مَوَّال الوَصْل والوَجَع
الجزء الخامس
( 41 )
القَدَر
أمسكوا بي ، أعني الرجالَ ذوي
الأعلام السوداء ، أمسكوا بي وقبضوا عليّ ، كنت أتجول بغير هُدىً ما بين أسواق
الموصل وأزقتها ، ساحتها وشوارعها ، أتجول ضالا أبحث عن السوق الذي يبيعون فيه
النساء ..
لا أعرف هؤلاء النسوةَ ولا
أكترث بهن ، لا تقولوا لي مسيحيات ويزيديات ، هذا ليس شأني ، لست رجُلَ دينٍ لأحاول
إنقاذهن، ولست مصلِحًا اجتماعيًا لأتعاطف معهن ، أنا مصوّر هاوٍ أبحث عن الجائزة
الأولى ، ربما تكون اللقطَة التي ستمنحني الجائزة الأولى لقطَةً غريبة شاذة أو موجِعة
أو مستفزة ، هذا شأن المتفرج الذي سيشاهدها ، أما أنا ، فأنا مجرد عدسةٍ مثل التي
في الكاميرا ألتقِط اللحظة وأسجلها وأُعطيها ظهْري وأنسى ، لا أكترث بسبب اللقطة
ولا بمبرراتها ، عصفورٌ هوَى تحت قدمي مكسورَ الأجنحة ، ما لي أنا مَن كسرَ أجنحته
، الصياد أم طَلْقَة تائهة أو إرهاق حل به من كثرة الترحال؟ هذه أسئلة لا تخصني، وإجابات
لا أكترث بها ، المتفرج عليه أن يعرف ما الذي حدث ، يخمِّنه يتعاطف معه يحزن يفرح
، وبقدر تأُثره وانفعاله باللقطة بقدر ما يمنحني إعجابه، وتمنحني لجنة التحكيم
جائزتَها ..
كنت أتجول ضالا تائهًا في
الموصل القديمة ، أزقتها الملتوية، حاراتها الضيقة، أسواقها المزدحمة ، أندسُّ وسط
أهلها الصاخبين ، أبحث عن علامة ترشدني ، يقينٍ يقودني ويهديني لِمَا أبحث عنه ، السوق
الذي يبيعون فيه النساءَ هذا ما كنت أبحث عنه ..
نَعم ، سمعت أثناء إقامتي
القصيرة همسًا كثيرا عن السوق الذي تُعرَض فيه النساء للبيع ويقفن أمام المشترين
والسماسرة يَعرضن أجسادهن وأرواحهن للبيع والتملك ، استهوتني الفكرة علي قُبحِها ،
تذكرت المشهدَ الذي شاهدته في نشره الأخبار للنسوة الشابات يتعثرن في السلسلة
الحديد المقيدات بها في طريقهن للمجهول ، سوق تباع فيه النسوة ؟؟!! اليوم في القرن
الواحد والعشرين ما تزال النساء تباع في الأسواق كالعبيد والبهائم؟ هل هذا يحدث
فعلا ؟؟؟..
أوجعتني الفكرة وأعجبتني
الصورة التي ربما ألتقِطها وسط هذا السوق لهؤلاء النسوة ، وقررت ومِن خلف ظهر
روبرت ، قررت أن أبحث عن السوق حتي أجده، وهناك ألتقط منه الصور العجيبة الغريبة
المميزة التي تعيدني لبلادي وفي أول طائرة تغادر المدينة ...
سأبحث عن سوق بيع النساء حتي
أجده ، وهناك سألتقط لهن صورًا تصِف وتحكي ما الذي يحدث لهن وما يعِشنه، سأسألهن
عن مشاعرهن وأحاسيسهن وهُن مقيدات أسيرات واقفات ينتظرن المُشتري الذي سيمنح الدولة
كما يُطلقون علي عصابتهم ورجالها الثمنَ الذي حددوه مقابل شراء تلك المرأة ..
وقبلَما يحدث أي شيء ، قَبضَ
عليّ ذوو الأعلام السوداء ، وانتهت رحلتي وانتهى أمري !!!
انتبِه لرأسك ، انتبِه
لرأسك ... يبدو سيدتي أني لم أنتبِه ، وربما انتبهتُ ولم يُجدِ .. إنه القدَر
سيدتي ، القدَر ..
( 42 )
مَن هُم؟
أُحدِّق في عيونهم أبحثُ عن
أي شيء يذكِّرني بأنهم كانوا بشرًا مثلي في يوم من الأيام ، أُحدِّق في عيونهم لا
أجد شيئا ، نثرات مِن زجاج شاحب تكوِّن بياض الحدقات ونقطة صدِئة كبيرة كانت نِنِّ
العين، ونظرات مشحوذة كنصل القتَلة المأجورين تسطع بالشر والبلادة ..
أُحدِّق في عيونهم ، ربما أعثر
علي إحساس ما تفصِح عنه نظرة شاردة ، ربما
شفقة، ربما رأفة، ربما بعض الوجع، ربما بعض الغضب، ربما بعض الحياة، لا أجد إلا مَوَاتًا
يسكن الحدقاتِ ، مَوَاتٌ أخرس وأشواك ...
كيف صار هذا الرجُل مثلما
صار؟ سؤال استغرقني طويلا في ساعات انتظار الموت ، كيف صار مثلما صار؟ ما الذي تَسلَّط
علي روحه وجهازه العصبي وتلافيف عقله وبقايا نفسه؟ ما الذي تَسلّط عليهم فحوّله من
إنسان ربما لو كنتُ قابلته في وقت آخر لأحببته وتسامرنا معَا وضحكنا وأكلنا
وتعاملنا كاثنيْن من البشر الغرباء تقابَلا في محطة رحيل يؤنسانِ بعضهما حتي يكمل
كل منهما طريقه ، ما الذي تَسلّط عليهم؟ وتَسلّط علي كل واحد منهم فحوّله مِن إنسان
لهذا المسخ المشوّه الذي يتنفس الموتَ ولا غيره، ويَقتل بتلذذٍ وسهولة دخول الأنفاس
لرئتيه والخروج منها ....؟!!
شهرٌ وأنا حبيسُ سجنِهم ، أظنه
شهرًا وربما أكثر ، لا أعرف بالضبط ، شهرُ وأنا مَنسي في القبو المظلِم يحقنونني بالكراهية
ويحاصروني بالغِل ويعذبونني بالموت، يلوّحون به فوق رقبتي ويتركونها ، شهر وأنا
حبيس سجنِهم وأسيرهم، غنيمتهم، ضحيتهم، ملكيتهم، يفعلون بي ما يحلو لهم وما يقودهم
إليه هواهم وأفكارهم وغضبهم وكراهيتهم ..
لستُ كافرًا كما يقولون،
ولست عدوَّهم كما يتصورون ، أنا مجرد إنسانٍ بسيط خُلِقت في مكان آخر من العالَم ،
مكان آخر لا يؤمِنُ بما يؤمنون، ولا يصدق فيما يصدقون، مكان آخر من العالَم يبعد
كيلو متراتٍ كثيرةً عن الأرض التي قرروا أن يخضِّبوها بدماء ضحاياهم متصورين أنها
خطوات انتصارهم وهي في حقيقة الأمر بصمات هزيمتهم التي سيتركونها للإنسانية كلها
وقتما تتحالف ضدهم وتقتص منهم علي كل جرائمهم، ومنها قتْلِي الذي لا أعرف ميعادَه
بعد ولا طريقتَه ....
أُحدِّق في عيونهم لا أجد
شيئًا ، لا إنسانية ، ولا مشاعر ، ولا حياة .. ولا أي شيء !!
( 43 )
المَنجنيق
صوتُ انفجاراتٍ عالية يدوّي
، ذُعرٌ يرتسم علي وجه الأطفال الصغار اللاهين في أزقة معسكر الإيواء ، ذعرٌ يرتسم
علي وجوههم ، صغيرة تبكي ، تبحث عن ثوب أمها لتقبض علي ذيله تحتمي فيها ، طفلان
يكملان لعبة النرد التي يلعبانِها علي الأرض في بداية الزقاق وكأن شيئا لا يحدث حولهما ..
أحمل كاميرتي وأجري وسط الأزقة
، ألتقِط الملامح والتعبيرات ، الخوف والتحدي ، تبتسم أحلام الحكيمة التي تصاحِب
الطبيبة ماريان وتساعدها في عملها ، تُعلِّمنا ألا نخاف وربّينا صغارنا على ألا
يخافوا ، لو خِفنا لمتنا منذ سنوات بعيدة سيدي ، كَم مِن صواريخ ضربت فوق رؤوسنا ولم
تقتلنا ولم تُخِفنا ، هذه حياتنا سيدي ، حياتنا التي نعيشها وسنعيشها ..
أنظرُ لها، شابةٌ ثلاثينية
صغيرة راسخة وسط المعسكر وكأنها نخلة مزروعة في أرضه ، تتحدث بعض الإنجليزية بما
يكفي لتتواصل مع ماريان ومعنا ، تعمل بنشاطٍ وحماس وتتحدث بحماس أكثر وأكثر ..
ما زال صوت الانفجارات عاليًا
، أظنه صاروخًا سقط في مكان قريب ، ربما سيارة مفخخة انفجرت في السوق أو في حافلة
علي الطريق السريع ، منذ متي أحلام لا تخافين من الانفجارات ؟؟ ضحكتْ ، منذ ولِدتُ
، أُمي قالت إنها أنجبتني وسط ظلام الغارات حينما قرر رئيسكم الطيب أن يحرر بلادنا
من الديكتاتور المستبِد ، تَسخَر مِني ومِن رئيسي الطيب ، صواريخكم احتفلت بميلادي
وهدمت الجسورَ وأشعلت الحرائق شموسًا أنارت ليل الموصل بمناسبه تشريفي للحياة ، أليس
كذلك سيد مارك؟!
جميعهم يسخرون مِنا، ومِن
رئيسنا الطيب، ومِن الشموس التي أضاء بها ليل بغداد وليلَ الموصل وليلَ العراق كله
، جميعهم يسخرون مِنا ، تمنيت أن أقول لها
لستُ الرئيسَ ولا أملك قرارًا ، أعرف ما الذي ستقوله لي ، سبقتها زهراء وكالت لي
فوق همّي همومًا ووصمَتني بالسلبية والخنوع وقِلة الحيلة، وقالت إن أي نخلة علي
ضفاف دجله أكثرُ فائدةً للإنسانية مِني ، وإني عاجز أبله جاهِل انتخبتُ رئيسًا دون
أن أعرف حقيقة سياساته ونواياه وتركتُه يدمر العالَم بلا رقابة مِني وبلا عقاب !!!
لن أقول لها شيئا ، فلتسخر
مِني ومِن الرئيس ، هذا أبسط حقوقِها ووطنُها يُدمّر وحياتها تُدمّر بلا ذنب إلا
رئيسًا مجنونًا كما تصِفه دائمًا طمعَ في النفط ونسيَ أن لهذا النفط شعبًا يملكه، وعلي
ذلك الرئيس احترام إرادته الوطنية وليس قهرَها بصواريخه !!!
منذ متي لا تخافين من الانفجارات
أحلام ؟؟؟ الموصليات لا يَخفن من الصواريخ سيدي ، الموصليات لا يخفن أساسًا ، نحن
بنات المدينة التي ضربت بالمنجنيق وهدمت أسوارها وأسواقها فحاربت وهَزمَت المنجنيقَ
وأشرارَه شر هزيمةٍ، وانتصرت وعادت بفرحةٍ وعزيمة وقوة وشَيّدت الأسوارَ والأسواق
والبيوت كما كانت وأجمل ، هذا ما قاله أجدادنا وحفَّظونا حكاياتِه وقصصَه ، واليوم
ومنذ سنوات كثيرة تضرب مدينتنا بالصواريخ والقنابل فتهدم الأسوار والأسواق
والمتاحف والجسور والبيوت فتحارب المدينة وتقاوم الصواريخ وأشرارها، وقريبًا
ستهزمهم شر هزيمة وتنتصر وتعود وتبني الأسوار والأسواق والمتاحف والبيوت كما كانت
وأجمل .. هذا قدَر الموصل سيدي الأمريكي وقدَرنا ، تحارب وتنتصر و.... ستنتصر ...
لِمَ أنتِ واثقة هكذا من
انتصاركم ؟؟
تاريخنا يقول يا سيدي ،
تاريخنا يقول إننا سننتصر ..
صمتتْ لحظة ثم قالت ، بكل
الأسى والأسف سيدي ، أنتم شعب بلا تاريخ، بلا جذور، بلا هوية، فلا تملكون إلا قوتَكم
وبطشَكم تطمئنون لهما وبهما ، نحن غيركم يا سيدي ، نحن غيركم ، نحن أصحاب حضارةٍ
وتاريخ، عُلِّمنا درسًا أبدا لا ننساه ، أننا مهما هُزِمنا ففي النهاية سننتصر
سننتصر !!!
وارتسَمَ التحدي علي وجهها
فمنحتني مجموعةَ صورٍ مختلفة عن كل مجموعات دموع المدينة !!!
( 44 )
"" لَقطَة مِن مجموعة الصور ""
"" خَلفية وَاحِدة ""
كان هُنَا وفي هذا المكان مزارٌ عظيم للنبي يونس .. هذا
عنوان الصورة ومعناها ، كل ما تحمله الصورة وتنقله ليس إلا أكواما من التراب والأنقاض
، الأهم منها الخلفية التي وراء تلك الأكوام ، لماذا ؟؟ لأني لن أعرض هذه الصورة إلا
ومعها صورة سابقة عنها بسنوات أحضرتها من شبكة الإنترنت ، لنفس المكان بذات الخلفية
، الفارق الوحيد أن صورتي تحمل أنقاض المزار المهدوم المتفجر ، والصورة القديمة
للمزار قبل هدمِه ..
الصورتان معًا تحكيان حكاية من حكايات الموصل ، التي
احتلها ذوو الأعلام السوداء ، فانهالوا عليها تخريبًا وتدميرًا وهدمًا ..
عندما أعرض الصورتين معًا ، ستفهم الحكايةً بلا تعليقٍ مِني
...
( 45 )
لم أفعل
شيئًا ..
قبلَما يضغط إصبعي علي الزر
الصغير وأخطف اللقْطَة التي رغبتُ في اقتناصها لضحكات نسوةٍ خارجاتٍ من الحمّام
الشعبي يوارين ابتساماتِهن خلف الطرحة السوداء التي يُغطين بها وجوههن ، قبلَما
يضغط إصبعي علي زر الكاميرا وأضيف الصورةَ لمجموعتي ، في تلك اللحظة رجَّني صوت
جهوري بكلمات متلاحقة كطلقات الرصاص لم أفهم معناها ، ارتبكتُ وكادت الكاميرا تسقط
من يدي ، أكفٌ قوية قبضت علي كتفي وأخرجتني بعنف من خلف الحائط الذي تواريتُ خلفَه
، يصرخ في وجهي بكلماته ولُغتِه التي لا أفهمها ، يخطف مِن يدي الكاميرا ويشوّح في
وجهي بأذرعِه الطويلة ، ذقنه الأشعث تتطاير شعيراتها، ووجهه كله يختلج انفعالا ..
فلتهدأ مِن فضلك يا سيدي ،
فلتهدأ ، للأسف لا أفهم ما تقوله ، لماذا أنت غاضبٌ سيدي ؟ بصوتٍ عالٍ أصرخ في
وجهه ودقاتُ قلبي متسارعة، والكلمات تَخرج من حلقي جافةً حَجرية ، أنا أمريكي ،
مصوّر فوتوغرافي ، أصرخ بلُغتي التي لا يفهمها هذا المنفعِل العنيف ، أُكرر ما أقوله
، لاا أبغي شرًا ، مصور فوتوغرافي هاوٍ ، أكرر ما أقوله أملا أن يفهم، لكنه لا يفهم
، فلتهدأ مِن فضلك يا سيدي .....
يقبض بعنفٍ علي كتفي ،
يهزني بقسوةٍ فأتأرجح وأكاد أقع علي الأرض ، يلتفت الغرباء حولي ، يتكلم كثيرا
سريعا ويصرخ فيهم بكلمات لا أفهمها ، ما الذي تقوله لهم عني يا سيدي ؟ ما الذي
تقوله ؟ فيتفجر الغضب نارا من عيونهم ، أمريكي مصور فوتوغرافي لم أفعل شيئًا ، أصرخ
فيه وفيهم وأكرر وأكرر وهُم لا يفهمونني ولا أفهم سبب غضبهم ..
يَخرج مِن وسط الدائرة
المزدحمة شابٌ صغير ، يسألني بلُغتي أمريكي ؟؟ أهز رأٍسي فرحًا وكأنهم تركوني
لحالي ، أشرح له مصور فوتوغرافي ، لا يفهم ما أقول ، يشير للرجُل المُمسِك بذراعي
وكتفي ويشرح له بسعادة ، أمريكي ، فهمت ما يقوله ، نَعم أمريكي، أنا أمريكي ، أؤكد
له ، جنسيتي دليل براءتي ، والكاميرا تؤكد أني مصور فوتوغرافي ..
يبتسم الرجُل الضخم الذي
يقبض عليّ ، يمد يده يفتشني ، يعبث بجسدي بطريقة مريبة ، يمد أصابعه الغليظة داخل
بنطالي ، يُخرِج أوراقي وجوازَ سفري ونقودي ، أمريكي مصور فوتوغرافي ، يسحبني
وخلفي حشد المتزاحمين وأنا أصرخ أريد الاتصال بالسفارة الأمريكية فأنا لم أفعل شيئًا
، مصور فوتوغرافي ليس إلا ، يسحبني وصخبهم يتزايد ويتعالَى وكأنهم يشاهدون مباراة
كُرة قَدَم وفريقه يُحرِز أهدافًا متعاقِبة ..
السوق مزدحم والحرارة شديدة
، سقطتْ قُبّعتي وكاد حذائي ينخلع من قدمي وهو يجري مسرعًا، وأنا أسيرُ خلفَه
متعثرًا وجميعُهم خلفي ، أتمنى لو عثَرَ بين أوراقي التي استولى عليها مِن جيوبي علي
الكارت الخاص بروبرت ، أراه بين أصابعه ، أصرخ باسم المنظَّمة التي يعمل فيها وأنها
تابعة للأُمَم المتحدة ، أبحث عن الشاب الذي فهِمَ بعض كلماتي فلا أجده ، الرجُل يلقي
أوراقي في الهواء خلفَنا لا تهمه ولا يكترث بها ، أصرخ الكارت، منظّمة الإغاثة، الأمم
المتحدة ، لا يكترث ويسحبني أَسرعَ وأسرع ، أصرخ أمريكي مصور فوتوغرافي، لا يكترث
ويسحبني أَسرعَ وأسرع ، الشمس تثقب رأسي بحرارتها ، تميد الأرض تحت قدمي، والتراب
المتطاير تحت نعليه يردم عيني وفتحتَي أنفي وفمي ، لا أجد هواء أتنفسه ، رائحة عرقِه
النفاذة تتطاير من تحت إبطِه لأنفي تخنقني ، أحاول أن أبتعد عنه قليلا ، يتصورني سأفِر
مِنه أو سأحاول ، يلتفت لي وبكل قوتِه يلطمني علي وجهي بعنف وقسوة وهو يصرخ فيّ
بكلمات لا أفهمها ...
وأفيق علي أرضٍ رطبة في قبوٍ مظلِم خانق، وأنا
لا أفهم ما الذي يحدث ولماذا ؟!!
( 46 )
لماذا أنا
هُنَا ؟؟
ليالٍ طويلةٌ قضيتها معصوبَ
العينين ، مُلقىً علي أرض باردة في مكان لا أعرفه ، ليالٍ طويلة معصوب العينين ،
يتناوب عليّ الرجال ، يُلقون الطعام أمامي وطبقَ الماء اليتيم ، أتحسس الأرض عطِشًا
بحثًا عن رشفة ماء ، تنسكب المياه وتجري بين أصابعي وأعف عن الطعام برائحته النفاذة
وطعمِه الغريب...
يُفتَح الباب عليَّ مرتين ،
مرة على الأرجح في الصباح، ومرة أخرى على الأرجح
في المساء، الرجُل ذو الإنجليزية الطليقة
يسألني لماذا لم آكُل؟ ويتمتِم بكلمات لا أفهمها ويطرق الباب خلفَه بعنف ويَخرج ...
بعد عدة أيام لا أعرف عددها
، دخلَ رجُل يتحدث إنجليزية ممضوغة ، حيَّاني بصوت مرتعِش وكأنه خائف ، طلبَ منهم أن
يرفعوا العصابة عن عينَي حتي يتمكن من الكشف عليّ ، تجاهلوه فصمتَ ، قبض بأصابعه
المرتعِشة علي معصمي ، تسارعت دقات قلبي ، تمتَم بالعربية كلماتٍ لا أفهمها ، طلبَ
نقلي للمستشفي لأن حالتي سيئة، ولأني لا آكل ولا أشرب ، لم أسمع صوته ثانية، وبسرعةٍ
تركَ الغرفة وخرج، ولم أذهب طبعًا لأي مستشفى، ولم أبرح القبوَ ...
ما زلت مُلقىً علي الأرض
معصوبَ العينين ، أناديهم بالإنجليزية ، أسألهم لماذا أنا هُنَا؟ لماذا قبضوا عليّ؟
أناديهم وأناديهم حتي تخور قواَي وأصمت تعبًا ولا أحد يجيب ...
لماذا أنا هُنَا؟؟ لماذا أنا
هُنَا ؟؟؟
( 47 )
عُد مرةً أخرى
يا سيدي
"فصل
الربيع"
في المدينةِ ذاتِ الربيعين
تواريتُ حزنًا، وتوارت زهوري وورودي وانتعاش الروح في لياليَّ وأيامي ، وكيف يسطع
الربيع زاهيًا والمدينةُ تحتلها الرايات السوداء وترفرف في سمائها بدلا من الرايات
الملونة التي اعتادت المدينة أن ترفعها ابتهاجًا بمقِدمي كل عام ..؟
في عيد النيروز ، في الأيام
الجميلة التي لم تَحُط فيها الغربان السوداء علي نخيل الموصل ، كانت المدينة تحتفي
بقدومي وترحب بأيامي وتقيم الاحتفالات في شوارعها وأزقتها المتزينة ابتهاجًا وفرحًا
...
لكنّ الغربان السودَ حطت
علي نخيل دجلة، ونعيقها احتل سماء المدينة وتوارى الجَمال والبهجة ومعنى الحياة
انتظارًا لانتصارٍ أوشك قريبًا فتقتل الغربان وسوادها وتكتسي المدينة كعادتها بحُللِ
الجَمال والفرحة ..
أنت يا سيدي تَعِس الحظ ، نَعم
أنت ، أنت أيها الأجنبي الذي حللتَ الموصل والغربان السود تحتل نخيل دجلة ، تَعِس
الحظ ، كان يتعين عليك أن تأتي قبل بضع سنوات فترى الموصل كما تستحق أن تراها ، أو
تبقى في بلدك بعض الوقت وتزروها بعد عدة سنوات فتراها وقد استعادت بهاءَها وجَمالها،
لكنك أتيتَ في الوقت الخاطيء للزائرين العابرين ، فهذا وقت أهل المدينة وصراعهم من
الشر والغربان السود لنصرة المدينة واسترداد وجهها الملون والصبوح ..
سيدي الأجنبي الحائر بين جنبات
المدينة تحمِل كاميرتك الفوتوغرافية تبحث عن صور تلتقطتها تخلّد ذكرى زيارتِك لها
ورحلتك فيها ، سيدي الأجنبي الذي أراه أحيانًا يسير خطواتٍ متعثرةً علي ضفة دجلة،
وأحيانًا أخرى أراه مرتبكًا في الأسواق أو تائهًا في الأزقة الضيقة ، سيدي الأجنبي
، لو كنتَ أتيتَ مبكرًا بضع سنوات ومعك الكاميرا لعِشتَ لحظاتٍ لن تنساها والتقطتَ
صورًا لن تَلتقِط مثلها تفوح منها رائحة الزهور والفرحة ..
سيدي الأجنبي ، هنا في
الموصل ومنذ سنوات قريبة ، كانا العربات المزينة بالزهور تجوب شوارع المدينة،
وعليها جميلات الموصل برؤوسهن المزينة بأكاليل الياس الأخضر يلوِّحن بأيديهن
المزينة بالورود لأهل المدينة علي نغمات الموسيقى الصادحة والأغاني والأناشيد
الموصلية ..
لو كان الحظ قَد أسعدك سيدي
الأجنبي وحضرتَ احتفالا للمدينة بالربيع ، لشاهدتَ أهل المدينة علي اختلاف طوائفهم
ومِللهِم ودياناتهم يتشاركون في حُب المدينة والاحتفاء بقدومي ، قدوم الربيع !!!
لو كان الحظ أسعدك سيدي وزُرتَ
الموصل قبل سنوات قليلة ، لشاهدتَ فتياتِ الموصل فوق العربات المزينة بالزهور
والورود ، كل منهن بملابسها وزيِّها وطريقة زينتها وشَعرها مختلِفةٌ عن الأُخريات؛
ليُشكِّلن جميعًا ومِن تَضادهِن وجَمالهن لَقطَةً موصلية جميلة كنتَ ستختطفها
بكاميرتك، ويمكنك أن تسمّيها ربيع الموصل
..
هل ترى تلك الفتاةَ الكُردية
الجميلة التي تقف وسط قريناتها بملابسها الزاهية الفسفورية؟ نَعم هذه هي ، التقِطْ
لها صورة يا سيدي ..
أمّا تلك الجميلة الأخرى
بضفائرها المسدَلة وزيّها الجميل فهي يزيديةٌ سيدي ، وجميعهن مثلها بالضفائر المسدَلة
علي الأكتاف والابتسامات الناعمة ، نَعم هذه هي ، التقِطْ لها صورة يا سيدي ..
هل ترى تلك الأثوابَ
الشيفون المتطايرة علي أبدان الجميلات ترسم مع ألوان الزهور لوحةً بديعة؟ نَعم تلك الأثواب ، هل تراها ؟؟ إنه أثواب
مسيحيات الموصل سيدي فوق عرباتهن المزينة بالورود .. هل ترى الفتياتِ اللاتي
يرتدين الأثواب البيضاء فوق العربة الخاصة بهن؟ لسن ملائكةَ يا سيدي ، بل هُنّ
الصابئة المندايون بأثوابهن البيضاء الخالية من الألوان ، صوِّرهن يا سيدي ولا تنسَ
وسط الزحام ، أمّا هؤلاء الفتيات الأخريات بأثوابهن المزركشة المنقوشة بالورود
والزهور علي عربتهن ، هؤلاء فتيات وجميلات طائفة الشبك ...
هل تشعر مِثلي بالحزن لأنك أتيتَ
في الوقت الخاطيء؟ وبعدما انفضَّت الاحتفالات وأُسِرت الفتيات وحُجِب الجَمال خلف
ركام القبح ونعقت الغربان السوداء أعلي من صدح الموسيقة والبلابل ؟ هل تشعر بالحزن؟؟
اتركِ الحزنَ لأهل المدينة أيها
الغريب وقودًا لحربهم من أجل استردادها وجمالها ووجهها الصبوح وصدح بلابلِها ،
اتركِ الحزنَ أيها الغريب وعُد لبلدك وانتظِر الموصلَ بعض الوقت وعُد لنا حينما
تنتصر وترفع رايات فرحتِها ، وقتَها ستجد
كل الجَمال والحياة الذيْن يستحقانِ تصويرَك ولقطاتِك ..
اذهبِ الآنَ ، وعُد في وقتٍ
آخرَ سيدي ..
عُد في وقتٍ آخرَ سيدي ...
( 48 )
ذيل الكلب
بعدَ عدة أيام لا أعرف عددَها
مُحتجَز أنا في القبو البارد ، فُتَحَ البابُ فجأة ودخلَ الرجُل بإنجليزيته الأنيقة
واقترب مِني وسَحبَ العصابة مِن فوق عيني ، سَخِر مِني لأني لم أحاول رفعَها رغم أن
ذراعي طليقة ، فتحتُ عيني فمادت الأرض تحت قدمي ، أحسست دوار الخمر الرخيص الذي
كنت أشربه وقت الجامعة ، ماعت نفسي وكدت أتقيأ ، أُغمِض عيني وأفتحها ثم أُغمِضها
وأفتحها ..
الرجُل يقف أمامي ضخم الجثة
عريض الكتفين ، يلبس رداءً أسودَ علي رأسه لا يُظهِر إلا عينيه ، سألته لماذا أنا
هنا؟ لم يُجِب عليّ ، بل لم تَصدر عنه أية إشارةٍ وكأنه سمعني ، ربما يسمع ما يرغب
فيه، وما لا يرغب يمحوه من عقله قبلما يصل ، سَحبني مِن ذراعي لخارج الغرفة ، أتعثر
في خطواتي ، يقبض على ذراعي ويتركني كذيل الكلب أتساقط وأتأرجح وأتبعثر وأتعثر في
خطواتي ، لا يساعدني على أن أقف، ولا أن أسند عليه لأمشي، لا يكترث أن رقبتي تتدلّى
علي صدريـ وأن قوَاي خائرة، وأن ذراعيّ متدليتان بجوار جسدي الهش ترتعشان ، يَسحبني
كالحيوان المُساق لقدَرِه في عنابر الذبح ، يَسحبني بسرعة وأنا أتعثر وأسقط وأقوم
، لا ينطق ولا أنطق ...
يُدخِلني عنبرًا واسعًا ، إضاءته
باهرة ، اللمبات الكبيرة في سقفِه ، الإضاءة الساطعة تنهمر من السقف كالأمطار الموجِعة
، أُغمِض عيني وأفتحها ، ما زلت أسيرُ خلفَه كالبهيمة ، يتركني فجأة لأتهاوى علي
الأرض ، جسدي الهَش يوجعني بشدة من الارتطام ، أجِد حائطًا أسند ظهري عليه ، ما زلت
أُغلِق عينَي وكأن العصابة تُحكِم وثاقَها عليهما ، أسمع صوتًا عاليًا يتحدث بإنجليزية
رصينة ، يصرخ بصوتٍ آمِر ، افتحوا أعينكم ، أفتح عيني لأدرك سريعًا أني لست وحدي
الموجودَ في ذلك العنبر ، كثيرون مِثلي نتشارك الإعياءَ والشحوب والإنهاك المَقيت ..
أشعر وكأني أعيش كابوسًا
مرعبًا ، أهز رأسي هزاتٍ متلاحقة وكأني أوقِظ نفسي من نومها ، أهمس باسمي وأني أمريكي
الجنيسية، وأني مواطِنٌ مسالِم، وأني لا أقصد إيذاء أحد، وأني لا أفهم سبب وجودي ،
أُكرر اسمي وأُكرره ، أخاف أن أنسى اسمي وجنسيتي ، أكاد أصرخ فيهم اتصلوا بسفارتي ،
لكن صوت الوهن وأحبالي الصوتية المرتعشة لا تسمح لصراخي بالانطلاق ، نَعم أنا في
كابوسٍ مرعب ، أُكلّم نفسي ولا أحد يسمعني سواها ، هذا العنبر ليس حقيقة، والعصابة
التي كانت علي عيني ليست حقيقية، والرجُل الضخم الذي جرني وسحبني خلفَه ليس إلا أضغاثَ
أحلام ..
نَعم مارك ، كل هذا ليس
حقيقيًا ، سأستيقظ قريبًا ، سأستيقظ فورًا ، سأجد نفسي علي فراشي وفي حضن مارلي، وكلبي
الوفي ينام تحت قدمي ، سيصرخ الراديو ، صباح الخير أمريكا ، سأقص علي مارلي ما عِشته
طيلة تلك الليلة الكئيبة والكابوس الذي عشته والأجلاف الذين احتجزوني، ووجع عيني
من العصابة ومِن الضوء ، سأقص عليها الرعب الذي تملّكني، والخوفَ الذي احتلني،
والوهن الذي حطم جسدي و... سأنسى بعدما أحكي لها كل ما رأيته في ذلك الكابوس ..
الصوت العالي الإنجليزي
الرصين ما زال يتكلم ويصرخ ، هذا الصوت العالي يؤكد لي أني يقِظ، وأني أعيش
الكابوسَ فعلا، وأن كل ما كنت أظنه مجرد أشباح في الليل ستنقشع مع لحظات النهار هو
حقيقة، وأني مقبوض عليّ فعلا، وأني أعيش الوهن والرعب والأَسْر والعبث مثلما أحسه
فعلا ، لِمَاذا قبَضتم عليّ أيها المجهولون؟؟ لماذا قبضتم عليَّ وبأي ذنب ؟؟؟...
لا أسألهم ... ولا أحد
يجيبني ....!
( 49 )
"" لَقطَة مِن مجموعة الصور ""
"" المَلِكة ""
هذه ماريان ، الطبيبة الإفريقية، زميلة روبرت في منظمة
الإغاثة، سمراء طويلة، عيونها صغيرة تلمع بوهج تحت نظارتها، ابتسامتها ساحرة تشق
سواد الليل بِضوء القمر ، هذا ما شعرتُ به كلما ابتسمتْ ..
هذه مجموعة صورٍ لها في أوقاتٍ مختلفة ، استأذنتها أن ألاحقها
بكاميرتي ووافقتْ ، نهرني روبرت لأني أُزعِج زميلته في العمل وأتطفل عليها ، لم أكترث
بما قاله بعدما وافقت هي وكدت أقول له انشغل بنفسك وانسَني، لكني تذكرت أني أقيم
في منزله وأصاحِبه في جولاته ويتحمل حمقي وسذاجتي وجنوني، فعليّ أن أتأدب معه ..
هذه صور ماريان في أوقات مختلفة خلال إقامتي في الموصل
....
مجموعة الصور الأولى وهي جالسة في الشرفة تبكي تحدّق في
صور أطفالها ، هي أُمٌّ تركت أطفالها في وطنها وجاءت ترعى وتعالِج أطفال الموصل ،
ذاتَ نهارٍ استيقظتُ مبكرًا وخرجتُ للشرفة لأجدها تبكي مع نفسها ، كَم كنت سخيفًا
وقتما اختطفت كاميرتي، وقبلَما ألقي عليها تحيه الصباح ، التقطت لها مجموعة صور
دون إذن ودون تعاطُفٍ مع حالتها النفسية ، من هذه الصور واحدة أقف أمامها كثيرا ،
نَعم هي الصورة الأخيرة ، هل ترى الدموع المتساقطة معلقة في الهواء وتكاد تسقط علي
صورة أولادها ؟ كيف التقطتُها والدموع معلقة ؟ الحق لا أعرف ، لكني فرحت وبشدة
بتلك الصورة رغم مشاعرها الحزينة وافتقادها لأطفالها ، الحق تعاملتُ مع اللحظة
ببرودٍ كمثل برودها وقتما توخِز هي أحد الأطفال في فخذِه بالحقنة فيبكي وهي واثقة أنها
تساعده علي الشفاء ولو لم يَدرِ ، نَعم تعاملتُ مع لحظة ألمِها ببرودٍ فلم أربت
عليها ولم أُهوِّن مت حزنها، بل وثَّقتُه في مجموعة صور، أجملها صورة الدموع
المعلقة في الهواء ..
مجموعة الصور الثانية ، صوّرتها لها في أحد الأزقة الضيقة
مع أطفال اللاجئات ، كانت تلهو معهن ، هي التي تراها برأسها العالية وسط الأطفال ،
الأُم أُم ، هذا ما أُحِسه وأنا أراها تلعب مع الأطفال ، لا تتحدث لغتهم ولا يفهمون
ما تقوله ، لكنها تلعب معهم ويلعبون معها، الصورة التي ترفع أصابعها لأعلى والأطفال
أيضا ، كانت تغني لهم وترفع أصابعها لأعلى ثم تُسقِطها فيقلدونها ويَضحكون ، الصورة
الثانية أيدي الأطفال ، والثالثة وهي تجلس وسطهم وهُم يتحلقون حولَها ، الصورة الأخيرة
وهُم يصفقون جميعًا، هي وهُم بعدما انتهت من أغنيتها التي لم يفهموا من معانيها
حرفًا واحدًا ، الأُم أُم ، أُمٌّ تلهو مع أطفالها بحنان فيرق لحنانها الحَجر ...
مجموعة الصور الثالثة لوجهها ، وعينيها ، ابتسامتها ،
ملامحها الإفريقية الواضحة ، أنفها الكبير ، رقبتها الطويلة ، أُحِب مجموعة الصور
التي ركزتُ فيها علي ملامحها ، انطونيو وقتما شاهدَ تلك الصور أخبرها أنها تُشبِه إحدى
مَلِكات مِصر ، قال لها اسمًها لكني بالطبع لا أتذكره ، قررتُ أن أُسمّي تلك
المجموعة من الصور "مجموعة المَلِكة"
..
( 50 )
القَسَم
في الصباح الباكر أيقظتني
حسناء ، طردت الكوابيس الموحشة من القبو ومن خيالي ، ألقت الطعام النتن خارج الباب
، نظَّفت أرض القبو ومسحتها ، أخرجت عطرَها وبخَّرَتها ، زرعت ابتسامتها قناديلَ
علي جدران القبو فأضاء وكأننا خرجنا أنا وهي لنزهةٍ علي ضفة دجلة ..
سألتني ، قُل لي بصراحة ،
هل جئتَ بلادنا فعلا لتبحث عن سوق بيع النساء؟؟ ارتبكتُ وخجلت .. نَعم ، ولم تجده
؟؟ حاولتُ ولم أجده ، قالت ولن تجده أبدا ، النساء في بلادنا لا تباع ولا تُشترى ،
النساء في بلادنا كالأرض مصونة . أنتِ تكذبين يا حسناء ، النساء في بلادكن تُباع
وتُشترى في أسواق النخاسة ...
تحدِّق في وجهي بغضب ، أنت أحمق
أيها الأجنبي، تصدق كل الأكاذيب التي تُروّج عنا في إعلامكم ، إنهم يروّجون تلك
الصورة الكاذبة لإشاعة اليأس في أرواح المقاتلين خارج المدينة وداخلها ، يحاولون
هزيمتهم بتحطيم إرادتهم ، نساؤكم تُباع وتُشترى فَلِمَ تقاتلون ؟؟ هكذا تتحول الأكاذيب
لأسلحةِ قتلٍ يظنون أنها ستخدعنا وتقتلنا ، لكني رأيت الصورة في البرنامج الإخباري
حسناء ، أعرف وأنا أيضًا رأيتها، لكنها صورة كاذبة مصطنَعة ، لم نصدقها ولم يصدقها
مقاتلونا؛ فنساء الموصل يمُتْنَ قبلَما يتجرأ عليهن مجرمٌ يَعرضهن للبيع والشراء
ولو كان مِن ذوي الرايات السوداء !!!
اسمعني مارك ، اسمع حواديت
التاريخ علَّكَ تفهم ماذا يحدث في الحاضر ، اسمعني ، في زمن بعيد ، حاصر الصفويون
المدينةَ وحاولوا غزوها والسيطره عليها ، الموصليون دافعوا عن مدينتهم دفاعا باسلا
وصدوا عنها الهجوم وعلوا أسوارها لتحميهم، وفي كل فَجرٍ يبنون ما تهدم منها ، في
ذلك الوقت ، أقسَم الموصليون علي قتل جميع نسائهن لو انتصر الصفويون .. قالت هذا
وصمتت ، سألتها وما علاقتي بهذا التاريخ؟ ولماذا تقصّيه عليّ ؟؟
التاريخ موصول بالحاضر سيدي
المصور ، التاريخ يترك دروسه لأهله يتعلمون منه ، وتاريخنا بقي معنا في أرواحنا
يعلّمنا كيف نواجه الأعداءَ، وكيف ننتصر عليهم مثلما واجهناهم قبل ذلك وانتصرنا ..
وما معنى القَسَم الغريب
بقتل كل النساء؟ وما علاقته بأسواق النخاسة حسناء؟ اشرحي لي؟ ألا تجد أي علاقةٍ
بين هذا القَسَمِ الذي أَطلقه أجدادنا في الماضي وبين أسواق النخاسة التي جئتَ
تبحث عنها ؟؟ أهز رأسي نفيًا ، أمَا فهمتَ معنى هذا القَسَم سيدي الأمريكي ورسالته
الدفينه ؟؟ أهز رأسي نفيًا ,,
تبتسم بتحدٍ ، إلا النساءَ
والعِرض والشرف ، إلا النساءَ .. هذه رسالة الموصل قديمًا ولآخر الزمان ، إلا نساءَنا
، رسالة تاريخ الموصل للمستقبل ، لن تَحرث أرضَنا إلا فؤوسُنا، ولن تحمل إلا
بذورنا، ولن تثمر إلا شرفنا ، وحين نُهزَم نقتل النساءَ فلا يتجرأ على شرفنا خسيسٌ
أحياءً كُنا أم أمواتًا !!!
هذا درسُ التاريخ الذي
استوعبناه وفهمناه سيدي المصور ، فهل هذا شعب يترك نساءه تباع في أسواق النخاسة ؟؟
لكنهم قالوا ، تقاطعني بعصبيةٍ وغضب ، كاذبون يا سيدي كاذبون ، يروجون الإشاعاتِ
ثم يصدقونها ، لكننا أبدا لم ولن نصدقهم ، لا تصدق أكاذيبهم يا سيدي، لا تصدق أكاذيبهم
..
أشعرُ بأسىً وحزنٍ يُفجّرانِ
ضحكًا مريرًا ، جئتُ من بلادي لأصور هذه اللقطة، واليومَ تقولين لي إنها محض أكذوبة
؟ تبتسِم ، لا تحزن يا سيدي، لقد جئتَ من بلادك لتعرف الحقيقة التي تعيشها بلادنا،
ويا لَه مِن فوزٍ عظيم ، ساقَكَ قدرُك لبلادنا لتعرف الحقيقة وتحكي عنها وتحكيها
فتمنحك بلادُنا البقاءَ حيًا للأبد رغم أنصال ذووي الرايات السوداء ..
لهذا جئتَ، ولهذا عَرَفتَ،
ولهذا ستبقى حيًا ..
وتَصمت ... وتتلاحق أنفاسي
انفعالا، لا أصدق كل ماعِشتُه، وما أعيشُه في هذه المدينة ، الموصل !!!
نهاية الجزء الخامس
ويتبع بالجزء السادس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق