مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الأحد، 20 مارس 2016

مَوَّال الوَصْل والوَجَع .... الجزء الثاني


مَوَّال الوَصْل والوَجَع 

الجزء الثاني




( 11 )
الخيانة

اسمَعي يا ابنتي ، قالت العجوز للمترجِمة زهراء التي تشرح كلامها وتفسره لروبرت وزملائه ولي بالتبعية وأنا جالِسٌ علي الحَجر بعيدًا صامِت أخرس لا أفعل شيئًا إلا بعض اللقطات والصور مِن بين كل حينٍ وآخر ..
 اسمَعي يا ابنتي ما أقوله وافهمِيه جيدًا وأخبري الأجانبَ به ، ابتسمتْ زهرة للعجوز ، إنهم طيبون يا أُمّي ، ابتسمت العجوز وربتت علي كتفِها ، طيبون لبلادهم يا ابنتي ، طيبون لبلادهم ، ليس شأنَنا ولا يعنينا ، ما يهمنا الطيبون في بلادنا ، ما يهمنا أهلنا الطيبون ، اسمعيني يا ابنتي ، أخبِريهم أن الموصل اعتادت علي الخيانة والغدر ، اعتادت علي حكام يبيعون أنفسهم لأعدائها ، هذه المدينة تَعرف " بدر الدين لؤلؤ " جيدًا وتعرف كل مَن سار علي دربه وسلّم مفاتيح المدينه لأعدائها ، الموصل دفعت ثمنًا باهظًا لحُكمِه ، لتخلِّيه عنها ، لموالاته لأعدائها وخنوعِه لهم ، الموصل دفعت ثمنًا باهظًا لتنكيس راياتها ورفْع رايات المغول القتلَة علي أسوارها المستباحة ، لكن المدينة التي تَعرف " لؤلؤ" وتكشفه ولا تنخدع بخيانته ، عَرَفت كيف تحاربه وتنتصر عليه وتهزمه ، هل تفهميني يا زهراء ؟؟
نقلت زهراءُ كلامَها لروبرت ولنا جميعًا ، هذه المدينة لم يدخلها أصحاب الرايات السوداء، عصابات الدولة القتَلَه إلا لأن " لؤلؤًا " جديدًا سلَّمهم مفاتيحها ونكس راياتِها ، جميعنا نعرف هذا ، " لؤلؤ " جديد تحميه الصواريخ وحاملات الطائرات والرصاص والبنادق ، أو هكذا يتصور ، هذا الـ " لؤلؤ " باع المدينة وباعنا متصورًا أنه سيعيش ألف عامٍ محميًا بمن باعنا لهم ، جاهل أشِر لا يعرف عن الموصل تاريخَها ولا قوتَها ..
قولي لهم يا زهراء ، قولي لهم إن هذه المدينة اعتادت أن يرحل " لؤلؤ " ويأتي "لؤلؤ " آخر ، اعتادت أن تُهزَم وتُحارَب وفي النهاية تَنتصِر بعد الثمن الباهظ الذي تدفعه لتنتصِر وتبقى ، والموصل اليوم تدفع الثمن الغالي الباهظ وستنتصِر .. قولي لهم يا زهراء ، إننا مطمئنون وسنظل، فهذه المدينة طالما حاصرها الموت ، لكنها هَزَمت الموتَ وتشبثت بالحياة ، ليست المرةَ الأولى وليست الأخيرة ، ورايات النصر على نخيل دجلةَ عالية دائمًا ..
قالت زهراء كل ما قالته العجوز ، سألَها روبرت ، ولماذا يا سيدتي تقولين هذا ؟؟ ابتسمت العجوز ، أقوله وكَفَى ، علَّه ينفعكم أو يفيدكم أو يُحذّركم مِن غضبتنا وقتما نغضب !!!
ألتقِط للعجوز صورًا متلاحقة وهي تتحدث بيديها وتجاعيدِ وجهها وكل جسدها ، ألتقِط لها صورًا متلاحقة وهي تقاوِم وتحارب وتنصر المدينةَ والشعب ولو مِن فوق فِراشٍ هَشٍ في معسكر اللاجئين ...
ننظر أنا وروبرت لأنفسنا لا نصدّق ما تقوله وما نسمعه ..
هذه المدينة ستنتصِر ؟!!
نَعَم ستنتصِر ...

 ( 12 )
الزيارة

زارتني مارلي في ليلةٍ صعبة طويلة من لياليَّ الكثيرة التي لا أعرف عددَها ، كنتُ أهذي ، ربما ارتفعت حرارتي وعصفت بي الحُمّي ، لا أعرف بالضبط مالذي ألمَّ بي،  كنت ملقىً كَكومِ قمامة بجوار الحائط الخفيض للقبو العطن ، يرتعش جسدي وتتصبب جبهتي ماءً باردًا، وملايين النمل تتقافز تحت ملابسي توخِزني ، كنتُ لا أعرف الوقت ولا التاريخ ، ولا اليومَ ولا الساعة ، حين كانوا يفتحون البابَ ويدخل الحارس العملاق أعرف أن طعامًا مقززًا سيلقَى أمامي برائحته النتِنه ولن آكلَه ، حين يصرخون فيّ لِمَ لا تأكل ؟؟ أعرف أنهم يخافون موْتي قبلما يقتلونني فيفقِدوا متعةَ قتْلِي وتمزيقي ويُحرَموا مِن رائحة الدم الساخن في أنوفهم ، لا أُجيبهم ، لماذا لا آكل ، الحق لا أعرف ، كل ما أعرفه أني ملقىً بجوار الحائط في القبو أنتظر الموت ..
كنت أهذي ، هذا ما أعتقِده بل واثق مِنه ، لأن مارلي أتتنِي زيارة هي وفون بلا إذنٍ ولا تصريح ولا تأشيره سَفر ولا دخول ، أتتنِي بشجاعةٍ لم أتوقعها منها ، أتتني هي وفون ولم يشعر بهما الحارس العملاق وهُما يتسللان مِن بين شقوق الجدران للقبو عندي ، فون أخذ يلعق قدمَي وهي سألتني لو أرغب في بعض الحبوب المجففة واللبَن البارد، ووعدتني أن تُحمِّمني حين أعود لمنزلنا، وقالت إن أُمِّي تشاجرت مع الرئيس الذي ترك ولدَها في أسر الأعلام السوداء وهددته أن تَحرِمه مِن صوتها الانتخابي المرةَ القادمة ، ضحكتُ وقلت لن يرشِّح نفسَه ثانية؛ فالثمانية أعوام أوشكوت تنقضي وسيأتينا رئيسٌ جديد ، ارتبكتْ مارلي وقالت وما شأني بكل هذا؟ أخيِر أُمَّك ، قالت مارلي إني صرتُ شهيرًا، وصوَري تتصدر نشرات الأخبار والصفحاتِ الأولى للصحف ، قالت إن الصحفيين والمراسِلين يَطرقون بابها وهي تفِر منهم لا تجد ما تقوله لهم ، لا أعرف، لا أعرف، لا أعرف، هذه إجابتي الوحيدة التي أعرفها وهي لا ترضيهم ، ضحكتُ وقلت غبية لكن جميلة ، احتضنتني مارلي وقفز فون فوق كتفي واحتضنني ، سألتني مارلي عن الصور التي التقطتُها وأخبرتني أن المسابقة التي سعيت للفوز فيها أغلقت باب تلقِّي الصور والمساهمات ، ضحكتُ وقلت صوّرتُ كثيرًا صورًا لا تصلح للمسابقات ....
قلت لها ، ماريان ، هل تذكرين دموع المدينة ؟ لا تتذكر ، أوصيتك بها من قبل وأوصيكِ بها مرة ثانية ، لم تفهم طبعًا كعادتها ولم أغضب منها كعادتي ، نسيتِ ما قلتُه لكِ ، أُذكِّرك مرة أخيرة ، مرة أخيرة يا ماريان، لم يعُد لديّ وقت لأُذكِّرك مرة أخرى ، دموع المدينة مارلي هي الصور الفوتوغرافية التي تركتُها مع روبرت ، وأوصيتك في رسالتي الأخيرة ، أوصيتك أن تأخذيها منه وتنشريها ، انشري الصور ومعها بعض أوراقي المكتوبةِ عن رحلتي الغريبة ، لا تنسي يا حبيبتي أرجوكِ ، سألتني ، هل تحبني فعلا ؟؟ هذا ما يهمها وفقط ، ابتسمتُ وقلت لها طبعًا حبيبتي، همستُ، غبية لكن جميلة وطيبة، وأخذتُ أَضحك وأضحك ، لم تضحك هي وربما غضبت قليلا ، ما زلت أَضحك وفون أيضًا ينبح سعيدًا بزيارتي وضحكي ..
هل هذا كله يحدث فعلا ؟ بالطبع لا ، كل هذا هَذَيان الاعتقال والحُمّي ، هَذَيان الخوف والانتظار ، مارلي لم تمكث معي طويلا ، تركتْ لي رائحتها في حضني وبعضَ نباح فون ليسلِّيني وغادرتْني مسرِعة ..
غادرتني مارلي وكدت أنام إرهاقًا ويأسًا ، لكن صوت أسناني ترتطم ببعضها من شده الرعشة التي ترُج جسدي حرمتني النومَ، ورائحةُ الطعام الفاسد خنقتني أكثر وأكثر ، ناديتها فلم تسمع ، غبية مارلي ، لم تُنفّذ أوامري ، قلت لها ألقِي طبق الطعام النتِن برائحته العَطِنة خارج القبو ، أخبرتُها أنه يثير الغثيان في روحي وأكاد أتقيأ ، لكنها نسيت كعادتها ورحلت وتركتني أسيرَ القبو، وأصحاب الرايات السوداء ودموع المدينة والطعام الفاسد ....
وداعًا مارلي ، وداعاً فون ، همستُ وأنا أرتعش وأهذي، والحُمَّي تعصف بي محتجزًا وحدي في القبو الرطب المظلِم ..
وداعًا ...
( 13 )
الجدار المشروخ

أُحدِّق في وجه ماريان وعينيها الحمراوين وأسألها لائمًا ، منذ متى تسمعين تلك الشائعات يا ماريان ؟؟ وكيف سلّمتِ لها قلبكِ وروحك؟؟  ابتسمتْ ، ليست شائعاتٍ يا صديقي روبرت ، ليست شائعات ، هذا ما تأكدتُ منه اليوم ، أُنصِتُ لها لا أصدق ما تقوله ..
قالت ماريان ، اتصلتُ أمسِ بصديقة فرنسية تعيش في الموصل منذ سنوات طويلة ولها علاقات قوية بمسؤولين مهمّين في المدينة ، قلت لها اسأليهم عن تلك الشائعات وأصل حكايتها ، قلت لها وأنا خجِلة ، أعرف أنها أكاذيب، لكن الأكاذيب تطاردني وأتمني أن أتأكد مِن عدم صحتها لأحسم الأمر للسيدة المقهورة بضياع صغيرها ولأُطمئِن بقية النساء ...
غابت صديقتي الفرنسية يومين، وفي صباح اليوم طلبتني لأمُر عليها في بيتها ، لا تسألني روبرت مَن هي تلك الفرنسية وما الذي تفعله في المدينة ولا كيف تعيش أمانًا عظيمًا وسط كراهية كل الأجانب ، لا تسألني يا روبرت لأني لا أعرف ، كل ما أعرفه أنها ذات علاقاتٍ قوية، وتعيش هنا منذ سنوات بعيدةٍ في أمان ..
مررتُ عليها في منزلها ، رحبتْ بي وقبَّلتني ودَعَتني على شاي في الشرفة المُطلة علي دَجلة ، وجدتُ عندها رجُلا أنيقًا يبدو من أصلٍ عربي؛ لأن إنجليزيتَه ذاتُ لَكْنَة ، رحبَ بي وطلب مني ألا أرهِق نفسي في التحري عن صحة الشائعات التي أُردّدها ، أحسستُ مِن كلامه بتهديدٍ مبطن ، قال لي إن الشائعاتِ كثيرة في تلك المدينة المسكينة كما وصفَها ، قال لي إن النسوةَ الفقيراتِ كاذباتٌ ثرثارت لا يَكفُفْنَ عن اختراع الشائعات وتصديقها ، كلامُه ضايقني وطريقتُه المتعالية أزعجتني ، سألني عن سبب وجودي في المدينة ، قلت له إني أعمل طبيبةً في المنظّمة الدولية للإغاثة ، قال اكتفي بعملك ولا تَسمعي للثرثارات ، قال إن هذه المدينةَ المسكينة صغيرة، وكل كلمةٍ فيها تدور وتلف في أزقتها وتصل للجميع، والكل هنا حمقى غاضبون لن يتحملوا طبيبة إفريقية تروّج شائعاتٍ وتفسِد بها حياتَهم ...
سألتُ صديقتي الفرنسية عن الرجُل الذي يكلمني بتعالٍ ويهددني ، ابتسمتْ صديقتي وقالت هو لا يهددك، هو يُبصِّرك بما يتعين عليكِ الالتزام به طالما أنتِ هنا في تلك المدينة المسكينة ، قالت هو أحد الكبار أصحاب السطوة والنفوذ والمال والعلاقات القوية في المدينة، وله علاقات مع كل الأطراف المتحاربة، وعلاقات بكل الحاضرين والغائبين، والجميع لا يتجاوزه ولا يتجاهله، وهو مَحل احترام الجميع ، سألتها عن عملِه ، ضحكت وقالت إني فُضولية أتدخل فيما لا يعنيني، وضَحكَ هو أكثر وقال لا شأن لكِ بي ، اهتمي بنفسك وعملك أفضل ..
بحسمٍ أنهت المقابلةَ وقالت وهي تكاد تطردني من منزلها ، سألتِني عن الإشاعة ماريان وها أنا نفيتُها لكِ من فمِ المسؤول العليم ، انسي الشائعاتِ واهتمي بعملك كما قال لك ضيفي العزيز  ، هكذا قالت لي..
نظرتُ للرجُل وهو يدخن سيجارَه وسألته وأين الأطفال المختفون إذن ؟؟ ضحكَ  وقال إنهم يَهربون مِن أُسَرهم الفقيرة ويذهبون بإرادتهم لرجال الدولة يأكلون ويشربون ويتعلمون ضرب النار ويكبرون قبل الأوان ويصيرون رجالا ، قال جملتَه الأخيرة بتفاخُرٍ وتَبَاهٍ مقزز ، أحسسته أحد رجال الدولة ، أحد القتَلَة المُخيفين ..
جمعتُ أشيائي وشكرت صديقتي وودّعتها وحدقت في الرجُل وقلت له ، أظن أنها ليست شائعاتٍ، وأن الأطفال يُخطَفون ويباعون في سوقٍ سِري ، قهقهَ بصوت عالٍ وباستخفاف ، افترضي يا سيدتي ؟؟ ببساطة اعترفَ بصحة الشائعات ، افترضي أنها حقائق وليست شائعات ، ما شأنكِ أنتِ؟  أنتِ غريبة وحيدة، عليكِ أن تحمي نفسكِ وأن تفكري في أطفالك وأخبارهم في بلدك البعيدة ، وأخذ يضحك، ويضحك، ويضحك وكأنه يبصق عليّ باستخفاف ...
تنتحب ماريان وهي تقص عليّ ما أحستْ به ، خِفتُ جدًا من كلامه ، فكرت في أطفالي وهل سأجدهم عندما أعود في الأجازة القادمة؟ أم سأجدهم قد اختفَوا؟ وتخبرني أختي التي ترعاهم بأنه خرجوا للعب في الساحة القريبة ولم يعودوا، وبحثوا عنهم ولم يجدوهم ؟ تنتحب ماريان ، خِفتُ جدًا من تهديداته روبرت وأحسستني مثل هؤلاء النسوةِ قليلةَ الحِيلة لا أملك مِن أمر حياتي ولا أمر أطفالي شيئًا ،  قالت لن أخبر النسوةَ المكلوماتِ بما عَرَفته ..
احتضنتُها وهي تبكي محاولا تهدئتَها، وقلتُ تجاهَلي الأمر ولا تخبريهن بأي شيء وكأن مقابلة صديقتك الفرنسية والرجُل المخيف لم تحدث أساسًا ، أكملي مساعدتك لهن وتجاهلي الأمر كله ، قالت لن أُفلِح ، لا أعرف الكذبَ وسيعرفن ببصيرتهن أني أكذب عليهن وأُخفي عليهن ما أعرفه ، سيفقِدن الثقةَ فيّ ولن يُعطين أطفالهن الأدوية التي أوصي لهن بها ، سيخَفن مِني وأعود في نظرهن مجرمة مثل كل المجرمين، قاتلة مثل كل القتَلَة ، سيمنحن الموتَ لأطفالهن عِوضًا عن أدويتي ولن يكترثن بشفائهم قدْرَ خوفهن عليهم وحمايتهم مِني ، ما عرفتُه اليومَ روبرت أعادني وبشكلٍ نهائي لبلادي ، أعادني لأطفالي، لأُنهي علاقتي بهذا البلد المنكوب، لقد اتصلتُ فعلا بجينيف وأخبرتهم باستقالتي وأني سأغادر الموصلَ فعلا بعد يومين ..
أغلقتُ دفتري وكُلّي حزن لأن ماريان ستغادرنا، وبداخلي سؤال لا أعرف إجابته متى سأغادر أنا أيضًا وأعود لبيتي ووطني وأُنقِذ نفسي مِن كل هذا الوجع العميق ؟؟؟؟
فجأة تذكرتُ مارك ، هذا الأحمق القادم مِن ولايته البعيدة لِهُنَا ، سأتصل به غدًا ، لا تأتِ يا مارك، لا تأتِ ، جميعنا يرغب في الرحيل ، كل شيء هنا خطير ، الموت يتربص بالحياة ويقهرها ، الأطفال يموتون بلا دواء ، ويُخطفون بلا حماية ، النسوة معتقلات في منازلهن وخلف الحُجب السوداء ، الرجال يُضرَبون بالرصاص بلا ذنب ويُلقون من الأدوار العليا بإداناتٍ واهية وبلا تحقيقات ، هذا مكان وليس بلدًا ، يجتمع فيه ضحايا وقتَلَة ، يجتمع فيه ضحايا وقتلَة ونحن نزيِّن الصورةَ قليلا ، نمنح الجائعين بعض الطعام وكأنهم بشر وكأننا بشر ، هذا مكان يتشاجر فيه الجميع بحمقٍ مخيف، شعب بلا وطن، وأرض بلا أصحاب، وقتَلَة بلا رادع ، لا تأتِ يا مارك ، غدًا سأتصل به ، سأتشاجر معه ، سأقول له إني لن أستقبله ، سأزجره ليخاف ويبقى مكانه ، ابحثْ عن لقطتك الغريبة في مكان آخر ، سأدع ماريان تكلمه وتقص له عن النسوة البائسات، والأطفال المخطوفين، والرجُل الأنيق، والفرنسية اللعوب، وكل الغرائب التي تقبض علي أرواحنا ، قَدَرُنا أن أتينا ولا نعرف متي سنرحل ، لماذا ستأتي أنت؟ هل قدَرُك أيضًا؟؟ انتصر علي قدرك يا مارك ولا تأتِ ، ابقَ مكانك ..
انفجرتُ في البكاء، وأغلقتُ دفتري وتهاويتُ كالجدار المشروخ أبحث عن كأسٍ من المارتيني يخدّرني لأقوَى وأتحمل ، أبكي وأبكي ، ويزداد تصميمي علي الاتصال بمارك غدًا ... لا تأتِ أرجوكَ .. لاتأتِ ....

( 14 )
البلاد الغريبة

ذاهبٌ أنا للبلاد الغريبة التي لا أعرفُها، وفي الحقيقه لا أكترث أن أعرفَها ، ما يجمعني بها رغبة محمومة في صورة غريبة تسرق الانتباهَ والإعجاب والجائزة الأولى في مسابقة التصوير ، بلاد غارقة في الشمس، ويترامي النخيل علي ضفاف نهرَيها، ولشعبها طقوس وعادات اندثرت من بلاد كثيرة وبقيت عندهم تمنح حياتهم معنىً وشكلا خاصًا ، هي بلاد مَر عليها التاريخ وترك فيها وبها كثيرًا من بصماتِه وخطواته وآثاره ومعابده، وتميزًا فريدًا لا تجده في بلاد أخرى ، هذه هي البلاد الغريبة التي قررت أن أذهب إليها أنا وكاميرتي وعدساتي .....
 كنت تابعتُ منذ عدة سنوات أحاديثَ متناثرة في بعض القنوات الإخبارية عن أسلحةٍ كيميائية يقتنونها، وحاكمٍ مستبِد يحكمهم، وشِيَع وفِرَق دينية تتحكم فيهم ، أضرحة وعتبات مقدَّسة، وتاريخ دموي يطاردهم ... تابعت ولم أكترث ولِمَ  أفعل ؟؟ إنه مجرد مكانٍ علي الخريطه الكبيرة للكُرَة التي لا تكُف عن دورانها، وهذا كله لا يعنيني ...
كنت تابعتُ منذ عدة سنوات ما قالوه لنا عن تلك البلاد البعيدة واحتضانها لإرهابيين قتَلَة دعَّموا وموَّلوا المجرمين الذين هدَموا بُرجَي التجارة العالمية فوق رؤوس موظفينا ورؤوسنا جميعًا كما قال لنا الرئيس وصدّقناه ، كنت عرفت بالمصادفة وقتَما جلست يومَ تعبٍ علي أريكيتي الوثيرة أن الرئيس أخذ قرارًا بإرسال قواتنا لتلك البلاد البعيدة لتحرر الأرض وتزرع الديمقراطية في أرضها الخصبة بعدما عجزت طلعات الطيران المتلاحقة عن التخلص من الحاكم المستبد والإرهابيين القتَلَة ، كل هذا لم يشغلني ولِمَ يشغلني ؟؟ وأنا أعيش بعيدًا بمئات بل بآلاف الأميال عن تلك البقعة الغريبة من الأرض ، لِمَ يشغلني ؟؟ فليزرعوا الديمقراطيةَ كما يشاؤون، وليتخلصوا من الحاكم المستبد كما يشاؤون، وليقتلوا مَن يشاؤون، وليتركوا أحياء مَن يشاؤون ، مالي أنا بكل هذا ؟؟ مكان بعيد يبعد عن بلادي كثيرا، وكل ما يحدث فيه لا يزعِج كلْبي ولا يؤثر في عشيقتي، ولا أكترث به أنا والملايين معي ممن ينشغلون بأزمة العقارات وانهيار البنوك وموجات الكساد المخيفة التي تهدد رفاهيتنا ، هذا ما يشغلني ، الحق إنه يشغلني لبعض الوقت القصير ثم أتركه للسياسين والرئيس ليتصرفوا فيه كما ينبغي لصالحي ومصلحتي أنا والأُمّة العظيمة التي نغنِّي نشيدَها ونرفع علَمَها كل عام احتفالا بالاستقلال الذي لا أعرف مناسبته ولِمَ أعرف؟ يكفي أن الرئيس يعرف ، ليذهب العالم كله بما فيه أُمّتُنا العظيمة للجحيم ...
لا يعنيني شيء إلا حياتي أنا، وبيتي وأُسرتي وكلْبي وسداد أقساطي وقيمة ضرائبي وكارت ضماني الاجتماعي .. أنا أهتم بعملي ومسابقات التصوير، وعشيقتي الحسناء وكلْبي الضخم، وأُسدد ضرائبي، وأنا مواطِن صالِح رضيتُ عن كل الإدارات الحاكمة المتعاقبه جمهوريةً كانت أَم ديمقراطية ، لِمَ يَشغلني ما يحدث في تلك البقعة البعيدة من الأرض؟ حتى ولو كان الرئيس أرسَل لها قواتِ المارينز وحاملاتِ الطائرات والصواريخ العابرة للقارات ودمرها فوق بعضها رأسًا علي عقِب وفرض عليها الحصار الاقتصادي وفرض علي شعبها حكامًا انتقاهم بمعرفته ومعرفة إدارته العليمة بما يلزم وبما يكون ، هذا شأن الرئيس وليس شأني أنا ، شأن الرئيس واهتمامه وليس شأني أنا ولا اهتمامي ....
لم أنتبِه أبدا، والحق اليوم ألوم نفسي ، لم أنتبِه أبدا للأكياس السوداء التي تعود للوطن تحمل جثامين شبابِ المارينز بعدما أفلح البرابرة الهمج في قتلهم وإعاقتهم عن مأموريتهم العظيمة في غرسِ الديمقراطية علي ضفاف النهريْن ، لم أنتبِه مَن قتلهم ولماذا ماتوا ؟ لم أكترث بموتهم ، شاهدتُ الموسيقى الوطنيةَ تعزف، وأعلامنا ترفرف، واستقبالاتٍ دامعةً للأبطال ، كل هذا شاهدته ولم أكترث به ، مَن مات ولماذا وأين وكيف ؟ هذه أسئلة على الرئيس أن يعرف إجاباتِها ويجهز تقاريره التي سيقدمها لِلَجنة الأمن القومي بمجلس الشيوخ ، لستُ الرئيسَ لأكترث، ولست عضوًا بمجلس الشيوخ لأهتم ، مات الكثيرون وعادوا في الحقائب السوداء للوطن ولم أكترث ، اليومَ ألوم نفسي بل وأغبطهم ، أجسادهم عادت للوطن مُسجَّاةً بالعَلَم، أمّا أنا فجسدي سيُترَك للنواهش في الصحراء، لا شرف، ولا فخر، ولا موسيقى وطنية، ولا عَلَم يرفرف !!
كل هذا حدث في البلاد البعيدة ولم يشغلني ...
علِمتُ مِن عشيقتي الغبية الثرثارة أن بعض مواطنينا خرجوا في تظاهراتٍ صغيرة أمام مبنى الكونجرس غاضبين لأننا سنرسِل قواتِنا لتلك البلاد ، سمعتُ من عشيقتي ما قالت وابتسمتُ ، ليرسِلوا القواتِ أو لا يرسلونها ، ليقتلوا أو يموتوا ، ليحرقوا الأرض أو يعمروها ، الأمر الوحيد الذي يشغلني تأُثير هذا كله على ضرائبي وأقساط منزلي وفوائد كروت الائتمان !! هذا فقط ما يشغلني وأكترث به وليذهب كل شيء آخر للجحيم .....


( 15 )
أخبَرَتني حسناء

الليلةَ أيضًا أتتني حسناء المُدرِّسة الموصلية الجميلة ، أتتني بعطرها الشرقي النفاذ ، بعيونها العربية الكحيلة ، بعباءتها السوداء المطرزة ببعض نجوم السماء، بسطوعها الباهي ، أتتني حسناء وجلستْ بجواري ، سقتني رشفةَ ماء من دجلة، وأطعمتني تمرًا من نخيلِه، وكررت على مسامعي ما سبق وحكته لي ، يا سيدي الأمريكي ، الموصل لم تًخدع فيهم أبدا ، منذ اللحظة الأولى التي حاصروا فيها أسوار المدينة وحطموا بواباتها، جميعنا عرَف أنهم مجرمون قتَلة لاينوون خيرًا بنا ولا بمدينتنا، لم تخدعنا أعلامهم السوداء ولا شهادة الإسلام عليها ، لم تخدعنا كلماتهم الكاذبة ولا الآيات التي يتلونها علينا ، لم نصدق إسلامهم، وكيف نصدق ودماء أبنائنا علي أكفهم وفوق عباءاتهم ؟ كيف نصدق وأسلحتهم مشهَرة صوب قلوبنا؟ والكراهية تخرج منها رصاصًا يقتل أطفالنا ؟ الموصل لم تًخدع فيهم ياسيدي، لم تًخدع فيهم أبدا  ، لهم نفس الرائحة العطنة التي وصفها لنا الأجداد حين حط المغول علي ضفاف نهرنا في الأزمنة البعيدة ...
حين دخلوا المدينة وراياتهم السوداء تعلو فوق رؤوسهم نذير شؤم وخراب لم نصدقهم ولم نرحب بهم، وعرَفنا أن قدر مدينتنا المقاوَمة وقدرهم الهزيمة ، وسرعان ما أطلقوا السجناء علي المدينة يخربون ويدمرون أزقتها وبيوتنا ويسرقون وينهبون، وكأن جيش المغول القديم قد عاد من أضابير التاريخ لحياتنا ، السراقون النهابون القتَّالون طاحوا في المدينه بأهلها وتجارتهم وأمان حياتهم وبيوتهم وستر نسائهم ، هل تعرف المغول سيدي الأمريكي ؟؟ هززتُ رأسي طبعًا ، لقد انتصرتْ الموصل علي المغول قديمًا وعلّمتهم أن ليست كل المدن طيّعة ولا كل الشعوب مستباحة ، الموصل علّمتهم بدم أبنائها أنها عصيّة عليهم وعلي مَن يجور عليها ، هذا تاريخنا الذي تعلمناه في مدارسنا وعلّمناه لأطفالنا ، الموصل انتصرت علي المغول وردّتهم عن أسوارها مهزومين شر هزيمة، واندحروا هُم وبقيتْ هي ذات الربيعيْن مدينة الحياة ، وغدًا أو بعد غد سيدي المصوّر ، ستنتصر الموصل مرة أخرى على المغول الجدد أصحاب الرايات السوداء ، ستنتصر عليهم وتهزمهم شر هزيمة وتعلّق رؤوسهم علي نخيل دجلةَ فخرًا وانتصارًا ، ستغتسل وتتعطر بمياه دجلة،ستمحو عن روحها رائحتهم العطنة وتبقَى هي مدينة الحياة منتصرة دائمًا،  أُنصِتُ لها ولا أُعلِّق ، لا تصدقني سيدي ؟؟ أصدقك طبعًا ..
وكنت بحق أصدقها ....
والتقطتُ لحسناءَ مجموعة صور وهي تضحك وتصرخ وتحكي واثقةً من انتصارها وانتصار مدينة الحياة ، الموصل ذات الربيعيْن ...
واحتلت الرائحة العطنة للمغول الجدد أنفي وروحي وقلبي، وبقيتُ أنتظر اليوم الذي ستتحمم فيه الموصل بماء دجلةَ وتتعطر وتنتصر علي همج المغول الجدد وترفع راياتِ فرحها علي نخيل دجلةَ الشامخ ..
ولوَّحتْ لي وودّعتني ، سأعود لك قريبًا يا سيدي ، وحتي أعود لاتنسَ ماحكيتُه لك .. لن أنسى يا حسناء ، لن أنسى أبدًا كل ماحكيتِه لي ...
وعَد ؟؟ وعَد ....

( 16 )
"" لَقطة مِن مجموعة الصور ""
"" ضحكات العجوز ""

هذه الصورةُ بالذات أُحِبها ، العجوز تضحك وتضحك ، تكاد تسمع صهيلَ ضحكاتِها يَخرج من الصورة عفيًا قويًا ..
كنتُ في الزقاق مع روبرت ، وكانت العجوز تتأوه من الألم ، حاول روبرت أن يمنحها بعض أقراصه ، رفضت ، لا تثق فيه ، قالت هذا بوضوح ، حاولت زهراء أن تقنعها لتأخذ القرص الأحمر ، رفضت العجوز ونهرتها ، في تلك اللحظة اقترب منها انطونيو ، اقترب منها وهمس ببعض الكلمات الممضوغة ، فانفجرت العجوز بالضحك ، تضحك وتضحك ، كأنها ليست السيدة الهرمة التي كانت تتأوه من الألم منذ دقائقَ قليلة ..
بسرعةٍ التقطتُ صورتها وهي تضحك ، صورة، اثنين، ثلاثا ، الرابعة أخفت فمها بأصابعها المرتعشة وكأن ضحكها إثمٌ تخفيه وهي مراهِقة صغيرة احترامًا لأبيها ، فكانت الصورةَ الأجمل..
أخذ انطونيو القرصَ من زهراء ونظر للعجوز نظرة فهمتْهَا العجوز ففتحت فاها وابتلعته وصفقنا جميعا ..
الفضول نهشني ، سألتُ انطونيو ماذا قال لها وكيف فهمت حديثه ؟ ضحك وقال إنه يعرف بعض الكلمات العربية من إقامته الطويلة هنا ومِن مَدرسة تَعلّم العربية التي دخل فيها ولم يكمل دراسته ، رفعتُ حاجبي استغرابا ، انطونيو مدهِش بحق ولا يكف عن مفاجأتي ، قال إنه اقترب منها وسألها هل ستأخذ القرص أم يعطيه لها حقنة، وقال لها إنه سيفعل لمصلحتها لو صممت علي رفضها وتشبثت بعنادها  ، يقول إن العجوز لم تصدق ما قاله ، تعبيرات وجهه الموحية كشفت لها نواياه فتفجَّر ضحكها عاصفًا وهزت رأسها خضوعا لتهديداته ، سآخذ القرص ...
سألتها زهراء ، لماذا أخذَته مِن انطونيو وخافت من روبرت ، شرحت العجوز إنها الطمأنينة ابنتي ، الطمأنينة ، الدماء العربية تجري في عروق انطونيو وكأن جَدّه الأكبر خرج من الموصل في رحلة فتْح الأندلس ، أما روبرت فوجهه الأحمر المحتقن دائمًا ما يذكّرها بأبناء وطنه المتوحشين علي المعابر والجسور وقتَ فتَّشوها بطريقة مهينة وزجروها بسفالةٍ وقتما أعلنت عن ضيقها من الاعتداء علي جسدها بتلك الطريقة المهينة!!!
قالت العجوز ، لا أطمئن إلا لأهلي، وهذا الرجُل بشَعره الفاحم وعيونه العربية مِن أهلي حتي لو كان لا يدري ...
وقبَّلَ انطونيو يدَها بمنتهى الحُب فاتسعت ابتسامتها أكثر وقالت لزهراء ، ألمْ أقُل لكِ إنه مِن أهلي حتيى لو كان لا يدري ...؟
وظلت الصورة تحمل ذكرى الضحك السعيد وطمأنينة العجوز لانطونيو بشَعره الفاحم  وعيونه العربية ....


( 17 )
اتصال تليفوني

منذ بداية الأسبوع، والأخبارُ تأتي حزينة ، رجال الدولة يهاجِمون القرى القريبة ، يهاجِمون ربيعة، ووانة، وزمار، وسنجار، وقواتُ البيشمركة تفر من القرى وتترك أهلها فرائس لرجال الدولة وبطشهم ، تفر النسوة  أمام بطشهم يحملن الأطفال وبقايا المنازل التي كانت تأويهن ، صور الفارين والفارات تتصدر نشرات الأخبار والصفحاتِ الأولى بكل الصحف والمجلات ، رتل من سيارات رجال الدولة بأعلامهم السوداء ينهب الطرق متباهيًا متعجرفا ينشر الفزع أينما حل ،ها هي قرى أخرى تخلو من سكانها، ومعسكرات للاجئين تقام علي أطراف الصحراء، والبرد القارص يفتك بالأطفال، ولبن النسوة يجف في الأثداء المترهلة مِن سوء التغذية وشدة الفزع ....
أنتظر اتصالا مِن مديري ليخبرني بضرورة خروجي وزملائي للصحراء دعمًا للفارين والفارات وإنقاذًا لأطفالهم ، سأخبره أن عددنا قليل، وأن الخروج للصحراء غيرُ أمِن، وأن رجال الدولة لن يتركونا ننقذ ضحاياهم ولا نعيدهم لبيوتهم ولا نمد لهم يد العون ، اللعنة علي المدير البليد القابع في مكتبه الأنيق المُطل علي بحيرة جنيف لا يفهم ولايدرك ما نعيش فيه نحن واللاجئون وذوو الرايات السوداء ...
أنتظر الاتصال التليفوني وأرتِّب رأسي كيف سأنفذ أمره الإداري، وكيف سأتصرف أنا وزملائي، وما الذي لدينا لنمنحه للفارين والفارات والأطفال الصغار إلا بعض العون والدواء والقليل من الطحين والدعم المعنوي ، ماذا لدينا نمنحه لهم ؟ هل نملك أن نعيد لهم الوطن والطمأنينة ؟؟ هززتُ كتفي بلا مبالاة أردد على مسامعي الحصة البليدة التي يتلوها عليَّ مديري بصوته البارد كلما شكوتُ قسوة الأوضاع وانهيارَ الخدمات مشفِقًا علي اللاجئين مما يعيشونه ، روبرت هذا ليس شأنك ، هذه أمور الساسة الكبار والحكومات ، هذا ليس شأنك ، أنت تقوم بعملك وفقط ، وزِّع الطحين والدواء والابتساماتِ وكلمات التشجيع وعُد لمنزلك ونَم بضميرٍ مستريح لأنك أفلحتَ رغم صعوبة كل شيء في تهوين المأساة عليهم ، نَعم هذا ليس شأني ..
أنتظر الاتصال التليفوني مِن مديري .. وكُلِّي توتر ...
وأنتظر مارك .. وكُلِّي توتر بل وأكثر ...

( 18 )
المسابقة
كنتُ قد سمعت عنها من قبل ، سمعتُ عن تلك البلاد البعيدة قليلا وسرعان مانسيت ماسمعته، وانشغلت بحياتي وكل تفاصيلها حتي قرأت عن مسابقة التصوير العالمية التي تَمنح فائزها الأول جائزة مالية كبيرة تسمح لي بسداد الدفعة الأولى من ثمن البيت الكبير الذي تحلم به مارلي، وأتمني منذ زمن أن أحقق لها حلمها ولم أفلح ، المسابقة التي تمنح فائزها الأول شهرة وصِيتًا وقتما تبث صورته علي كل المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي وأغلفه المجلات ، يومَها قررت أن أشارك في المسابقة بلقطات لم ولن يحصل عليها غيري ، قررت أن أشارك في المسابقة بعيدًا عن كل اللقطات المعروفة علي هذه الارض، وبعيدًا عن كل اللقطات التي شاركت بها في كل المسابقات السابقة وفشلتُ ..
لن أصور هنديًا أحمرَ بقي رغم كل المذابح ، لن أصور شلالاتِ نياجرا وهي متجمدة ، لن أصور أطفال المَدارس يلوِّحون بالعَلَم يوم الاستقلال ، لن أصور مناضد اللعب في فنادق دالاس ، لن أصور مشجعاتِ فِرَق الباسكت بملابسهن القصيرة ،  هذه صور معتادةومكررة لاتجلب فخرا ولا مركزً أولَ ولا البيت الكبير الذي تحلم به مارلي ، هذه صور رتيبة مثل حياتنا ، أبحثُ عن صور من نوع آخر .. بمعنى آخر ، صور تحرك القلوب وتسرق الأرواح وتؤثر في المتفرج لدرجة يستحيل عليه نسيانها،وتؤثر في لجنة التحكيم لدرجة يستحيل عليها ألا تمنحني المركز الأول والشهرة ومقدَّم ثمن البيت ..
كنتُ علي الأريكة تَعِبًا أبث همومي لعشيقتي الحسناء مارلي وهي تعبث بشعيرات رأسي ، أُحدِّثها عن حلمي الصعب لأحقق لها حلمها الأصعب ، أين أعثر علي اللقطة المستحيلة ، أين أعثر علي اللقطة التي تحملني للمركز الأول والبيت الكبير ، سألت مارلي ، ماذا أفعل ؟؟ علّها تمنحني إجابة تدهشني لأنها تفكر أحيانًا وبشكل غريب غير مألوف وغير متوقع ...
صمتت مارلي ولم تفتح فمَها وكأنها لم تسمعني ، هذا حالها وقتما يستعصي حديثي علي غبائها ، نَعم فعشيقتي جميلة لكنها غبية ، الحق ليست غبية فقط لكنها جاهلة بكل شيء عدا كيف تعبث بشعيرات رأسي وكيف تسعدني في فراش حبها ، هذا مايشغلها فقط وهذا مايعجبني فيها،  تشاركني الفراش وإفطار الحبوب المجففة ونزهة الكلب، ولاتتحدث كثيرا ولا تزعجني ، صمتت مارلي وطال صمتها ، ارتبكتْ، خجلتْ، ربما يشق عليها التفاعل معي ، أحسست عجزًا منها عن الإجابة عن أسئلتي المتلاحقة وما يشغل بالي ، أمسكتْ بريموت التليفزيون وأخذت تعبث بالمحطات علّها  تشد انتباهي بشيء آخر غير صمتها الأخرس ، رن تليفونها المحمول ، تركتْ رأسي والريموت وانشغلت بالحديث مع صديقتها عن أسهل الطرق لخبز كعكة اليقطين ، فتحتُ عيني بعدما كفت أصابعها عن العبث بشَعري ، وجدت إحدى المذيعات علي شاشة إحدى القنوات الإخبارية تتحدث بانفعالٍ مَقيت ، صوتها بنبراته الحادة استفزني، اخترق سكوني وسكينة منزلي ، تمنيت لو أغلقت التليفزيون ، لكن صوتها لم يترك لي فرصة لأغلق الشاشة وأتركها تعوي وحيدة للجمهور الأحمق الذي يشغل رأسه بكلامها الفارغ ، اختفت صورتها من علي الشاشة فجأة، وظهرت صور متلاحقة لنسوة مقيدات في جنزير حديد وهي تحكي عن الموصل وسبي النساء وأسواق النخاسة ، انتفضتُ من مكاني ، ليتني كنت هناك في تلك اللحظة ، ليتني كنت هناك في الموصل ، واقتنصتُ تلك اللقطة ، نسوة مقيدات في جنزير حديد ، يرتدين البناطيل الجينز والفساتين المزركشة والملابس التقليدية ، جميعهن مقيدات في جنزير حديد ، يقودهم رجُل أشعث الشعر، أغبر الوجه، غريب الملابس ، صرختُ من الفرحة ، هناك ينتظرني المجد ، هناك ينتظرني المركز الأول، اضطربت مارلي وأغلقت التليفون وجاءني هلِعة ، ما بك ؟ صرختُ وكأني الرجُل الذي لا أعرف اسمَه وقتما اكتشف اكتشافه العملي الخطير ، وجدتُها .. وجدتُها ، الموصل ، عليّ السفر للموصل !!
وبدأت الرحلة التي قادتني لقدَري!

( 19 )
الليلة الأولى

بقيتُ طيلةَ اليوم في البيت ، ألقي جسدي الثقيل على مقعد لآخر ، أُحدّق في أوراق لا أرى كلماتها ، أتجاهل رنين التليفون ، أفكر في العودة لمنزلي ، ضجرتُ من القدر الذي ألقى بي في هذه البقعة الموجِعة من العالَم ...
أسمع صوت أُمّي تناديني ، روبرت ، أتصورها فاجأتني بزيارتها ، ألتفِتُ حولي وأبحث في أرجاء البيت عنها ، خيالٌ يراودني وأطارده ، أتمنىأن تأتي ، الحق أتمنى أن أعود للمنزل ولها ، أُغلق غرفتي عليّ وأطفيء الإضاءة وأَغرق في النوم يومًا أسبوعًا شهرًا حتي أفقِد الذاكرة ، كل الذاكرة، وبالأخص ما تراكم هنا في هذه المدينة ، في الموصل ...
مازلت علي الكنبة كالتمثال الأصم ، اعتذرتُ عن العمل اليوم ، خرجتْ ماريان وانطونيو وبقية الزملاء ، قلت لهم إني مريض وأنتظر صديقي ولن أذهب معهم اليوم ، تفهَّموا حالتي وتركوني ، اليوم طويل والبيت صامت، والتفاصيل صاخبة في عقلي تطاردني لأُجَن ، سأجَن فعلا لو بقيتُهنا ، أتمنى العودة لمنزلي ، يا ليتني أقوَى ، أترك كل العالم خلفي وأعود لبيتي وأُمي ..
الوقت بطيء لكنه يمُر ، الشمس غابت والظلام تسلل للبيت من نوافذه الكبيرة ، المدينة علي غير العادة هادئة ، لا انفجارات ولا دوي رصاص ولا أزير طائرات، ولا صراخ ولا هتاف ولا بكاء ولا جنون ، المدينة هادئة وهذا يخيفني أكثرَ وأكثر ، ستنفجر في لحظة كالقنبلة النووية انفجارا لايقوَى أحد على تحمُّلِه ، الوقت يمر بطيئًا والمدينة لا تنفجر ، أغفو وأستيقظ مسرعًا علي صوت طرقات رقيقة لمستْ باب البيت المتهالك ، مارك ، روبرت ، ابتسامة عريضة وقطرات عرق كثيرة فوق جبهته وحضن دافيء ، انفجرتُ في البكاء ، لم يفهم لماذا أبكي ، ارتبكَ وسألني عن حالي ، قلت له بمرارة ستعرف بنفسك كيف حالي ، ارتبكَ وألقى بحقائبه علي الأرض وأشعل لفافة التبغ وصمتَ ..
قلت لمارك إني كنت أتمناه أن يقتنع برأيي ويبقى في بيته ولا يأتي أبدًا ، ابتسم .. لم يعجبه كلامي ، قلت له إننا نعيش حياةَ خطرٍ وكنت أتمنى ألا يعرِّض نفسه لهذا الخطر ، ابتسم ينتظر بقية ماسأقوله ، قلت له إنه هنا سيعيش معي كظلِّي منذ الآن وحتي يعود لبيته في أول طائره تغادرنا بعدما يحصل علي اللقطة التي أتت به للجحيم ..
قلت له إنه سيصاحبني خطوةً بخطوة، وإنه أبدا لن يفارقني ، وإني سأصحبه معي لمعسكرات اللاجئين ، وسيصاحبني في الأزقة والحارات، وأنا أَطرق أطلال البيوت وبقاياها أوزع علي العجائز والمَرضَي طعامهم وأدويتهم وبعض الابتسامات ، قلت له لاتستفز الناسَ ولاتُشهِر كاميرتك في وجههم ، دعني أستأذنهم ليسمحوا لك أن تصورهم  ، دعني أخبرهم عن قصتنا الكاذبة التي ألَّفناها بأنك تصورهم لتحث ضميرَ العالم أن يستيقظ تضامنًا معهم ودفاعًا عنهم ، كل هذا قلته له وأكثر ، كان يسمعني مبتسِمًا وكأني أُذكِّره بإحدي نوادرنا في المَدرسة الثانوية ، سألته هل فهمتني جيدا ؟ هز رأسه وخدعني وقال نَعم !! 
قلت له وجودك معي أمان وضمان وحماية ، هز رأسه وكأنه يوافقني فلم أفطن أنه ينوي قتل نفسه بنفسه إلا بعد فوات الأوان ..
أعددتُ له عشاءً بسيطًا وأدخلته غرفته وحيّيته تحية المساء ودخلتُ فراشي ونمت، وتركته وحيدًا في غرفته الصغيرة الحارة ...
هذه كانت ليلتَه الأولى في الموصل ، كيف هي ليلتك الأخيرة ياصديقي ؟؟؟
ليتني رحبت بك أكثر مِن هذا ، ليتني لم أستقبلك بالدموع ولم أمنحك بعض ابتساماتي التي كنت تحبها وقتما كنا نتصلعك معا في شوارع ولايتنا البعيدة ، ليتني تشاجرت معك وأفلحت في أن أمنعك من الحضور ، ليتني وليتني وليتني !!
هذه كانت ليلتَك الأولى في الموصل ، هل ستخبرني ذاتَ يومٍ كيف كانت ليلتك الأخيرة ؟؟
كيف حالك يا صديقي ؟؟ كيف حالك ؟؟

( 20 )
دموع المدينة

حبيبتي مارلي .. أخبرتُ روبرت أن يسلمك كل أوراقي لو حدث لي مكروه في تلك المدينة ، لو نسي روبرت لانشغاله في عمله وأحزانه ، اسأليه عن أوراقي ، لِمَ أقول لك ما أقوله؟ولِمَ أوصيكِ بأوراقي وصوري ؟؟ لإني أتوقع مصيبة في كل ثانيةٍ تمُر عليّ وأنا ما أزال في هذه المدينة ..
لا تظلمي المدينة يامارلي، ولا تخافي منها عليّ ولا تكرهيها ، الموصل مدينة جميلة عريقة تستحق مِنا أنت نأتي أنا وأنتِ وأصدقاؤنا في رحلة سياحية لها ، نرتدي القبعاتِ القش والملابس القطنية الخفيفة، ونسير في أزقتها وحول أسوارها، ونتفرج علي متاحفها وحسينياتها، ونتصلعك في أسواقها ونتذوق مِن فستقها الموصلي ولوزها المجفف وفطائرها المُحلاة بالسكَّر،ونقضي أُمسياتنا الرومانسية علي ضفاف دجلة، لا تظلمي الموصل مارلي ، لو أصابتني مصيبة هنا يا مارلي ، سيكون بسبب عصابات الدولة كما تقول عنهم حسناء ..
مَن حسناء ؟؟ هذا موضوع آخر سأقص عليكِ حكايتها وقتما نجلس آمنين في منزلنا البعيد من شر ذوي الأعلام السوداء ، هنا في الموصل ذوو الأعلام السوداء يقتلون الناس ويرجمونهم ويحرقونهم ويقطعون أيديهم بلاذنبٍ ولا جريمة ، ذوو الأعلام السوداء هُم الأعداء الجدد للحضارة والإنسانية ، نَعم مارلي صدّقيني ، لاتصدِّقي أي قول آخر يخبروكِ به في الصحف والبرامج الإخبارية ، مايحدث هنا ليس صراعًا سياسيًا مارلي، وليس صراعًا دينيًا طائفيًا ، وليس صراعًا على الحُكم ، هنا شعب وحضارة في ناحية،وعصابات مرتزقة، وأطماع ومصالح من ناحية أخرى..
لقد دوَّنتُ كل شيء شاهدتُه في أوراقي ، ثلاثة شهور قضيتها في هذه المدينة ، عرَفت الحقيقة ، عرَفت مارلي أن كل مايقال لنا في تليفزيوناتنا أكاذيب تافهة وحقائق مبتورة ، عرَفت أن الشعب يُهجَّر مِن أرضه، وأنهم يمزقونه بالطائفية بين مذاهبِ أهله المختلفة، ويفرقون بين بَشرِه بسبب أديانهم وقناعاتهم الإيمانية ، هذا كل صنيعة ذوي الأعلام السوداء ومَن خلفَهم ومَن يدعمهم ...
هل تعرفين مارلي أن ذوي الأعلام السوداء ، أعداءَ التاريخ والحضارة والإنسانية ، يدمّرون مدينة الربيعين؟ أقصد الموصل مارلي، أقصد الموصل ، يدمرون حضارتها وتاريخها ووجودها كله ، يدمرونها بعملية إجرامية مشبوهة منظَّمة ، يدمرونها عامدين بكل تراثها التاريخي الحضاري الإنساني الفني الثقافي ، هُم أعداء الحياة مارلي، أعداء الحياة، هل تعرفين مارلي أنهم هدموا الأضرحة والمراقد والحسينيات والمساجد والمزارات ؟ انتقوا الأماكن التي يتبارك فيها غيرهم ويؤمنون بها ودمروها واعتبروا أنفسهم الوحيدين أصحاب الحق في تحديد طريق الإيمان بالله، وعلي الجميع اتِّباعهم واتِّباع طريقهم وإلا القتل والحبس والتهجير والعنف المنظَّم !! هل تصدقين مارلي أن هذا يحدث في نفس الكوكب الذي نعيش فيه مشغولين بحفلات الأوسكار وأفلام ديزني لاند؟؟ هل تعرفين مارلي أنهم هدموا الكنائس وفجّروها؟ ودمروا الكاتدرائيات وسرقوا كنوزها؟ وخربوا الأديرة واستولوا عليها؟ هل تعرفين أنهم نزعوا تمثال العذراء مريم مِن كنيسة الطاهرة وألقوا به خارجها وهو تمثال تاريخي وقديم وله عظيم القيمة في نفوس أهل المدينة ؟؟ هل تعرفينأنهم استولوا علي المطرانيات ورفعوا أعلامهم السوداء عليها ؟؟!! نَعَم مارلي، يخرِّبون ويدمِّرون كل مَا لم يقف معهم ولم يؤيدهم...
ماذا أقول لكِ مارلي أيضًا؟ أخاطبكِ والأسى يعتصرني ، ليس فقط لأن ذوي الأعلام السوداء يدمرون تراث وحضارة الإنسانية، ويدمرون الموصل وأهلها ، بل الأسى يعتصرني لأني كنت لا أكترث ، لأني كنت لا أعرف ولا أرغب في المعرفة ، مثلكِ تمامًا الآن عزيزتي ، لاتعرفين ولاترغبين في المعرفة ، لستُ أنا وأنتِ فقط ، بل ملايين مثلنا،عشنا وسنموت وعاشوا وسيموتون مشغولين بترشيحات الأوسكار وجائزة جرامي والفائزين بجائزة إيمي ، لا نكترث ولايكترثون في نفس الوقت لأن ذوي الرايات السوداء ، هدموا وأزالوا تمثال ابن البيطار الفيلسوف العربي،وتمثالَالمُلحِّن القديم عثمان الموصلي،وتمثالَ الشاعر أبي تمّام، كل هذا حدث وجميعنا لايعرف ولايكترث أن يعرف !!
مَن خلْفَهم ؟؟ هذه قِصةٌ أخرى سأقصها عليكِ ونحن بعيدان عن شرهم ، المهم ، مارلي ، لو أصابتني مصيبة مِن أي نوع ، لا تنسي أوراقي وصوَري ، عشتُ في هذه المدينة ثلاثة شهور ، ألتقِط لأهلها صوَرًا فوتوغرافية ، الحزن هو المشترَك الوحيد بينهم جميعًا ، صغارًاوكِبارًا ، نساءًورجالا ، أطفالاوشبابًا ، الحزن يلفهم جميعا ، الحزن مارلي الحزن وليس الانكسار ، المقاوَمة تجري في دمائهم كما يجري نهر دجلة في أرضهم ، سينتصرون مارلي ... سينتصرون..
علي مَن ؟؟ أعرف أنكِ لا تعرفين شيئا ، وأنك لا تكترثين بالبلاد البعيدة كما كنتُ أنا ، بل أنتِ لا تكترثين بجيرانكِ وأهل الشارع وزملائك في العمل فهل ستكترثين بأهل البلاد البعيدة ؟؟ اجمعي صوَري مارلي وانشريها مع قصصها ، ستفهمين ما أقوله ، ستفهمين كل شيء مارلي ، فقط أرجوكِ لا تتجاهلي الأمر ولا تغفلي عنه ...
إنها دموع المدينة مارلي التي أوصاني أهلها ألا أنساهم، وقد وعدتهم فلاتكسري وعْدي حيًا كنتُ أو ميتًا ، دموع مدينة مارلي، دموع مدينة هي إنجازي الوحيد في هذه الحياة ، إنجازي الذي ساقني قدَري له لأعرف وأرى وأفتح عينَي وأبصر وأكترث !!
طبعًا لا تفهمينني ، لو قرأتِ الأوراق وشاهدتِ الصور ، ستفهمين كل شيء مارلي ، ستفهمين كل شيء ...
سأكتب إليكِ قريبًا مرة أُخرى ، أُحِبكِ عزيزتي مارلي ، اعتني بفون ولا تُهمليه ، أُحِبكِ.. أُحِبكِ ...


نهاية الجزء الثاني 
ويتبع بالجزء الثالث


ليست هناك تعليقات: