَها ولا اليوم....
سمعتُ
أبي يقول لها كثيرًا وهو يتشاجر معها إنها السبب الذي نفّره من حياته ومن البيت، وإنه
لولا أصله وحسَبه ونسَبه لطلَّقَها وأعادها لبيت أبيها ذليلةً كسيرة ، سمعتُه يقول
لها إنه مثل كل الرجال لا يَفرق عنهم شيئًا ، لكنها متمردة لعينة لم تنكسر له ولم
ترضخ لحياته مثل كل النساء ، قال لها الرجل لا يكتفي بامرأة واحده ولن يكتفي ، ومَن
يدَّعي غير هذا كاذبٌ مدعٍ، وفي نفس الوقت كل الزوجات عاقلات يحتفظن بأسرار بيوتهن
بين شفاهن ولا يفضحن أنفسهن ولا يفضحن أزواجهن ، كل الستات عاقله بتتخرس وتتعمي
ولا كأنها شايفه ولاسامعه إلا انتي ، فتنكدي على نفسك وعلىّ وتبوّظي حياتنا كل يوم
أكتر ، سمعته يقول لها هذه الكلمات مراتٍ ومرات ، وهي تَسمعه بلا ذكاء ولا تفهم
ما يقوله لها، ولا تكترث به، ولا تكف عن البكاء، ولا تنصاع ولا تقبل...!
تمنيتُ
كثيرًا أن أنصحها لتتعقل وتحتفظ بكرامتها مثلما نصحَتها جَدتي منصفة مرارًا وتكرارًا
، كانت تشكو لها أبي وانفلاتَه فنصحَتها جَدتي أن تتعقل وتحتفظ بكرامتها وتتجاهل
ما تراه أمامَها كرامةً لحَسن وحيدك، خاصةً وإن الرجالة كلهم كده ، قصّت
عليها جَدتي أن جَدي رضا الوهيب رأس العائلة والرجل الكُبّارة المحترَم كان مثل
ابنِه ومثل جميع الرجال، وأنه أبدًا لم يكتفِ بها ولم يتوانَ عن إقامة العلاقات
النسائية العابرة ولو مع الخادمة العوراء القبيحة، وأن جَدتي سيطرت عليه بتجاهلها
لسلوكه واحترامِه بما يليق به وبمقامِه وأُسرتِه ومكانتِه الاجتماعية ، احترمَته
حتى خجِل من نفسِه وكتَم على فُجرِه ماجورًا، وأبعده عن جدران منزلها وعاش محترمًا
ومات محترمًا، هكذا قالت جَدتي العاقلة ...
قالت
جَدتي الحاجّة منصفة لأُمي إن الزوجة العاقلة لا تُعيِّر زوجَها بفُجرِه ولا بتجرّؤِه
عليها حتى يُخيّرها بين قبوله وبين تركِه فيضعها في مأزق لم تُعِدّ نفسَها له ،
قالت لها إن كل الرجاله كده "زباله" وعلى النساء العاقلات بنات
الأصول وصاحبات الحسَب والنسَب أن يحافِظن على بيوتهن ومكانتهن الاجتماعية، وأن
يتجاهلن فراغة العِين وطفاسة الروح ودناءة القلب ، وإن الزوج مهما لَفّ وراح ودارَ
سيعود لزوجته أُمّ أولاده آخر الليل وعليها أن تفتح له حضنها لتحتويه ولتستوعبه ولتبقيه
أسيرها وأسير بيتِها وأولادها....
كل
هذا وأكثر منه قالته جَدتي مرارًا وتكرارًا لأُمي، لكن أُمي لم تفلح أبدًا فيما أفلحت
فيه جَدتي ولا غيرها من النساء العاقلات ، لم تفلح أبدًا فيما أفلحت فيه الأُخريات،
ولم تحتوِ أبي ولم تفتح له حضنها، ولم تحافظ على بيتها، وفضحت نفسها وفضحتنا ولم
تصمت ولم تتجاهل، وبكت وتشاجرت مع أبي حتى زأرَ متوحشًا كالمَجانين بدلا من مرة ألفًا
، أنا كده وان كان عاجبك ، ولم يكن يعجبها، لكنها لم تملك من أمر نفسها شيئًا
فصمتت وانكسرت وبكت، وبكت ، ليتَها سمعتْ نصيحة جَدتي وتعقلت واحتفظت بكرامتها
وتجاهلت فجورَه، لكان خشيَها وعمل حسابها وصان كرامتها، لكنها لم تقوَ على النصيحة العاقلة ولم تنفذها أبدًا
فمنحت زوجَها وبمنتهى الجبروت والقوة الحقَّ كل ليلة ليقاتلها ويصرعها وينتصر
عليها ويجعلها تنام باكيةً منبوذة وهو
يلعن اليوم الذي تزوّجها فيه، ويلعن حياته معها كل ساعة وكل ثانية ، كل هذا أسمعه
وأتجاهله، وأُحكِم اللحافَ فوق رأسي وكأنه ما يحدث لا يحدث ولا أعيشه ، كل هذا أعيشه
دروسًا في الحياة التي سأعيشها ، أخطاء أتعلم ألا اكررها ، كل هذا أعيشه وكأنه لا يحدث
، وحين أستيقِظ صباحًا أبتسِم في وجهيْهِما وأُقبّل يدَه ووجنتيها بمنتهى الاحترام،
وأتظاهر أني ابنٌ سعيد لأُسرة سعيدة....!
هامش - سليمان الوهيب
سأفتح
باب الشقة لتحاصرني نهنهات حرَمِي المصون السيدة رقية الكشميري ، أُفكر جِديًا كل
ليلة وقتما أسمع نحيبها أن أخرج ثانية وأغلِق الباب الذي فتحتُه ولا أعود أبدا ، أفكر
لكني لا أفعل ، أدخل المنزل وأتجول فيه بعض الوقت القصير، أُسيطر على غضبي الأحمق
الذي تُفجره تلك الباكية في روحي ، أفتح باب الحجرة وأُلقي عليها تحية المساء ، أتجاهل
دموعها وعينيها الحمروين والكُحل السائل على وجنتيها ، أتجاهل نظرات اللوم الغبية
والعتاب الاخرس ، ألاطفها وكأني أحبها ، تتجاهلني ويزداد بكاؤها ، يزداد غضبي أكثر
وأكثر ، أنفجِر فيها كمثل كل ليلة وألعن أباها واليومَ الأسود الذي انتقَتها أُمي
لأتزوجها ، لماذا تبكين أيتها الغبية؟ لماذا أنتِ بالذات لا تكُفين عن البكاء ، كل
النسوة قانعات راضيات صامتات صابرات، بل يرحِبن بأزواجهن وقتما يَعودون من سهراتهم،
ويتجاهلن أحمر الشفاه على القمصان، ويحاولن بكل جهد أن يسعدنهم شاكراتٍ حامدات أن
هذا الزوج وبعدما قضى وقته السعيد مع أخرى عاد لبيتها وأولادها وحضنها وفراشها ،
كلهن شاكرات حامدات إلا أنتِ ، تبكين وتبكين، وتفسدين مزاجي، وتغضبينني فتلاقين ما
تستحقينه وأكثر ، واللهِ لولا حَسن لطلَّقتك
وأعدتك لبيت أبيكِ وتزوجتُ أجمل منكِ ووأكثر حسَبًا ونسَبًا وأعقلَ، واثقًا أنها
لن تستقبلني بدموع مثل دموعك، ولاعيون حمراء مخيفة مثل عيونك، ولا حمق أرعن مثل حُمقك
، لكني لن أفعل هذا في حَسن، ولأجْله فقط أتحمل بكاءكِ وغباءك وأيامك السوداء ... وأفتحُ
باب الشقة مبتسمًا، وصوت نحيبها يعلو ويعلو وأفكر أن أخرج ثانيةً ولا أعود ، أفكر
ولا أفعل ... وأنام أحلم بالجميلة التي أسعدتني، ونحيب البومة يفسد أحلامي ويقظتي
وحياتي كلها ...!
هامش - رقية الكشميري
أنا
الضحية، وأنا التي تلومونها، أنا الضحية نعم، وأنا التي تلومونها بنظرة غاضبة
ومشاعر حانقة وكأني أنا التي اعتديت عليكم وقهرتكم !!
أنا الضحية يا حَسن، ورغم هذا أنت تضيق بي ولا تتعاطف
معي ولا تفهمني، ولا تحاول أن ترفع الظلم عني ، دموعي توجعك وتتمنى أن تتخلص منها
ومِني ، أمّا أبوك الذي ظلمَني وما يزال ، فأبدًا لا تلومه ، لماذا لا تلوم أباك
يا حسن؟ لماذا لا تتشاجر معه؟ لماذا لا تحدّجه بتلك النظرة اللائمة التي تعذبني
بها كلما شاهدتَ دموعي؟ لماذا لا تطالبه أن يحترمني ويحترم حبي ومشاعري؟ لماذا لا تطالبه
أن يحترم الزوجية التي بيننا والبيت الذي نعيش فيه معًا ويحترمك؟ أنا الضحية يا حسن
وليس أباك ، أبوك العابث اللاهي الذي يصاحِب الساقطاتِ العاهرات، ويأتي بروائحهن
الكريهة لفراشي، وبقايا قُبُلاتِهن الرخيصة فوق جسده، وأسنانهن المشحوذة علامات
زرقاء على ظهره ، أبوك العابث اللاهي الذي يغازل الخادماتِ والبائعات وزوجات أصدقائه
وكلاب السكك ، يمنح كل واحدة منهن نظرة أفهمُها جيدًا ، نظرة فاحصة يبحث بها عن
مكامن أنوثتِها التي تخبّئها بعيدًا عنه ، نظرة تتلصّص على ملابسها الداخلية ، نظرة
تتلصّص على ما يخصها وتخبّئه ، يتعمد أن يكشف سترهن ويرسل لهن رسائل لا تخطئها أي أنثى
، نظرة نداء ، هو ينادي عليهن دائمًا ، بعضهن يستجبن والبعض الآخر يرفض ، البعض
يستجيب ويقع معه في كمين الصياد، والبعض يفر وينقذ نفسه ، هذا أبوك، وهذا عبثه، وأولئك
نساؤه اللاتي يلهو معهن ، أين أنا مِن كل هذا؟؟ أنا الزوجة التي يلومها الجميع لأنها
تبكي غضبًا من زوجها لأنه لا يحترم مشاعرها ولا وجودها، يلومها الجميع لأنها لا تَصفح
أو تتناسى ، لا تتجاهل أو تسامِح ، يلومها الجميع لأنها تدافع عن وجودها وكينونتها
وحقها في حبيب لا تشاركه فيه بقية النسوة ولو على سبيل المزاح واللهو ، أنا الزوجة
التي تزوجها أبوك لأنها حسيبة ونسيبة وتشرّفه ، أنا أُمّك ، أنا التي تستقبل ضيوفَه
وتفتح بيتها لأهلِه وتضيّفهم بكرم واهتمام ، أنا الزوجة المَصون التي يعود زوجها
العابث لحضنها آخر الليل ، عليها وقتَها أن تكتم أنفَها فلا تشُم رائحة العاهرات
فوق جلدِه، وأن تفقأ عينيها فلا تريان سجحات أظافرهن فوق ظهره، وأن تقتل مشاعرها
فلا تحترق غيرةً وغضبًا ، أنا المطلوب مني أن أحافظ على الرجل العابث وأعيده للبيت
بابتسامة وكأنه لم يطعنّي في قلبي ألف مرة، ولم يتجاهل مشاعري وكرامتي ألف مرة ،
ولو غضبتُ أو بكيت أو تذمرت يلومني الجميع؛ لأني لم أحافظ عليه، ولأني أفسدت حياته
بالنكد والدموع، ولو سبَّني فأنا السبب؛ لأني أجبرته أن يسبّني، ولو رفع صوته علىّ
فأنا الملومة؛ لأني أجبرته أن يصرخ وأرهقت أحباله الصوتية وحنجرته ، أنا الضحية يا
حسن وأنت ابني أنا ، نَعم أنت ابنُ أبيك وسِره ، وحامِل اسمه ولقب العائلة ، لكنك
ابني أنا، وكان يتعين عليك أن تتعاطف معي وتدافع عني وتمنعه من أن يقهرني ، لكنك
مثله رجُل ، تجري في شرايينكم الغطرسة والتجبر والتكبر، وتراني مثلما سترى زوجتك
وابنتَك، لسنا إلا أُطُرًا لازمة للحياة الاجتماعية الناجحة دون تذمرٍ أو شكوى ، أنت
ابني يا حسن ، ابني أنا ، كنتُ أنتظرك ذات ليلة أن تأتيني لتأخذني في حضنك وتَعِدني
أن تنهَر أباك وتنتقم لي منه ومِن عبثِه وتلاعُبِه بي ، لكنك أبدًا لم تأتِ ،
بالعكس أوصدتَ عليك باب غرفتك وصمَمْتَ أُذُنيك وتجاهلتني؛ لأني - كما تقول جَدتك
- نكدتُ على أبيك وعليك ، لماذا أقول لك كل هذا يا حسن؟ أقوله لك فقط لأُعرّفك أنك
مثل أبيك ظالِم ، والذي يظلم أُمّه بتجاهلها وبتجاهل أحزانها لن يعز عليه الجميع ،
يا ويلَ للجميع من قسوتك يا حسن وظلمِك ، أيها الظالم يا ابن الظالم ، يا ويلَ
الجميع من قسوتك! يا ويلَهم ....!!
( 12 )
" شوية توتر !! "
أخبرتني
كريمة أن أرملة الدكتور رحيم وصلت للعيادة، وأنها في انتظاري خارج غرفة الكشف، أمرتُها
أن تُدخِلها وبسرعة، رمقتني كريمة بنظرة فاحصة وكأنها تحاول أن تفهم ما لا تفهمه وأن
تكتشف ما أُخفيه عنها كالعادة ، دخلتْ
بشرى الغرفة مشرقةً جميلة رغم ثوب الحداد وبقايا الحزن في نظرتها ، أهلا وسهلا ، اتفضلي يا فندم ، خرجتُ
مِن خلف مكتبي ورحبت بها وأجلستها على المقعد وجلست أمامَها ، خير مالك؟ ألف
سلامه عليكي ، تشرح الأعراض التي تنتابها، والصداع الذي يحطم رأسها و.... لا أسمعها
وأهز رأسي وكأني منتبِه لِما تقوله ، أتذكر مكالمتها التليفونية الأخيرة، تعتذر لي
عن طريقتها في الحديث وأنها كانت متعَبة والصداع يحاصرها ، قلقتُ عليها وصمّمت أزورها
في البيت لأكشف عليها وأقيس الضغط وأطمئن عليها ، أقسمتْ ألا أتعِب نفسي، وأنها
ستأتيني العيادة ، أرسلتُ لها سائقي ليحضرها في الميعاد الذي اتفقنا عليه ، ونبّهتُ
على كريمة أن تدخِلها لي فورَ وصولها، وأخبرتها أن تؤجل بقية المواعيد لانشغالي
بعملية مفاجئة كما ستخبر المَرضي وهي تعتذر لهم ..
اتفضلي
على سرير الكشف اشوفك ،
وعدتُ في هذه اللحظة الطبيبَ الذي يتعين عليه أن يؤدي عمله بأمانةٍ وصِدق ، وعادت
للحظاتٍ مريضتي التي أفحصها لأكتشف ما تعاني وما تشكو، أغمضتْ عينيها على فراش الكشف وكأنها تهرب مني
، هكذا أحسستُ ، أغمضت عينيها وتركتني أسمع دقاتِ قلبها وأقيس نبضها وأدق ركبتها
بمجسات التوتر والتهاب الأعصاب ، اتفضلي حضرتك ، انتي زي الفل ، شويه توتر و دربكه بسيطه بسبب التوتر وطبعا مفهوم ليه ، هزت رأسها توافقني وأضافت
، من يوم الوفاه وأنا الحقيقه ما بنامش خالص ... وقاطعتها إذ لا أرغب في أن
أسمع حكايات حزنِها على رحيم ولا كيف يتملكها ذاك الحزن ، حضرتك كويسة جدا وما فيكيش
أي حاجه ، شويه توتر حتتخلصي منهم وبسرعه
بس تسمعي كلامي. وابتسمت أنتظرها أن تسمع كلامي وتعِدني بطاعتي ، لكنها صمتت
ولم تفعل!
كتبتُ
لها بعض الأدوية المخفِّفة للقلق والتوتر، وطلبتُ منها الانتظام عليها ومعاودتي
بعد أسبوعين ، شكرتني وصممت أن تدعوني على فنجان قهوة في منزلها اعتذارًا عن
المكالمة التليفونية السخيفة، وامتنانًا لرعايتي الطبية لها ، واتفقنا على يوم
الجمعة القادم في السابعة مساء ..
سألتُ
كريمة أن تأتيني بفنجان قهوة ، أحضرَته وفضولُها يقتلها ، ما لها الهانم؟؟
رفعتُ عيني بنظرة غاضبة تفهمها جيدًا ، ولا حاجه ، اقفلي الباب من فضلك وتقدروا
تروحوا !!
أرتشفُ
قهوتي وافكر فيها ، في بشرى أرملة رحيم صديق عمري، أبتسِم ساخرًا ، الله يرحمك يا رحيم
، وأتناساه وأفكر فيها، رائحة عطرها تحتل روحي والغرفةَ، وأنفاسها المتلاحقة توترًا
وارتباكًا تلفحني برحيقها، بشرى هانم، أنطِق
اسمَها وكأني اُغنِّيه على نغمات مرِحة، جمال عينيها يلاحقني، وكفُّها الصغيرة التي
استبقيتها في كفّي تلاطفني، وتمنيت أن تجري الأيام بسرعة ونلتقي ثانيةً يوم الجمعة
القادم الذي تمنيتُه أن يأتي غدا!!
وابتسمَ
الصياد القابع في الظلام متواريًا بعيدًا، ابتسَم الصياد المتربص بفريسته، فها هي
اللعبة تبدأ ومِن جديد .... الولد يقُش!!
هامش - كريمة
خمسةَ
عشرَ عامًا أعمل معه في عيادته ، لا أنكر أني أُعجِبت به منذ اللحظة الأولى التي
وقعتْ عيني عليه حينما تقدمتُ وجِلةً مرتبِكة لشغل الوظيفة ، نبرات صوته الهادئه ،
نظراته الذكية ، احتفاؤه بي وأنا مجرد متقدمة لوظيفةٍ تافهة في عيادته ، دِفء كفّه
وقتما مدّها ليسلّم علىّ وأنا خائفة أتعثر في خطواتي وقتما دخلتُ عليه غرفته ، انتي
كريمة؟ أيوه يا فندم ، أهلا يا ست كريمة ، وتحشرجَ صوتي وتاهت الكلمات، وجحظت
عيني لا أصدق ما أراه بعيني ! لا أُنكِر أنه
غزاني منذ وقعتْ عيني عليه، وأني أُعجِبت
به، لكني رددت نفسي لأرض الواقع وبسرعة خوفًا على الوظيفة وأكلِ العيش ، مَن أنا لأُعجَب
به وهو الطبيب المشهور الكبير وأنا المسكينة الشقية التي طحنتها الدنيا وتتمنى
الوظيفة ومرتّبها الثابت لتستريح وتحيا ...؟!!
أعترفُ
أني أُعجِبت بالدكتور حسن، ومنذ اللحظة الأولى التي شاهدته فيها ، لكني عاقلة كما
تصفني أُمي ، عاقلة وست العاقلات ، أنكرت الإعجاب ومشاعري وارتديت ثوب الموظفة المجتهدة التي تنفذ أوامر مديرها وبدقة،
واعتبرت حَسن الرجلَ الجميل الذي غزا روحي وقلبي مجرد حلمٍ ملوّن أسرقه رغم أنف
الحياة القاسية وقتما أغفو، وفي الحقيقة والواقع رضيت بقربي منه ووظيفتي وراتبها
السخي !
أعترف
أن إعجابي به تحوّل وبسرعة لحبٍ جارف ، شيء في الدكتور حسن شدني إليه ، ليس شيئًا
واحدًا بل أشياء كثيرة ، الحق أن ما عنده وأن سِره الغامض يشد كل النساء إليه ،
تلك النظرة الحانية التي تذكّرك بقسوة الحياة عليك ، الابتسامة الحنون التي يمنحها
لك بطيبة خاطر وبرقة ، الاهتمام التلقائي الذي يشعِرك بقيمتك عنده ، كل هذا جذبني إليه
أكثر وأكثر ، أحببته ولا أجرؤ أن أُفصِح ولا أن أقول ، مَن أنا؟ ومَن هو لأُحِبه؟ هو
نزوتي السرية المجنونة ، الرجُل الذي أستحِق أن أحلم به في نومي يشاركني لياليَّ وأمنياتي،
وأحلم به في يقظتي رجُلاً وزوجًا وحبيبًا ، هو مجرد حلم جميل ومستحيل ويكفيني منه
في الواقع ماهو ممكن ومتاح ، يكفيني أن أكون بقربِه أُنظِّم عمله ومواعيده وأُذكِّره
بعيد ميلاد زوجته وضرورة زياره أُمِّه وشراء هدية لابنتِه يوم عيد ميلادها ،
يكفيني هذا ويسعدني جدًا ، وكان الله بالسر عليمًا ..
ظننت
أني أُحبه وسأحبه بلا أمل ، لكنه فتح لي باب الأمل على مصراعيه يوم ناداني في نهاية
يوم عملٍ شاق وطلب مني أن أدلِّك كتِفَيه المرهَقتين ، سألني بنظرة موحية ونبرة
شقية ، تعرفي؟ ، كدتُ أن أصرخ طبعًا أعرف وأتمنى ، سعدت وارتبكت وخِفت ،
قال إنه متعَبٌ ويتمنى أن ينام ، قال إنه لا ينام في بيته لأنه لا يجد راحته هناك
ولن يجدها ، قال إن الهانم تراه حسابًا في البنك وإطارًا اجتماعيًا تتباهَى به بين
صديقاتها ، لا تعرفه ولا تشعر به، وإنه حاولَ معها كثيرًا وفشلَ وقبِلَ الهزيمة مِن
أجل منة الله ، وأضاف هامسًا ، علشانها والله مستحمل كتير ، أُنصِتُ له ولا
أَنطق ولا أَصدق أساسًا ما يقوله لي، ولا أعرف ما الذي يتعين عليه أن أرد به عليه
، ربنا يخليها لك يا دكتور ، هذا فقط ما عرفت أن أقوله ! وأعود لخرسي وصمتي وارتباكي وخوفي.
أُدلِّك
كتفَيه وجسدي يلتصق بجسده، وأصابعي تتحسس جِلده وعضلاتِه وعظامَه، وتغوص تحت أنسجته
تبحث عن معاناة الألم لتزيحها ، يقترب مني أكثر وأكثر ، نبضات قلبه تتسارع تحت يدي
ورائحة عطره تلتصق بأنفي وأطراف أصابعي ، أرتبِك أكثر وأكثر ، يثني على أصابعي الرقيقة الحانية التي أزالت أوجاعه
، يزداد ارتباكي وأهمس تحت أمرك يا دكتور ، يسألني أن أُدلِّك فقراتِ رقبته
ورأسه ، يقول إن أصابعي سحرية وكلها إحساس، وإنها أراحته، وإنه أدمَنَها ولن
يستغني عنها، وبصوتٍ هامس أضاف "ولا عنك"!! هل ترنحتُ وقتما سمعت نبرة
صوته وحنانها؟ هل تمنيت أن أقول له إني أحِبه ولا أقوى على بُعدِه وإني مش
مصدقه نفسي!! تمنيت لكني لم أنطق ، أَغمَض عينيه ونام وسقطت رأسه للخلف في
حضني، وكدت أن أبكي من الفرحة، ها هو الرجل الذي حلمتُ بقربِه يغفو فعلا في حضني وأصابعي تدلِّك رقبته وتزيح أوجاعه
وتريحه ... ولم أقُل له أبدًا إني أحِبه، لكنه فهمَ وعرَف وأدركَ وشَعر ، لم يقُل
لي أبدًا إنه يحبني ، لكني تيقنت أنه يحتاجني ويحتاج وجودي، وأن تشنجات رقبته لا يريحها
إلا لمساتي، ورأسه المتعبة لا تنام إلا في حضني وساعات راحته لا تكون إلا وهو غافٍ
مطمئن في وجودي والعيادة خالية إلا مِنا -
نحن الاثنين - وفقط ....
هل
تحبني يا دكتور حسن؟؟ سؤال تمنيت أن أسأله له، لكني أحسست أني لا أحتاج إجابته ، نَعم
هو يحبني وإلا ما غفا في حضني وما استراح إلا بلمساتي ... وتصورت واهمةً أن الحياة
ستمنحني بعض فرحتها ووجهها الجميل وأن حظي أخيرًا سيترك مساحاتِه السوداء ويتلون
بالفرحة، وأن الدكتور حسن هو نصيبي الذي أَخفَته عني الدنيا مفاجأة سعيدة، أظنه أوهَمني
أنني سأعيشه وأعيش المستحيلَ معه، أوهمني وقررتُ أن أصدقه وليذهب العالم كله
للجحيم، وحين صدقتُ وآمنت ووثقت وأعددت
نفسي للفرحة ورحمةِ ربنا ذبَحَني بمنتهة القسوة وبلا أدنى مبالاة وكأني حشرة سحقَها تحت حذائه بغفلة، وكأنه لا يراها
ولا يقصد!!
ما كانش
العشم يا دكتور ،
عشر سنوات وأكثر مرت بعدما أدركت حقيقة ما بيننا ، أقصد ما ليس بيننا ، عشر سنوات
بكيت فيها مئات بل آلاف المرات ، فكرت كل يوم بل كل لحظة أن أترك العمل وأن أتركه وأختفي بعيدًا عنه وأنا أسبّه
وألعنه وأهلَه كلهم وقسوتَه واليومَ الأسود الذي وقعتْ عيني عليه ، ما كنش العشم يا دكتور ، تمنيت كل يوم
من تلك السنوات العشر أن أقولها له وأرحل ، لكني لا أقوى أن أرحل ولا أقوى على غضبه
، ولم أقوَ أن أقولها له، ولم أقوَ ان أبتعد عنه ...
عشر
سنوات أعمل في عيادته ، بليدة معذبة ، ضعيفة هشة ، لا أرحل ولا أصرخ فيه ولا أعاتبه،
ولا حتى أُنقِذ ضحاياه من قسوته وكذبِه وزيفه ، وكأني أجلس على مقعد في صالة عرض
سينمائي أتفرج على فيلم حزين ينتهي كل مرة بدموعي وأنا خرساء لا أنطق ولا أملك
تغيير أحداث الفيلم ولا نهايته ، عشر سنوات تأتيه الضحايا مشرقاتٍ سعيدات مُقبِلات
على الحياة والحب ويخرجن من باب غرفته كسيراتِ القلب والنفس والروح، وأنا خرساء
وقت يأتين وخرساء وقت يرحلن، أرقب ابتسامته وألبوم ضحاياه الذي يضم إلى صفحاته كل فتره
صورة واسمًا جديدًا !!
اليوم
أتته فريسته الجديدة التي سيلهو بها ومعها ، أتته العصفورة التي سيلقي شِباكَه
عليها ويوقعها ويخدعها ويسحقها ويكسر روحها ، أشفقت عليها وتمنيت لو حذرتها لتفر
من كمينِه وقبلما ينطق لساني بحرف ، أتذكّر ما أعيشه وتمسُّكي بقربِه ووجع عذابه
بدلا من رحيلي عنه وعذاب بُعدِه ، أتذكّر ما أعيشه وأسخر من نفسي وأوفر نصائحي
وتحذيراتي لنفسي وأخرس..
اليوم
أتته فريسته الجديدة، دخلت شِباكَه بقدميها ، رحب بها وطلب لها العصير البارد، وقدّم
لها حبات الشوكولاته التي أوصاني بشرائها وأطال كشفَه عليها ومنحها منتهى اهتمامه
ورعايته ، أراقبه وأفهم ما يفعله وسِحره الذي يلفها فيه ، أرملة الدكتور رحيم ،
هكذا عرّفتني بنفسها ، حدّجتها بنظرة فاحصة وعرَفت أنها الموعودة ، وتمنيت لو
طردتها من العيادة إشفاقًا عليها .. يكفيكِ حزنكِ على زوجك، أنتِ لا تستحقين حزنًا
ووجعًا جديدًا، لكني لم أفعل، وبدأت القصة التي أعرفها وكل تفاصيلها وشكل نهايتها
، ها هي تدخل الباب بإرادتها ولن يطول انتظاري حتي تخرج من ذات الباب تداري دموعَها
التي ستنهمر أمطارًا وقتما تنفرد بنفسها في المصعد !! بدأت القصة ، وها أنا أنتظر
نهايتها المعروفة واثقةً أن كل شيء سيحدث مثلما حدثً ألف مرة، فقط لا أعرف ميعاد
النهاية ، لكنها ستأتي، ستأتي كما أعرفها وكما شاهدتها مئات المرات ، ولن يطول
انتظاري !!
( 13 )
" حكاية الدكتور حسن "
أخرجتُ
من حقيبتي زجاجة الويسكي الفاخرة التي لا تفارقني ، أخرجت كوبًا أنيقًا من دلسوار
جَدتي ، أسقطت بعض قِطع الثلج وغمرتها بالويسكي وشربتها بسرعة ، في صحتك يا حسن
في صحتك يا دنيا .. ومرة ثانية وثالثة .. وتراقصت الصور أمامي ومُحيت الكلمات
ومعانيها وصارت همهماتٍ ممضوغة لا تشرح معنى ، ومرة رابعة وخامسة ... وأَضحَك ...
أَضحكُ
وأَضحك والسراية القديمة تراقبني برعبٍ وكأني سأقفز من مقعدي وأهدم جدرانها ، أضحك
وأضحك وأبحث عن كلمات طمأنينةٍ للسراية والجدران والنساء وقلبي فلا أجد ، أضحك وأضحك
، أعتلي خشبة المسرح وأحكي الحكاية ...
أبدأ
العرضَ بلا جمهور ، أنا والشرفة، وكوب الويسكي والزجاجة الفارغة، وبقايا الثلج
والجدران الفزعة، والأسقف المرتعشة وتاريخ العائلة، كل هذا معي على خشبة المسرح
التي اعتليتُها ، أفتح الستار وأصرخ في الجمهور الوهمي الذي انصرفَ عن عرضي قبل
بدايته ، أصرخ فيه وكأني غاضبٌ والحق أني لا أشعر بأي شيء إلا دبيبَ النمل تحت جِلدي،
والطَّرَقات العنيفة التي تحطم رأسي والويسكي يفتك بي بلا رحمة ولا هوادة ، أفتح الستار
وأبدأ العرض الذي لا أعرف نهايته ، أصرخ ، أيها البُلَداء، أيها الغرباء، أيها
المحنّطون في جلودكم الخشنة، أيها الموتى وكأنكم أحياء، أنا حَسن الوهيب البطل
والمؤلف والمُخرِج، أنا حسن الوهيب سأحكي الحكاية لنفسي في المقام الأول علّني أفهم
ما الذي حدث وكيف عشته ولماذا، فإن سمعتموها مني فاعرفوا أني لم أقصد، وأني أيضا
لا أكترث بكم ولا برأيكم في حكايتي ، والحكاية بدأت حين فررت من الجميع إلا نفسي
التي أحتاجها وفقط لأفهمها وأفهم الحياة التي عشتها، وربما أعيشها، ويا لها من مهمة
شاقة وصعبة وحمقاء ...
الحكاية
بدأت أم انتهت؟ لم أعرف بعد ، لكني سأعرف طبعًا وأنتم أيضا ستعرفون ، هل أقص عليكم
الحكاية من بدايتها أم من نهايتها؟ الأمر محيّر لكني سأعرف ، أنتم لن يفرق معكم من
أين أحكي، فالأمر مُسَلٍ في جميع الأحوال ، أنا الذي يفرق معي طبعًا وعلىَّ أن أعرف
الفَرقَ بين النقطتين، الفرق الذي أعيش حياتي بينهما ، نقطة البداية ونقطه النهاية،
وما حدث بينهما وما سيحدث !!
وأترك
خشبة المسرح الوهمي وأجري للشرفة ، أقلب زجاجة الويسكي الفارغة على شفتي ، أرتشف آخر
قطراتها ، تُضيء كشافات الإضاءة العالية على خشبة المسرح وتَرفَع السماعات الضخمة
صوتَها يدوّي في الليل الصامت ، أعود في منتصف الدائرة التي رسمها الضوء تلون وجهي
وروحي بالشحوب المخيف ، أحكي للجمهور الوهمي حكايتي الغريبة ، أسأل نفسي وأسألكم ،
ما الذي سيخسره الوجود لو لم أفهم شيئا وعشت مثل الملايين الذين لا يفهمون شيئا
وسعداءَ وراضيين وشاكرين وحامدين؟؟ عشت ومتُّ مثلهم ومثلكم جميعًا لا أفهم شيئا
ولا أكترث أساسًا ؟؟ أبحث عن إجابة هذا
السؤال فلا أجدها ، فأضيفه لقائمة الأسئلة الصعبة التي يتعين علىّ العثور على إجاباتها
قبلما يمر العمر وينتهي فأموت لا أفهم ولم
أفهم شيئًا ..!!
أيها
المخدوعون الكاذبون المخادعون غير المكترثين ، انتبِهوا لعبثي ولعبي ولهوي ولا تصدقوني
، لن أحكي لكم قصتي الحقيقية ، ها أنا ذا أعترف أني سأضيف على الحقيقة بعض الرتوش
وأمحو عنها بعض التفاصيل، كما أن هذه اللعبة التي ألعبها تستهويني ، فالغموض
والغرابة وبعض الكذب أكثر امتاعًا من قصتي الحقيقية !!
سأحكي
ما أرغب في أن أحكيه، ولكم أن تصدقوني أو لا تصدقوني ، هذا أيضًا لا يهمني ولا أكترث
به ، هذه هي حكايتي وتفاصيلها الغريبة غير
المنطقية، وأنتم وشأنكم تصدقونها أو تكذبونها، ما يحلو لكم قرِّروه ، وأنا أيضًا سأقرر
ما يحلو لي ..
تصفيق
حاد ، تصفيق عالٍ ، صوت صفير يدوّي في أُذُني ، ترحيبٌ أَم استهجان؟ لا أعرف ولا أكترث
، ما أجملَ أن تصنع مسرحك وتكتب نَصك وتعبث بقدرك وتلهو دون أن تَعبَأ بكل العقل حولك ، العقل أو اصطناع
التعقل ، أيها الجمهور الوهمي الذي لا تتابعني لاتقُل لي إن ما أحكيه غير منطقي ،
كل ما نعيشه غير منطقي ، المنطقي أننا نحيا حياة غير منطقية، وكل مِنا يمنطق حياته
بالطريقة التي تريحه ، لا تَحكموا علىّ منذ البداية ولا تقرروا أن حكايتي غير
منطقية ، هذه حكايتي ، حكاياتكم أنتم مَنطقوها كما ترغبون، واسمحوا لي في نفس
الوقت أن أقرر أن حكاياتِكم أيضًا غير منطقية ، أُصفّق لكلماتي وأضحك وأضحك !!!
أيها
البُلَهاء البُلَداء الأَسرَة المعتقلون في أُطُر رضا الوهيب وقواعد سليمان الوهيب
ودموع رقية الكشميري وأكاذيبي ، مَن قال إن العالم الذي نعيشه يحكمه المنطق والعقل؟
لو أنه هكذا ما عشنا كل العبث الذي نعيشه ، العالم الذي نعيشه لا يحكمه إلا نحن
ومعاييرنا الخاصة التي تُمنطِق غير المنطقي فنقرر في لحظة سلام مع النفس أن حياتنا
منطقية جدًا ومائة فُل وعشرة !! هذه حكايتي كما أرغب أن أحكيها ، حكاية
الدكتور حسن .. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته !!
تصفيقٌ
حاد، وصفير عالٍ، وضحكات ودموع، وأَسقط على أرض الشرفة أو على خشبة المسرح أو في
حضن منصفة ، أتهاوَى ولا أقوى على أن أُقيِم نفسي، وأقاوِم لأعيش ولو كاذبًا مراوغًا
كما كنت ، لا أقوى على شيء إلا مواجهة نفسي لأفيق من الويسكي والأكاذيب والزيف
والخديعة علّني أستردها للأبد أو أفقدها للأبد!! أطفِئوا الأنوار وأغلِقوا الستارة
، عرض الليلة انتهى، وانتظِروا عرضًا آخر غدًا !!
هامش - الحاجه منصفة
صفقتُ
له بقوة ، أراه واقفًا على خشبة المسرح يؤدي منولوجًا مثل الذي برع فيه يوسف بك
وهبي ، صفقتُ له بقوةٍ وتهيأتُ لسماع حكايات حفيدي وما الذي سينتقيه منها ليقصه
عليكم ، أجلِس في الصف الأول من مسرحِه الوهمي ، وسأُصفق له كلما برعَ فيما يحكيه،
وحين لا تصفقون له سأُصفق أنا وبشدة ، حفيدي وقُرة عيني وأتمنى سعادته ، فإذا كان
ما يحكيه لكم سيسعده فأنا فرِحةٌ لفرحِه وسعيدةٌ لسعادته ، هو حُر يحكي لكم ما يشاء،
وأنا حُرة أصفق له كيفما أشاء، وأنتم أحرار جدًا أيضًا ، في الحقيقة العالَم كله حُر..
أو هكذا يظن !!
صفِّقوا
لحفيدي الدكتور حسن وهو يحكي لكم حكايتَه ، صفقوا له بقوة وأنصِتوا لحكايته واستمتعوا
معنا بما يحكيه!! احكِ يا حسن، أقصد احكِ
يا دكتور حسن حكايتك احكٍ ...
نهاية الفصل الثاني
ويتبع بالفصل الثالث
هناك تعليقان (2):
لا افهم ولم افهم شيئا ..
ايها المخدوعون الكاذبون المخادعون غير المكترثون ، انتبهوا لعبثي ولعبي ولهوي ولاتصدقوني ، لن احكي لكم قصتي الحقيقية ، هاانا اعترف اني ساضيف على الحقيقه بعض الرتوش وامحي عنها بعض التفاصيل وان هذه اللعبة التي العبها تستهويني ، فالغموض والغرابه وبعض الكذب اكثر امتاعا من قصتي الحقيقية !!!
ساحكي ماارغب احكيه ولكم تصدقوني او لاتصدقوني ، هذا ايضا لايهمني ولااكترث به ، هذه هي حكايتي وتفاصيلها الغريبة غير المنطقيه وانتم وشأنكم تصدقوها تكذبوها مايحلو لكم قرروه ، وانا ايضا ساقرر مايحلو لي ..
تصفيق حاد ، تصفيق عالي ، صوت صفير يدوي في اذني ، ترحيبا ام استهجان ، لااعرف ولااكترث ، مااجمل ان تصنع مسرحك وتكتب نصك وتعبث بقدرك وتلهو لاتعبأ بكل العقل حولك ، العقل او اصطناع التعقل ، ايها الجمهور الوهمي الذي لاتتابعني لاتقولوا لي ان مااحكيه غير منطقي ، كل مانعيشه غير منطقي ، المنطقي اننا نحيا حياة غير منطقيه وكل منا يمنطق حياته بالطريقه التي تريحه ، لاتحكموا على منذ البدايه وتقرروا ان حكايتي غير منطقيه ، هذه حكايتي ، حكاياتكم انتم منطقوها كما ترغبوا واسمحوا لي في نفس الوقت اقرر ان حكاياتكم ايضا غير منطقيه ، اصفق لكلماتي واضحك واضحك !!!
اروع واصدق ماكتبتي
دكتور حسن صانع لجنونه الخاص..شكلت حياته نساء متعدده كل حسب قدره..و لكنه يزهو بخطواته و يعترف بشروده.
قريت مره و اتنين و انتبهت ان السطر الواحد مليان كلام..تفاصيلك رغم كترتها جذابه الي النهايه و ترسملك صوره الناس كامله في خيالك...روايه الاكثر خيالا و الامتع جنونا..تعبير قوي عن شرود نفسنا
كتبتي يقلبك يا اميره و دوستي علي الوجع
برااافو
إرسال تعليق