مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الجمعة، 4 أبريل 2014

حكاية امرأة محظوظة .... الجزء الثاني

الجزء الثاني

فحبيبة قلبك 
ياولدي 
نائمة في قصر مرصود




( 7 )
الاطار العتيق

كنت زاهيا جميلا حين اشترتني حياة لتمنحني لنجية هدية زواجها ، اذكر اني خرجت من محل الخواجه الارمني في حضن حياة ، وقفت في المحل طويلا تحدق في الاطارات المختلفة ، تسأل الخواجه عن اسعارها وجودتها ، اخبرته ان اختها الاكبر تزوجت وانها ترغب في اطار بديع لتضع فيه صورة زفافها ، اشار الخواجه علي وقال لها ان الخشب الجوزي الذي صنعت منه وماء الذهب الذي جمل حوافي يمنحا صور الزفاف جمالا فوق جمالها ، اقتنعت حياة بحديث الخواجة واشترتني ، اخذتني في حضنها وخرجنا معا صوب الحسين لبيت نجية ، طرقت حياة الباب ففتحت لها نجية مبتسمه ، احتضنتها حياة وتعانقا وانا في حضنهما معا ، تركتني حياة لنجية وهي توصيها تضع بين دلفتي زجاجي صورة زفافها وتعلقني سريعا في صدر الصالون ...
بقيت ملقي علي الحائط باهمال موجع عدة ايام ، سمعت نجية تخطر زوجها بأن حياة اشترت لها اطارا لصورة الزفاف وسألته عنها ولماذا لم يحضرها من الاستديو ؟؟، همس الزوج كي لاتسمعه بأنه لن يحضر الصورة فهو لايحب الصور ، سألته بتقول ايه ، ضحك ساخرا منها وكأنه قاصد يحرجها ، بقول حاضر ، يكذب عليك ياسيدتي ، كدت ابصرها لكني قررت الا اتدخل فيما يعنيني ، انتظرت ايام واسابيع وشهور وانا ملقي خلف مقعد الصالون علي الارض بجوار الحائط ، الخادمه كثيرا ماترفعني من مكاني وتلقي بي علي الكنبة ، مره كادت تكسر الزجاج ، مرة مسحت الارض بماء كثير تسلل من اللفة التي تحيطني للخشب الغالي بللته ، خفت يتفتت الخشب وتتفكك اوصاري ، ذات يوم اندلعت في البيت مشاجرة كبري ، صرخت نجية تطالبه بصورة زفافها ، سخر منها ومن جمالها ومن نظرتها البلهاء ليلة الزفاف ، قال لها بوضوح انه لايرغب في " تعليق " صورتها في صدر الصالون ، خيل لها انه يغير عليها ، تدللت عليه وسألته ليه بتغير علي؟؟ ، جحدها بنظرة غريبه وهمس ، علي ايه ..
مشاجرة والثانية ، صراخ وصراخ اعلي ، وفي النهاية انتصرت نجية واحضر زوجها صورة الزفاف ، كشفت اللفه التي تخنق انفاسي وفتحت المشابك النحاس ووضعت الصورة بين دلفتي الزجاج وتركتني ثانيه علي منضدة الصالون حتي يأتي البيه كما تناديه ويعلقني فوق الكنبة الكبيرة ..
انتظرت شهورا وثقل حجم "البيه" في الصورة ونظرتة الرخامية يطبقا علي انفاسي وانا ملقي علي المنضدة الرخام تتراكم فوق خشبي الاتربه وتتسلل بداخلي تطمس ملامح الصورة ، تتراكم فوق الزجاج المحتضن للصورة الاتربه وذرات رمال الخماسين ، ينطفيء الزجاج وسطوعه ونشعر جميعا انا والخشب والزجاج والصورة المحتجزة بالاختناق ، كدت ذات يوم اتشاجر معه لانها تنتظره ، وعليها تتصرف وتأتي بنجار يدق مسماره اللعين لتعلقني علي الحائط ، كدت انصحها لاتنتظره لانه لايكترث اساسا لا بها ولا بالصورة ، لكني تذكرت الدرس الذي لقنه لي الخواجه يوم انهي صنعي وابتسم راضيا عن صنعة يديه ، يومها قال لي محذرا باني سأدخل بيوتا كثيرة ويتعين علي الادب وعدم التدخل فيما لايعنيني حتي لاالاقي مالايرضيني وانه اكم من اطارات تحطمت في مشاجرات زوجية بسبب تدخل الاطارات فيما لايعنيها وانحيازها لاحد الطرفين ضد الاخر ... وظللت انتظر واختنق وهي تنتظر وتنتظر ..
في النهاية اتت حياة يبارك الله لها لطيبتها ورقه قلبها ، وتشاجرت مع نجية علي انتظارها المقيت البارد وعلقتني علي مسمار صلب انيق دقته علي الحائط بكعب حذائها .. اخيرا فك اسرنا ورفعت الاتربة المقيته من فوق قلوبنا انا وخشبي والزجاج واحتفت بنا حياة كما يليق لنا وبالعروس الطيبة التي تزين الصورة  ..
ربما بعد سنه من تاريخ شرائها لي افلحت حياة تعلقني في صدر الصالون ، اتأملها وهي تتحدث مع نجيه وتشير لها علي جمالها واناقتها في الصورة ، اراها صارت كالكورة كامله الاستدار ، حامل في شهرها الاخير ، شعرها الاكرت يتناثر فوق جبهتها ، وجنتيها ارتفعتين حتي جفونها التي انتفخت ، انفها كبر وصار ضعفي حجمه ، هل هذه الكورة هي العروسة ذات الفستان الانيق الذي تحتلني وتتباهي بي ، نعم هي ، بعد عام من الزواج وخدمه الزوج الغاضب ، نعم غاضب ، طيله الوقت وهو غاضب ، منذ دخلت ذلك البيت وانا اسمع صوت صراخه وهو يؤنبها ومرات سمعته يسبها ولاحظت حركه يديها الخفيفه التي اندست تحت شعرها واطفئت السماعه وحلقت بعيدا عن جنونه في عالمها الذي اتمني اشاركه فيه ولم افعل ابدا ...
العروسة علي وشك الولادة ، هذا مافطنت اليه وقتما حدقت فيها ، تقترب مني وتحدق في صورتها وكأنها لاتصدق ان تلك العروسه الصغيرة هي التي ماصارت عليه ككورة بشرية متهالكه ، تطمئنها حياة انه ستعود مثلما كانت واجمل بعدما تضع بالسلامه ، هل ستخبر حياة بتفاصيل حياتها الكيئبة ، لن تفعل وانا ايضا لن افعل ...
مازال الاطار يحكي قصته مع نجيه ، بل يحكي قصة نجية معه ، سمع مرات عديده سب الزوج له ، لان الصورة تزين الصالون وتخجل ، ذات يوم طلب منها تخلعني من علي الحائط ، رفضت ، نهرها ، رفضت واغلقت السماعة وقطعت البث من غضبه لروحها ، سمعته انا وهو يقسم برأس امه انه سيخلع الصورة " اللي مالهاش لزمة " ويحطمها ، وسرعان مااوفي بنصف قسمه ولم تمكنه نجيه من تحطيمي ، خلعني من الحائط وكاد يلقي بي بعيدا ، خطفتني نجية من يده ، دستني تحت ملابسها بجانب علبة الصيغة التي منحتها لها جدتها ، دستني ونسيتني ، بقيت سنوات طويله علي الرف في قاع الدولاب ، احيانا تتذكرني فتختطف نظره حسرة علي وجهها النضر الذي حفر فيه الهم والغم اخاديد عجز فحمل فوق سنين عمره الف سنة اخري ، وسرعان ماتغلق الدولاب واغرق في الظلام وانام كاهل الكهف ثلثمائه عام واكثر حتي تتذكرني مرة ثانية ..
اليوم وبعد كل هذه السنوات ، ملقي انا خلف " الشوفينيرة " العتيقة مركون علي الحائط المشقق في غرفه نومها ، هي عجزت وانا ايضا ، وهنت وانا ايضا ، تسلل المرض لجسدها وتسلل السوس لبدني ، انا وصاحبه الصورة نستعد للرحيل ..
كنت اظن مجنونا ذات يوم سيفك مشابكي الحديدية ويخرج الصورة التي حافظت عليها كل تلك السنوات ويمزقها ويفكك اواصري وربما يلقيني في المدفأه ذات شتاء ، او يسند بي المقعد المتراقص ، لكن " يوسف  " حفيد السيدة العجوز افلح يعثر علي وسط ركام الغرائب التي تمتلأ بها حجرتها ، عثر علي و" الشوفينرة " تكاد تخنقني وتحطمني تحت ثقل ظهرها المتراقص ، صرخ يوسف فرحا بالصورة ، اقترب منها وهمس يتمناها تسمعه وهي تنازع سكرات الموت وتستعد للرحيل ، حلوة قوي الصورة ياانة ، قمر ياربي قمر ، ابتسمت وكدت اصرخ نعم كانت قمر ، حدق يوسف في الصورة وعاتبها لانها تزوجت جده في عمر ابيها واكبر ، وافقته لاني انا ايضا تعجبت وقتها لكني صمت انفذ درس الخواجه ووصيته ، وعدها يوسف يصلح الاطار ويعلقه فوق فراشها ، اخيرا سيصالحني يوسف ويصالحها و................ الان انا ازين الحجرة التي تنام فيها العجوز ، اعد عليها انفاسها واخشي يخرج احدهم ولايعود لصدرها ثانيه ، اسمع صراخها وهي حبيسه نفسها تصارع مصيرها ، ابتسم ، هي هي السيدة العنيدة التي سمعت صراخها طيله حياتها تصارع الاسر والقهر والحكم القاسي عليها بالعزله والانحباس داخل نفسها ، هي هي ، عنيدة حتي وقت رحيلها ، اتمني اوصي يوسف عليها ، لكنه لايحتاج توصياتي فهو حنون حنون ، يقبل يدها كلما زارها ويوصي الممرضه عليها ويهمس في اذنها بأنه موجود وتحت امرها وانه يحبها جدا جدا ، والله وانا كمان يايوسف ، اهمس فيبتسم يوسف لي وابتسم له ، اكاد ابكي لان رفيقه حياتي اوشكت علي الرحيل ويوسف ايضا يكاد يبكي ...

( 8 )
نجية

اعتدت الاقامة في القرية مع جدتي ، بل واحببت ايامي فيها ، ذكريات ضبابيه تأتيتي بدفقات من السعادة كلما استعدت تلك الايام وتفاصيلها ..
تكررت زياراتنا للشيخ المبروك ، كنت فرحه بالملابس الجديده التي اشترتها لي جدتي وكانت تمنحني كل فجر جديد ثوب جديد وتلملم شعري الاشعث بشريطه ستان من دولابها ، تقبض علي كفي ونسير للشيخ المبروك الذي يحتفي بنا وبقفص الفطير ويملس علي راسي بكلماته فاغفو واستيقظ وجدتي فرحه وهي تقص عليه اني كففت عن الصراخ فيطئمنها ان العمل يخبو وقوته تنهار وسره يتكشف وان اسبوع اخر من الزيارات سيشفيني تماما ...
تصحبني جدتي للبيت وتتركني في الحديقه اطارد الفراشات ، شمس القريه منحت وجهي الشاحب بعض الاحمرار والصحه ، افلحت جدتي تطعمني مافشلت امي فيه ، كانت تترك لي الاطباق امامي وتتركني اعبث في الاكل باصابعي ، لم تمنحني المعلقه لاكل بها ولم تضربني علي طرف اصابعي لاني اسقطت بضعه نثرات من الاكل علي ملابسي الجديده ، تترك لي الاطباق اعبث فيها وحين انتهي من طعامي تحممني وتحدثني احاديث طويله تصلني اصوات ممضوغه غامضه لكنها تطمئني وتهدء روعي ..
في ذات فجر ايقظتني فتحركت شفتاي واخرجت صوتا كصوت العصفور الصغير الذي اطارده في الحديقه ، صلت جدتي ركعتين لله لانه منحني شفاء تصورته عزيزا ، كافئت الشيخ المبروك بربع جنيه فضه وقصت عليه مانطقت به ، حاولت تستنطقني امامي لكني صمت وجلة ، طمئنها ان شفائي صار قريبا وطلب منها لاتصمت ابدا وتكلمني طيله الوقت ، قال لها ان صوتها سيخترق حجب العمل وقوته ويصل لقلبي فانطق بعد طول صمت ، طالبها تأتيه بعد اسبوع وتقص عليه مالذي سيحدث لي بعدما تكلمني وتتركني الهو مع العصافير والفراشات حره كما استحق ..
كنت في الحديقه والعصفور الصغير يحلق في السماء وانا ارفرف باذرعتي مثله وشفتاي تتراقصان وتنطقا باصوات لاافهمها ، كنت فرحه لاني صرت قادره اكرر ماتنطق به شفتاي ، دخلت لصحن البيت لافرح جدتي ، وجدتها تبكي ، انتابني الرعب وخفت عليها ، جدتي التي احبها تلك السيدة المهيبه تبكي وتتشحتف ، احتضني باسي وصمتت ، همست في اذني بكلمات ممضوغه بنحيبها ، عرفت ان ابي طلق امي ، استجابه لطلبها ، عرفت امي انه تزوج اخري فصممت علي الطلاق ، لمت ملابسها وعادت لبيت ابيها ، اتصلت امها بجدتي تتشاجر معها لان ابنها الناقص كسر قلب البت وانه ماكانش العشم ، لطمت جدتي وصرخت حزينه مقهوره لان ابنها قصر رقبتها ولم يصن ابنة اختها ولم يشرفها ، اخبرتها اختها ان ابنتها عادت لبيت ابيها مكرمة معززة وانها ستتزوج سيد سيده وان البت الملبوسه مش لازماها ، دعت جدتي لامي علي وتمنت لي الموت لاني بوز الاخص ووش النحس  ، كانت ترغي وتزبد غاضبه ساخطه علي اختها وابنها - جدتي وابي - وتمنت جدتي لو " بركت " امي عليا يوم ولدتني فاستراحت من همي وغلبي والنكد الذي افسد حياتها وقطعت الصلة بينها وبين زوجها الخائن الذي لم يصون العشره ولا صله الرحمه ولا كلمه الكبار ....
لطمت جدتي طويلا واتصلت بابنها تتوعده بانه لاابنها ولاتعرفه وانه ناقص ودون و انه افسد علاقتها باختها وكسر قلب ابنه اختها وانه يتمني علي حياة عينيه وانها ستبقيني معها اؤنسها ، طال صمت ابي حتي " فشت " جدتي غلبها وغضبها فيه وفي النهايه طلب منها تدعو له براحه البال ووافق علي بقائي مع جدتي واكد لها ان الصغيرة التي عندها لاتلزمه لانها ابنة النكد وان زوجته الجديده ستنجب له اولاد اصحاء اولاد الحب والهيام وانه لن يعود لابنة اختها لو قتلته ووعدها بأنه سيتكفل بمصاريفي ويمنح امي نفقاتها الشرعيه وطلب منها الاذن ليزورها وزوجته الجديده ليطمئن عليها وعلي ، سبته واكدت عليه انها لاتحتاج نقوده وانها ستتكفل باليتيمه التي حرمها من بيتها وامها وانها ابدا لن توافق علي زواجه ولن تأذن له يأتيها باللعوب خطافة الرجاله التي هدمت بيت ابنة اختها وجدرانه فوق راسهم جميعا ...
تبكي جدتي وتبكي وتاخذني في حضنها ودموعها تنهمر علي وجهها حزينه غاضبه ، اسكن في حضنها وحين تصمت احاول اسعدها ، فاجري من حضنها الوح بذراعي كالعصفور الصغير الذي كنت اطارده واخرج من شفتاي اصوات متلاحقه كصوت العصفور ، تضحك جدتي وسط دموعها وتستعيذ بالشيطان الرجيم الذي افسد حياة ابنها وزوجته وتقرر تاخذني في زياره لهما للقاهره بعدما يمن عليه الله بشفاءه لاسعد قلبيهما ولاجمع شملهما ثانيه ..
منذ عدة ايام قلدت صوت العصفور العالي في السماء وبعدها بعدة ايام ناديت جدتي ، تي تي ، كانت تهمس " قولي ستي " صوتها هذه المره وصل لاذناي رائقا واضحا ، همست ، تي تي ، زغردت جدتي وصفقت بايديها وفتحت دولاب الخزين واخرجت لي ارواح ملونه مكافأه لاني احاول انطق وانطق فعلا ..
مازالت اعبث في اطباق الاكل وصحتي تتحسن بسرعه ومازالت الشمس تلون وجنتاي اللتي كانا شاحبتين بحمرة لطيفه ومازالت شفتاي تتدفقان باصوات ممضوغه ، بو ، تي ، ما ، صو صو ، كل صوت يسعد جدتي ويضحكها ، اوصت خادمتها الشابه انصاف لتاتي بأبنتها الصغيرة لتلعب معي ، تحكي لها ان البت صارت يتيمه في حياة ابوها المجنون وامها الرعناء التي لم تحافظ علي بيتها وتشبثت بكرامتها فهدمت البيت فوق رأسها  ، تبث لانصاف حزنها وحكايه اول فرحتها اللي كسر قلبها وتزوج علي ابنة اختها وشرد ابنته الصغيرة ، اتت انصاف بزبيدة لتلعب معي ، كانت صغيره اكبر مني قليلا ، كنت وقتها في الثالثة وزبيدة في الخامسه وربما في السادسه ،كانت تأتي من اول النهار مع امها وتغادرني في الليل ، كثيرا كنت اتشبث بها فتحممها جدتي وتبقيها معي في البيت وننام معا في الفراش ، نشبك كفوفنا برقه ودفء ونحتضن بعضنا ونضحك حتي ننام ، صارت زبيدة الابلة وصرت تابعتها ، جدتي فرحه بالتحسن الذي يبدل حالتي من خرساء بكماء لصغيره فرحه تلهو خلف الفراشات وتنطق بعض الحروف الممضوغه وتزيد كل يوم عن الاخر اكثر واكثر ، زبيده تصرخ بصوت عالي ياامه فاقلدها ، زبيده تقلد صوت الحمار فاصرخ مثلها وتضحك جدتي ....
والايام تجري والكلمات ايضا علي لساني وبين شفتيي ..
و........ مر عام وانا في القريه مع جدتي وعقده لساني اتفكت وصرت انطق بعض الكلمات التي تفهمها جدتي وتفهمها زبيده ، جدتي كافئت زبيده باثواب جديده ومنحت امها جنيه فضه حلاوة شفائي وقررت تصحبني لامي في زيارة بعدما علمت بانهيارها لان ابي انجب صغيرة جميله من زوجته المطلقه ، نعم عرفت جدتي اخيرا السر الذي اخفاه ابنها عنه ، تزوج بمطلقه غريب وانجب منها صغيرة استغني بها عني وعن امه ، فهمت جدتي اخيرا السر في تلك الزيجه السريعه ومبررها ،  وعرفت لماذا قبل ابو الزوجه الجديده يضع يده في يد ابي وهو وحيدا بلا اسره ولااهل ولا عزوه ، عرفت ان ابو الزوجه الجديدة ماصدق تخلص من ابنته المطلقه وعبئها والصقها بابنها وهدم بيته وشرد ابنته الصغيرة التي هي انا ..
البستني جدتي ثوبا جديدا وشرحت لي اننا سنزور امي وابي وطلبت مني اقبض علي كفيهما ولااتركهما ابدا وتمنت لو افلحت اعيد المياه لمجاريها واعيد بناء البيت الذي تهدم ، ودعت زبيدة بالاحضان والدموع واوصتني انصاف احترس لنفسي ووضعت المصحف تحت يد جدتي لتعدها تعيديني لحضنها بعدما صرت ابنتها مثل زبيدة ، وعدتها جدتي تعود بي الا لو افلحت اعيد الوصل بين امي وابي ...
سنة قضيتها مع جدتي في القرية الهو مع العصافير ، لم اري امي ولا ابي ، لم افتقدهما ، بل كدت اقول اني نسيتهما ، حريتي التي منحتي لها جدتي وشفتاي اللتين نطقتا بكلمات بسيطه مكنتي من التواصل مع زبيدة وانصاف وجدتي والحياة كلها وهدوء القرية مكنا اذناي من التقاط الاصوات والكلمات وفهمها ، سنه قضيتها مع جدتي وبركه الشيخ العجوز حولاني من صغيرة بلهاء كما كان يصفني ابي وامي بقمراية كما تصفني جدتي وتغني لي وهي تحممني وتصفف شعري وتهدهدني وقت النوم ...
ووقفت بجوار جدتي وهي تقف شامخه امام بيت اختها التي اوصدت قلبها في وجهها عام كامل ، وقفت بجوار جدتي وكفي في كفها وهي تردد علي سمعي بحنان ، اول ماتشوفي امك يانجية تترمي في حضنها وتقولي لها ماما ، اهمس ببطء مااااااااامااااااااا تبتسم جدتي وتدعو للشيخ المبروك وتتمني تحل بركته علي البيت الذي تهدم فيعيد الشتيتان بعدما تفرقا و.... تدق جدتي الجرس وخلفها انصاف تحمل اقفاص الزيارة الكبيرة التي حملتها جدتي لشقيقتها وزوجه ابنها وام الغالية كما تطلق علي امي ..

( 9 )
عبد الهادي

اتصلت بي رجوات شقيقتي واخبرتني انها عثرت لي علي عروسه طيبة وابنة حلال ، طلبت مني استعد لزيارة منزلها يوم الجمعة ، انفجرت في البكاء ورجتني استجيب لرغبتها لان العمر جري ولم يعد فيه مايسمح لي بالمرواغة ويكفيني ماعشته واغلقت الخط ..
اجلس علي مقعدي المفضل اقرأ في كتاب عن تاريخ القبائل العربية التي تنتمي لها جذور عائلتي بالبحيرة ، عبرت من البحر الاحمر في غزوات حربية متصورة انها ستقهر المصريين وحين هزمت في المعركه اعجبها الحال ونصبت خيمها وبقيت واستقرت في الارض التي طمعوا فيها غازين فهزموا وجردتهم من اسلحتهم وحين فتحوا لها احضانها احبتهم كأبناءها ، في اخر صفحات الكتاب قائمه بأسماء القبائل التي غزت وطننا وهزمت ، ابحث عن اسم عائلتي ، صفحه والثانية والثالثة ولم اعثر عليه بعد ، القيت الكتاب مللا واعددت كوب شاي لاحتسيه وحيدا علي صوت المذياع مثلما فعلت مئات الايام التي عشتها وحيدا بعدما تزوج كل اشقائي وشقيقاتي ..
يتردد في اذني صوت رجوات وهي تؤكد علي ميعاد زياره العروس ، ابتسم ساخرا منها ، فمن هي الشابة الصغيرة التي يقبل ابيها يزوجها لمن في سنه واكبر ، رجوات تحلم بالمستحيل ، حاولت مرات كثيرة افهمها ان العمر مضي واني راضي عن حياتي واني اولادهم اولادي واحفادهم احفادي وكفي المؤمنين شر القتال ، لكنها ابدا لم تستسلم ، صممت تبحث لي عن عروس تعوضني الوحدة والتضحيات التي قدمتها لها ولاخوتها بعدما منحتهم عمري لاربيهم وانفق عليهم وازوجهم بعدما مات ابي ولحقت به امي وتركتهم لي كالقطط الصغار وانا في السنة الاخيرة من التوجيهية ، فكرت اتركت الدراسه لاعمل وانفق عليهم ، لكن رجوات بكت وهددتني بالانتحار وصممت اكمل دراستي ، رضخت لها وصرت اعمل مساءا في وظيفه صغيرة يكفي راتبها لنأكل عيش حاف وباب بيتنا مغلق علينا يسترنا من الفضيحه واذهب للمدرسه نهارا واذاكر دروسي بعد العمل ، طبعا لم احقق نجاحا باهرا يمنحني مكانا في المهندسخانه كما كنت اتمني ، التحقت بكلية الزراعه لاتخرج بعد سنوات صعبه مهندس زراعي واهي كلها " هندسة " علي راي رجوات ..
كنت اعمل في وظيفتين وانفق علي اخوتي الصغار حتي تخرجوا من المدارس والتحقوا بالجامعات والوظائف التي منحت اسرتنا راتبا يكفي لزواج البنات وسترتهن و........... وحين عدت من كتب كتاب اصغر اشقائي ووجدت البيت خاليا صامتا كئيبا ، انتبهت لسنوات العمر التي مرت ، حدقت في المرأة ، وجدت ملامح مخيفة شحذتها الايام الصعبة والمسئولية ، وجدت شعيرات بيضاء تمنح بشرتي سمرة كالارض المروية ، وجدت الثمانيه واربعين عاما الذين عشتهم متكالبين فوق جبهتي ورأسي يؤكدوا ان العمر مر وعدي وان حياتي انتهت مثلما بدأت ، سأعيشها وحيدا ارعي اخوتي واولادهم ، ثمانية واربعين عاما ياعبد الهادي وانت تكد وتسعي لتربيه اولادك ، اقصد اخواتي ، نعم صاروا اولادي بلا زوجة حنونه تمنحني حبها ورحمها وبلا دنيا ادخلها واخرج بهم منها ، صاروا اولاد اليتم ومسئوليتي ...
رجوات تعذبت مثلي واكثر ، حين ماتت امي كانت في الرابعة  عشر وانا في السادسة عشر ، كانت تذاكر وتطبخ لاخوتها وتنظف البيت وتسمع دروسها وتأكل لقيمات صغيرة وتزعم سدة نفسها وشبعها وحين حصلت علي التوجيهيه ، اكتفت من الدراسة وقررت تتفرغ لرعايتنا جميعا ، خمسه اخوة صغار غيرها وغيري ، مشوارنا طويل يارجوات ، ربنا يقدرنا ياعبد الهادي ...
كنا نعيش في مدينة صغيرة في الدلتا ، تقاليدنا تجبرني ازوج رجوات والا فاتها القطار وعنست وضيعت حظها واملها في الحياة ، قررت ابع الستة قراريط التي تركتهم لنا امي ، لن ابيع فدان ابي ، فهذا عيب كبير في حقي وحق عظام التربة ، قررت ابع السته قراريط لازوج رجوات ، رفضت العرسان الرجل تلو الاخر وحين صممت قبلت تتزوج بشرط اجبرت عريسها علي قبوله ، حاعيش مع اخواتي ، جهز لها بيت وفرشته بالمنقولات المبهجة لكنها بقيت تخدم اخوتها وتخدمني حتي تزوج اصغرهم ، وقتها عادت عروس لبيت زوجها وفي يدها اربعه اولاد انجبتهم في بيت ابيها وربتهم مع اخوتها وصارت الاسرة كبيرة والحمل ثقيل عليها وعلي زوجها وعلي ...
رجوات لم تنسي ابدا اني ضحيت بشبابي من اجل اخوتها وسترة البنات ومستقبل الرجال ، حملتني فوق رأسها واعتبرتني صاحب جميل يلزم رده وان طال الزمن ، مرات كثيرة عرضت علي فتيات للزواج ، جميلات اثرن لعابي وذكروني بنفسي التي نسيتها ، لكني رفضت اوافقها ، لن ااتي بزوجه لتنضم الي قبيلتنا الكبيرة وانا عاجز عن رعايتها فكل ذهني وقلبي لاخوتي واولادهم ، رفضت اسايرها اكثر من مرة فيأست مني او هكذا ظننت ، لكنها ابقت امنيتها حبيسة قلبها واجلتها لوقت مناسب حسبما تري ، وهاهو الوقت المناسب قد اتي ..

( 10 )
حياة

مازلت الهو مع نجية في الشرفة وصراخ امها يصم اذني ولا يحرك في رأسها شعرة واحدة ، ومازالت جدتي تقرأ ايات القرأن لييسر لزوجه ابي عسيرها ، ومازالت الذكريات الضبابيه تلاحقني وكأنها شريط سينما اعيش احداثه مجددا ..
خرج ابي وقت العصر وترك امي تتلظي علي جمر من نار خائفه من زيارته لامه ، عاد في الليل المتأخر مرهقا حزينا ، حدق في وجه امي بحزن ونام مقهورا ، جدتي امرته يعيد ابنة اختها لعصمته ، امرته يلم الشمل ويصلح الغلط ويعيد للصغيرة اليتيمة دفء منزلها ، امرته جدتي يصالح زوجته كما تصف ابنة اخيها ، شرحت لها ان البنت اتقهرت وقعدت مكفية علي حزنها ورفضت كل العرسان اللي اتقدموا لها وكلها امل يعود لها ، شرحت له جدتي انه مدين لها باعتذار لانه تزوج خطافة الرجاله بدون اذنها وانها ستموت غاضبه عليه ولن تصالحه ابدا ، اكدت له جدتي ان اختها كسيرة النفس بعدما طلق ابنتها واول فرحتها وكسر نفسها وقلبها وانها لن تقوي علي غضب اختها وخصامها وقطيعتها ، اخبر ابي جدتي ان امي علي وشك الولاده وربما تأتي لها بالذكر الذي تتمناه ، اكدت له جدتي ان زوجته ستنجب فتاه وان الذكر ستنجبه له ابنة اختها زوجته الاولي ، سخرت جدتي منه لانه يعمل خاطر لخطافة الرجاله علي حساب بنت الاصول التي اشترته وصانت غيابه وانتظرته ، تشاجر ابي وجدتي ولم يهتم بوجود نجية التي وقفت تائهه لاتعرفه حتي امرتها جدتي تسلم عليه وتدخل في حضنه ، هل لم يحب ابي نجية اختي ، لااعرف لكني اظنه حملها سبب اجباره علي ارجاع امها لعصمته ، جدتي امرته يعيد امها لعصمته وان مش ذنب البت الصغيره تعيش يتيمه وانتم الاتنين عايشين ، احس ابي ان نجية الطوق الحديدي الذي طوق رقبته وكسر ارادته وكرامته امام زوجته الحبيبه ، احتضنها ببرود وكأنه يعاقبها مثلما تعاقبه امه ، تشاجر ابي مع جدتي وهي مصممه تعيد المياه لمجاريها ، اوضح لها انه لن يكسر خاطر زوجته التي علي وشك الولادة وان الحزن وحش عليها وعلي اللي في بطنها ، سمع جدتي وكأنها تدعو علي امي وعلي بالموت ، همهمت بكلمات ممضوغه لم تفصح له عن معناها لكن رسالتها وصلته داميه كالخنجر المسموم في قلبه ، فاوضته جدتي ليعيد زوجته ام نجية لعصمته الليلة وحين رفض قبلت علي وعد يعيدها لعصمته بعدما تلد خاطفه الرجاله بالسلامه ، قالت جملتها الاخيره وهي تبتسم ساخره ، شرحت له جدتي انها متسامحه واجبرت ابنة اختها علي التسامح والغفران وانهما لن يطالباه يطلق امي ، كان تكذب وتعرف انها تكذب لكنها في البدايه كانت تجر رجله كما شرحت لابنة اختها ، اوضحت جدتي لابي انهما لن يجبراه يطلق زوجته واكم من رجال قادرين يتزوجون امرأة واثنين ، وقالت لابي انهما سيتركاه في الشقه التي تعيش فيها خطافة الرجالة وعليه يشتري شقه جديده لزوجته يصالحها بها ويقضي معها خمسه ليالي ويترك اثنتين لخاطفه الرجاله واكدت له جدتي انها ستكتب باسمه حديقه المانجو لينفق من ايرادها علي بناته وانه لولا الصغيرة القادمه - التي هي انا - لولاها لاجبرته يطلق خاطفه الرجاله وفورا ، لكنها لن تفعل لان قلبها طيب ولن تصلح كوب وتكسر الاخر ولن تلم صغيره وتشرد الاخري وانفجرت في البكاء كأنها تتوسل اليه الا يصغرها امام اختها التي وعدتها باصلاح الموضوع وحله والصلح خير  ، استسلم ابي لسطوة جدتي ووعدها يفكر وعاد لمنزلنا عبوسا حزينا لايجد كلام يشرح به لامي التي يقترب ميعاد ولادتها رغبه امه وتهديداتها ..
فهمت امي ماينتظرها من جدتي وسطوتها علي ابنها ، لكنها طردت اشباح الخوف من خيالها وتصورت ان حياتها الهانئه ستستمر للابد ، وسرعان مااتي الطلق عاصفا عنيفا واتيت اني طفله كالبدر الجميل ، يوم السبوع طرقت جدتي الباب وفي يدها نجية اختي الاكبر ، نقطت امي بكردان ذهب بندقي ومنحتها حلق صغير لاذني وحملتني من يدي واجلستني في حضن نجية وهي تشرح لها اني اختها الصغيرة ، قبلت امي نجية مرتبكه واحست خوفا يداهمها ، جدتي ام امي سارعت لجدتي تحتضنها وتحييها وتشكرها علي خطوتها العزيزه ، جدتي لابي لم تبادلها الحفاوة ولا الحب وسلمت عليها ببرود وتعالي وسرعان مااخذت نجية وملبس السبوع والشمع ورحلت وهي تؤكد علي ابي انها تنتظره ليفي بوعده الذي اتي ميعاده وحان وقته ... ولم يطل انتظارها وكان ماكان ..
مازالت زوجه ابي تصرخ وانا ونجية نلعب في الشرفه وجدتي تنتظر البشارة وسرعان ماتعالت الزغاريد وجرينا انا ونجية للصاله لنجد جدتي فرحه بحفيدها حامل اللقب الذي منحته ابنة اختها لابنها ، جريت ونجية صوب باب الغرفه التي يتعالي منها صراخ المولود ، خرج ابي فرحا بابنه الذكر حامل اللقب والاسم  ، احتضننا وصرخ بصوت عالي لتسمعه نجية ان اخينا علي قد شرف الدنيا و............... دقت انصاف الهون ورقصنا انا ونجية وزبيدة وزغردت جدتي واحتفل ابي بابنه الذكر بذبح عجل وزع لحمه علي اهل الشارع و..... طبعا لم تاتي امي ولا جدتي امها ولااحد من اهلها ليبارك لابي علي ابنه فلم تنسي جدتي لهم ابدا تلك القطيعه وعايرت ابي بالكردان البندقي الذي اهدته لامي يوم سبوعي وانها تصرفت معها كبنات الاصول وهن تلك العيله الناقصه تصرفن معها بخسه غير مقبوله وكانت القطيعه الابديه بين جدتي وبين امي واهلها وتهت انا بين العائلتين لااجد لنفسي وسطهم مكان ، فقط نجية كانت تحبني واحبها وترافقني كظلي فارعاها حتي نسيت انها اختي الكبيرة ....

( 11 )
2014

مازلنا في ساعة النهار المبكرة ... لتتأمل سيدي سيدتي ماتراه حولك في الغرفه المغلقه التي تسللنا لداخلها من تحت عقب بابها ، لتتأمل ماتراه  وانت حابس انفاسك داخل رئتيك ، افتح عينيك جيدا وشاهد مايحيط بك ، فكل تفصيله صغيره لها دور كبير في الحكاية ...
بعض اشعه الشمس تتسلل من بين فتحات الشيش الخشبي ترسم لوحات غريبه علي الارض التي كانت خشبيه ومحت الخطوات الكثيرة عبر العقود الطويله التي سارت فيها علي تلك الارض معالم وملامح الخشب فبقت الارض شاحبه كمثل اللحظة ..
غرفه واسعه كانت تطل علي ميدان هاديء قبلما تحتل ارصفته مقاعد المطاعم والكافيهات وقبلما تحاصر طرقه الضيقة سيارات لاتجد مكانا لتنتظر اصحابها حتي ياخذوها لاعمالهم ، غرفه كانت واسعه في عقار صغير بناه رجل عصامي بني نفسه بنفسه ، عبد الهادي  ، قرر يبني بيت لابناءه حتي لا يحتاجوا لاولاد الحرام ، انتقي منطقه جديده تسعي الحكومه لتعميرها لتصبح حيا يضاف للقاهره التي كانت قديمه عريقه ثم صارت عشوائيه مفزعه كرأس العبد الذي يزيل خيوط العنكبوت من الاسقف البعيده العالية وهو مركونا علي حائط مشروخ في لحظه عتمه تتمايل خيالاته علي الحائط فيبدوا وكأنه عفريتا خرج من عالمه السري لعالمنا ليخيفنا ويخلع قلوبنا ، هكذا صارت القاهره التي كانت عاصمه جميله تضاهي المدن الاوربيه وتفوقها جمالا بحضارتها ، صارت القاهره كرأس العبد ، لكن الحكومه - وقتها ومن ستين عاما تقريبا - قررت تضيف للمدينه العريقه حيا جديدا ، اختارت منطقه زراعيه علي تخوم المدينه وقسمتها شوارع واراضي وباعت الارض بالقسط للراغبين في سترة الاولاد والعيش الهاديء في الاحياء الجديده ، الرجل العصامي الذي غادر القريه وهو يحمل في اعماق روحه تقاليدها وحنين لها اشتري قطعه ارض من الحي الجديد واختارها بواجهه بحريه لترد الروح وواجهه قبلية تفيض فيها وعليها الشمس بدفئها وحنانها ، الرجل العصامي اشتري قطعه ارض وبني عليها بيتا صغيرا وانتقي لاسرته الدور الارضي محاطا بحديقه زرع فيها اشجار المانجو والجوافه والسبوتة والقشده الخضراء واللمون وعاش حتي مات في ذلك البيت.
عبد الهادي ليس بطل حدوتنا ولا يهمنا ، سيطل برأسه احيانا يقص علينا مانراه وماسنقرأه ، سيطل احيانا بسيرته تفسر وتحكي مالانفهمه في حكايه تلك السيدة التي هي البطلة  ، نجية هي البطلة ...

( 12 )
زجاجة العطر

قطرات صغيرة ترقد في جوفي تنتظر اصابعها لتتسلل من خلف اذنها لروحها تنبهها للحياة التي تتسلل من بين يديها وترحل وهي ايضا ..
قطرات صغيرة باقية في تلك القنينة التي كانت مليئة بالعطر المعتق وقتما منحتها لها جدتها ليلة زفافها ، سبعون عام ويزيد وقنينه العطر رفيقتها في رحلة حياتها منذ اللحظة التي دخلت فيها دنيا تصورتها ستمنحها بعض السعاده فاذا باحلامها تتبخر كمثل ماء العطر الذي تبخر عبر السنوات الطويلة منذ اشترته الجدة وحتي بقيت تلك القطرات ثقيله لزجة مكثفة كوجعها الذي تعيشه الان ..
كانت عروس جميله ، هكذا رأيتها ، تحكي قنينة العطر ، حدقتيها يسطعان بوهج جميل ، تفكر خفرة في ليلتها الاولي مع زوجها ، في البداية خافت منه ، وقت تقدم لخطبتها خافت من شعره الاشيب وتجاعيد وجهه الكثيرة ، احسته ابيها وخجلت من مجرد التفكير فيه كرجلها الذي ستمنحه رحيقها فيمنحها شهده وتتبعثر حبوب اللقاح علي وريقات الياسمين في موسم الربيع ، خجلت تفكر فيه ، وتمنت لو كان شابا كالذي تراهم في شارعها وفي طريقها للمدرسه وطريق عودتها منها ، تمنت لو كان شابا من هؤلاء الذي يشاكسوا فتيات الحي ويلقوا في طريقهم كلماتهم الجميله كحفنات الورد تحت اقدامهن ، تمنت لكن امنيتها هذه ايضا بقيت حبيسه روحها ككل امنياتها ، فرحة ابيها وامها بخطبتها ومشاكسات حياة ودعاء الجدة ، كل هذا ازاح مخاوفها وخجلها واثمر مكانه ورود الامل لحياة اجمل من تلك التي عاشتها تعاير صمتا بعلتها التي لاذنب لها فيها ، تصورت العريس سيكون احن عليها من قسوة ايامها السابقه ، تصورته سيمنحها حنانا تطيب  جروح زمانها بعدما حرمت من الجامعه واحتجزت في البيت كحمل ثقيل تتمني امها تتخلص منه ..
في ليلة زفافها ، اخرجتني جدتها من خزانتها العتيقة وفتحت غطائي ونهلت باصابعها من عطري الفواح وملست علي شعرها وخلف اذنيها ومنابت الشعر ، فاحت الرائحه منعشه مثيرة ، اغلقت الجدة غطائي ومنحتني لها في كفها وهي تغمر لها بعينيها وتبتسم كأنها توصيها بوصايا الانوثة التي تثمر فرحة ، كأنها تشرح لها متي تفتحني وتنهل من مائي واين ترصع جسدها بوهجي وانتعاشي و................ مازلت بين اصابعها تقبض علي تثمن هديه جدتها وحبها ، بحب واهتمام تدفني وسط ثيابها وتحكم اغلاقي ...
لم احضر الفرح ولم اري تفاصيله ، لم اتراقص علي نغمات الدفوف ولم اشاركها الفرحة ، غفوت انتظر ندائها لافتح لها غطائي وانسكب راضيه علي كفيها وخلف اذنيها وعلي كتفيها ، غفوت متصورة اني لن ابقي مدفونه وسط طيات الثياب في الحقيبه الثقيله كثيرا ، كنت اشعر بهزات وحقيبه الملابس تتأرجح بين اصابع قويه تحملها ، اغفو وانتبه ، انتبه واغفو وامني نفسي بتحرر من ضغط الثياب الثقيله علي نفسي ، لكن النوم طال والظلام ايضا ، ربما ليلتين ثلاث وانا بين طيات الملابس لاتعيرني اهتماما ولاتبحث عني ... اخيرا اخرجتني والقت بي بعدم اكتراث علي المرأة وسط ادوات تجملها ، اصبع الروج المغلفه بشفافها واقلام الكحل المحتجزة خلف متاريس غطائها ، كنت اشعر غثيانا بعدما غفوت علي جانب واحد عدة ايام ، تمنيت لو فتحت غطائي ومنحتي فرصه لابعثر عبيري علي جسدها وفي غرفتها ، لكنها لم تفعل ، انزويت خلف اقلام الروج اتأمل مايحدث امامي في تلك الحجرة من البيه العجوز زوج الصبية التي قهرت انوثتها فوق جسده المتيبس الغاضب ، نعم هذا مايمكني اصفه لكم بعد تلك السنوات ، صوره لقاءات الحب بينهما ، هكذا اصفها لقاءات الحب لاني لاجد وصفا اخر وليفسر كل منكم مااحكيه كما يحلو له ، كانت علي طرف الفراش تبكي وكان علي عاريا نائما يكاد شخيره العالي يكسر لمبات النجفة الكريتسال التي تزين سقف حجرة النوم ، كان عاريا كما ولدته امه ، ضخم الجثه مترهل البدن جلده متشقق كالجدران المتهالكه ، يزفر انفاسا عاليه من بين اسنانه صريرا مزعجا وصوت شخيره يعلوا عليها ويعلو ، لماذا تبكي؟؟ من مخبئي خلف اقلام الروج اتسائل واتمني اسالها ، احبطها الرجل وكسر فرحتها ، اعتصرها والقي بها بعدما افرغ فيها رغبته ونام ، محتاسه لاتفهم مالذي جري ولاتعرف كيف تشعر ، تجري للحمام ، الاحقها ببصري وحين تغيب اعود له ، اتمني اوقظه واساله يصالحها يرأف بها يدللها ، لكنه لن يفعل ، جسده يتصبب عرقا وهو نائم مكانه كأنه غارق في البحر ، المجهود الذي بذله ارهق قلبه العجوز فتسارعت دقاته ، انتهي مما بدأه بسرعه ، استخدمها والقاها ونام ...
عادت من الحمام والدموع تنهمر انهارا علي جسدها المتيبس قهرا ، مرتبكه لاتعرف مالذي يتعين عليها تشعر به ، لم تفرح ولم تسعد مما فعله فيها ، احست انفاسها تختنق تحت ثقل جسده ، اصابعه مرت علي جسدها المرتعش خجلا بقسوة وكأنه يكره مايفعله ، اغمضت عينيها بقوة وتمنت لو لاتشعر بما يأتيه ، اطبقت شفتيها علي بعضهما لتبعد شفتيه الهرمتين عما يفعلاه في وجهها ، تشعر شوكا يمزق وجنتيها من لمسات وجهه ، انفاسه عاليه توترها رغم سماعتها المغلقه ، انتفض وتعالي لهاثه وسكن ، مازالت تغمض عينيها بقوة تنتظر مالذي سيحدث لكن شيئا لم يحدث ، سرعان ماهدأت انفاسه وعلي شخيره ، هل هذا هو الزواج الذي تحلم به الفتيات ، هل هذا هو الزواج الذي تصادر من اجله الفتيات علي كل احلامها ، اسئله لاتجد اجاباتها فتتجاهلها كاكل شيء يستعصي عليها ،ارتدت ثوبا قطنيا مريحا والقت جسدها بجوارها ، جف شعرها المبلل قبلما تجف دموعها ، غفت وهي تبكي لتداهمها الكوابيس وتجري ورائها الاشباح وتتقافز علي بدنها الثعابين وتمزق وجنتيها بانيابها المسمومه وتصرخ بصوت حبيس لايخرج من جوفها وترتعد رعبا وتستيقظ لتجده مازال صنما بجوارها وكأن ساعات لم تمر عليه ، كل هذا اراقبه من مخبأي البعيد ، اراهما متلاصقين علي الفراش الكبير ، هي تلتصق علي طرفه وتكاد تسقط ، بعيده عن جسده المترهل القبيح النائم براحته علي كل مساحه الفراش ، يتقلب ويتقلب وكأنه وحيدا لاتجاوره عروس جديده لم يمض علي زفافهما عدة ايام قليلة ، اراهما متلاصقين علي الفراش ، لم يأخدها في حضنه قبلما ينام ولم تلقي بذراعها علي كتفه قبلما تغفو ، غريبين في فراش بغيض ، مازالت تبكي ومازال يزفر انفاسه صريرا ومازالت الكوابيس تداهمها ومازال النوم يحتجزه ومازال كل شيء كئيب...
وتمنيت لو رحلت من ذلك البيت ، تمنيت لو حملت عطري واثيري وحلقت بعيدا ، تمنيت لو كسرتني الخدامه والقت ببقايايا في صفيحه القمامة ، تمنيت لو سرقتني الماكرة العجوز اخت زوجها وهي تتفرسني بنظرات مخيفه وكأنها تحقد علي العروس بما تملكه ، اه لو تعرفي قدر تعاستها ، لو تعرفي لبكيت عليها رغم قسوه قلبك وانحيازك المخيف لاخيك الفظ الذي لم تعلمه الحياه كيف يشعر بالسعاده فعجز عن اسعاد الاخرين واولهم زوجته المسكينة ...
بقيت في مخبأي سنوات كثيرة نستني فيها العروسه التي لم تعد ، حملت وانجبت ثم حملت ثانيه وانجبت ثم حملت ثالثا وانجبت ، وهي تبكي بعدما يفرغ منها وتسأل نفسها السؤال الذي ابدا لم تجد له اجابه ، هل هذا هو الزواج الذي تتمناه الفتيات ؟؟ وامتلأت الغرفه بصراخ الصغار ورائحه بولهم وعرقها النفاذ وقتما تستلقي ذبيحه علي فراشها بعدما ينام اطفالها في غرفتهم ويعود الكهل ليلا من الخارج ليناديها من الصالة بنبرة صوته تفهمها ، انه وقت استباحتها الحلال علي فراش الزوجيه الكريه ، يناديها فتكاد الدموع تنهمر من عينيها لكنها تدخرها لنفسها بعدما يفرغ منها وينام متلاهث الانفاس ، يخلع ملابسه وتطفيء النور و............... تبكي وتبكي ...
سنوات في مخبأي لاتمد اصابعها تجاهي ولا تعطر روحها باثيري ولا تتذكرني ، ذات يوم عثرت علي صغيرتها الشقية ثريا  ، مدت اصابعها الرفيعه صوبي ، تشد الغطاء الملتصق ببدني من طول الاهمال ، تعجز عن ازاحته ، تبكي وتصرخ مثلما تفعل دائما عندما يستعصي عليها ماترغب فيه ، تأتيها هرعه خائفه عليها من شقاوتها ، تجدني امامها واصابعها الرفيعه محتاره في الغطاء ، تبتسم ، تجلس علي الكرسي القصير امام المرآة ، تحكم اصابعها التي صارت قويه من كثره شغل البيت وغسيل الاطفال ، تفتح الغطاء ، تنثر بعض قطراتي علي طرف اصابعها ، تعطر صغيرتها فتجري فرحه ، تبقي تحدق في وكأنها تلوم نفسها لانها نسيتني كما نسيت نفسها ، تسكب نصف عطري علي صدرها وكفيها ، تستنشقني بعمق ، كأنها تغسل روحها من تكلسات الايام الصعبه ، تبتسم ، تتذكر جدتها ونظرتها الموحيه بالسعاده ، تضحك وتبكي ، ليتك ياجدتي تري حقيقه مااعيش فيه ، امتزج مع رائحه بدنها واتسلل لثنايا جسدها وتحت جلدها وتنتشي ، كأنها زهرة ذبله سقطت عليها قطره ندي لتوقظها من موت محتم ، انتشت سعيده ، مازالت تحس ومازالت تفرح ومازالت تشعر بكونها انثي حتي لو تجاهل العالم كله انوثتها ، انثي ، وكأنها اكتشفت نفسها ، انثي حتي لو تجاهل الزوج البليد احاسيسها وعجز عن اكتشافها وفهمها وادراك مفاتيح سعادتها ، هي الان في هذه اللحظه بالذات ، اكتشفت نفسها وسعدت بها و...... احكمت اغلاق الغطاء واخفتني بعيدا عن اصابع ابنتها الشقية وصرت سرها الاجمل ، كل بضعه شهور تفتح خزانتها وتزيح ملابسها وتخرجني من مكاني ، ارقد علي كفها فتعاملني بدلال واهتمام ، تنهل بعض قطرات مني وتنعش روحها وكأنها تكافئها لانها مازالت صامده وحية وانثي ... وتعيدني لمخبأي وكأنها تخشي علي يكتشفني الزوج البليد فيهينني مثلما اهانها الف الف مرة ...
سبعون عام واكثر وانا اتأرجح بين اصابعها وامنحها بعض الفرحه ولو بقطره صغيرة تعلق باصابعها ايام وايام ، كنت اراها تستنشق رائحتي وتبتسم كأنها تؤكد لنفسها انها مازالت حية ....
اليوم وبعد كل تلك السنوات ، لم يبقي في جوفي الا بضعه قطرات لزجه ثقيله ، قطرات تنتظر اصابعها لتنثرني علي بدنها اصرارا علي عيش الفرحه ولو لبضعه لحظات قليلة ، لكنها اليوم نائمه ، غائبه ، خدره ، يعلو صوت شخيرها علي صوت زوجها في السنوات البعيدة ، اكاد اهمس لها استيقظي ، اتمني لو فتحني يوسف وقرب فوهتي من انفها واثقه ان عطري سيعيد لها بعض الحياه التي تتسلل منها بهدوء ، لكن يوسف لايقترب مني وينكفأ عليها يحتضنها ويبكي ويتمناها تعود للحياه ، هي لم تمت بعد ومازالت انفاسها تعلو وتهبط لكن روحها التي طالما ارتوت برحيقي غادرتنا وتركني وبضعه القطرات الاخيره ننتظر لحظه الوداع الحتمي ....
تتمني زجاجه العطر يفتحوا غطائها ويسكبوا قطراتها الاخيره علي جسدها لتودعها ، لكنهم لاينتبهوا اليها ولا يفطنوا لوجودها ، حتي يوسف !!!!


نهاية الجزء الثاني ويتبعه الجزء الثالث  

هناك 3 تعليقات:

Unknown يقول...

ادخلتينا فى التخييل يا ابنة عبدالله , وظللتى حتى الان تأثرينا بحكاوى اطار الصورة والعطر والحائط ذو الشق المعووج ..
ليتنى استطيع ان اعبر لك بالكلمات عن معنى ما تحتويه ابتسامتى وصوت انفاسي .. ولا يسعنى الا ان اكمل فالشغف يجذبنى :)

Unknown يقول...

وفى سطر بعد سطر سأظل اترقب طلة عبد الهادى

عماد خلاف يقول...

في كل مرة أقرأ فيها نصاً لك أستاذة اميرة أعود محملاً بالكثير من الحقائب التي تفيض عذوبة ونشوي ورومانسية وحكاية أمراة محظوظة مزيج من الروحانية والصدق والوحدة والرضا والحنان فمنذ أن وقعت عيوني علي أول حرف وكلمة وعبارة ـ ومع توالي الأحداث وتتابعها أذهلني سحر الأسلوب وشاعرية الكلمات فهذا النص أعتمد في الاساس علي " اسلوب السينما " الفلاش باك " حيث يعود بالذات من خلال الذاكرة والاعتماد علي نجيه ومن تحكي علي اسلوب الاسترجاع من خلال لوحة جميلة تشكلت في الذاكرة بكل تفاصيلها وكأننا أمام مستقبل يعود بنا للماضي لرسم الحاضر ـ لحظات من الشوق والألم ـ ورغم قبح المكان الذي تحول مع مرور الوقت والزمن الي علب سردين معبأة بالبشر فكل هذا لا يهم ولكن مايهمنا هو الصباح الذي يبدو هادئ والسكون مازال مخيما علي الميدان الكبير الذي تحاصره الابراج القبيحة العالية ووسطها البنايه الصغيرة التي لم يفلح ملاكها في هدمها ـ منذ اللحظة الأولي نحس أننا أمام لوحة جميلة ـلن نبقي طويلا وسط الميدان ، ولن نحدق كثيرا في الابراج القبيحه ولا بقايا الاشجار التي كانت وارفه وعاليه حتي خنقتها الابراج الاسمنتية العالية ، سنترك الميدان ونعطيه ظهرنا ونتسلل للبنايه الصغيرة ، سندخل من السور الحديدي ونصعد ثلاث او اربعه درجات مالت استقامتها تحت وطأة الضيوف الكثر الذين صعدوا وهبطوا طيله عقود متلاحقه يشاركوا اصحاب البنايه حياتهم فرحهم حزنهم ايام عمرهم ــ لنجد أنفسنا أمام رائعة من روائع أميرة بهي الدين النفس البشرية التي تتفنن في قراءتها ــ لترسم لنا لوحة رائعة من لوحاتها التي اعتادت علي نقشها بريشتها ـ نجية قصة لم تكتمل حال الفراق وهكذا الدنيا لن تصل النهاية المرسومة لها أنها لعبة القدر والناس كالعادة تنسي تتغيير والحياة تستمر ـ دمت لنا كاتبة رائعة متميزة استاذة اميرة وتحياتى لحضرتك