الجزء الرابع
و أغني ليه وزماني زماني ما سعدنيش
والفرحة بتواعد ولا توفيش
والليل بيطويني والآه على لساني
والحزن يخاويني ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني .. رماني .. رماني مانصفنيش
والفرحة بتواعد ولا توفيش
والليل بيطويني والآه على لساني
والحزن يخاويني ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني .. رماني .. رماني مانصفنيش
( 20 )
مازال الليل في اوله
و.................. صوت صاخب حطم رأس نبيل ، فتح عينيه فزعا ، حدق في
مريضه خائفا يكون الصخب هو رحيل الروح التي ملت الاسر في الجسد الممزق ، لكنه
مازال نائما امامه وكأنه يغرق في الاحلام الطيبه ، ينتبه نبيل فاذا بالكهرباء التي
قطعت ساعات طويله عادت والضياء يسطع فوق الجدران الخضراء ، مادت الارض تحت قدميه
المتيبستين محتجزا علي الكرسي الخشبي الثقيل امام الفراش الاخضر الذي يرقد عليه
جسم يقاتل ليبقي محتفظا بمكانه في الحياة ، المولد الكهربائي الذي كان يدير
الاجهزة الموصوله بجسد زين انطفيء فجأ فارتعشت الشاشات وسرعان ماعادت لكفاءتها
بعدما حل التيار العمومي في الاجهزه بديلا لكهرباء المولد التي دعي نبيل طويلا الا
تنفذ فيموت زين !!!
غرفه صغيره بارده علي جدرانها لافتة العنايه المركزة ومصاب ينزف دماء كثر
من ثقوب كثيره في جسده يحاول نبيل معاونته ليبقي حيا ، غرفه صغيره بارده علي
جدرانها لافته العنايه المركزة تحتجز نبيل وزين وصراع عنيف بينهما والحياة من جهه
وبين الموت وملائكته من جهه اخري !!!
يفتح نبيل عينيه ويحدق في زين ، مازال حيا ، مازالت انفاسه تتلاحق ببطء
ومازالت الشاشات تقرأ بعض الحياه الباقيه في جسده الممزق بشظايا ورصاص خرج ودخل
ودخل وخرج ومزق جسده وروحه وكاد يوصل بينه وبين المعبر الاخير ليغادر العالم
الموحش ويحل ضيفا عزيزا علي الفردوس الاعلي ، لكن نبيل اناني لايرغب في رحيل زين
ولا تزيين صفحته بقلاده الشهداء ولا منح امه معاش استثنائي ، نبيل يمسك بتلابيب
زين ليبقي ويصارع الحياه ويثأر لجروحه الكثر بتطبيق القانون علي القتله المجرمين
يفتح نبيل عينيه ويحدق في زين ، في الشاشات ، في اللمبه الساطعه في السقف باشعتها
البيضاء البارده ، في الجدران الخضراء ، ويتنفس الصعداء ، رغم كل شيء ، افلح يقبض
علي روح زين في جسده ويسد ثقوب اللحم الممزق ويوقف شلالات الدماء الساخنه ويؤجل
رحيله ولو بعض الوقت!!!
ستفلح يابنيل ، ستفلح !!!
منذ لحظه الهرج التي مزقت سكونه في غرفته الصغيره وليلي تصرخ تناديه ،
يادكتور نبيل ، وقتها كان مستلقيا فوق فراشه بروح متعبه بعدما مات المصاب الذي
حملته الطائرة الهليكوبتر من العريش لطاوله
العمليات اتي ممزقا من دانه القيت فوق جسده مباشرة ، كان يكتب رساله لزوجته ، اتت
معه بين اصابعه بلا معاني بعدما اغرقتها الدماء وامتزجت مع الاسطر والحبر ، هب
نبيل من فوق فراشه وهرع مرتاعا لغرفه العمليات ، يصرخ ، دم ، يعرف مالذي سيلاقيه
في الجسد الممزق الذي حملته الطائره في محاوله لانقاذه وان مات يموت وسط اهله
بعيدا عن الارهاب المعشش غربان سوداء علي الجبل الذي احتله اولاد الحرام ، دم
هاتوا اكياس دم ، يصرخ دم دم ويجري لغرفه العمليات ، يعرف تلك الملامح علي مثل ذلك
الوجه ، انها الروح التي رحلت وتركت جسدها يعاني حتي يتركه الاطباء وشأنه ، يعرف
تلك الملامح ، الوجوه المعووجه والعيون نصف المغلقه والانفاس ذات الرائحه الغريبه
، والدماء اللزجه التي تنسكب من الشرايين والاورده بلا اراده في الحياه ، يعرف تلك
الملامح ، هذا شهيد رحلت روحه وامتطت فرس النبي وتصعد الان للسماء السابعه
والفردوس الاعلي ، روح رحلت وتركت جسد سيرحل بسرعه ، بعدما يعجز الطب يغير كتاب
الاجل وميعاده وبعدما يعجز الاطباء بكل علمهم واصرارهم وحماسهم في مد الجسد الذي
رحلت روحه عن الحياه بالحياه ، يعرف نبيل تلك الملامح ، يبتسم ، يقرأ الفاتحه ،
يتعقم ، يمسك مشرطه وابره الخياطه وخيطها المعقم ، يمزق الملابس المخضبه بالمسك
والعنبر ، يمزقها بحثا عن جسد يرغب في الحياه لكن الملابس المخضبه بالبطوله ترفض
تترك صاحبها وتلتصق في عظامه وتختلط بلحمه وجلده ، هذا كفني وهذا جسدي وسنرحل معا
، رحلنا فعلا ، وانتم بؤساء تضيعوا وقتكم وجهدكم وتحاولوا فيما لايجدي!!!
ورحل البطل الذي لايعرف نبيل اسمه ، رحل والمشرط يبحث عن جرح يفتحه ويطهره
من الموت المحقق والخيط المعقم يبحث عن جرح يرتق طرفه مع طرفه الاخر ، رحل وصمت
القلب وكفت الرئتان عن الحركه واستسلم الجسد لرحيله وارتسمت ابتسامه علي وجه تتغير
ملامحه بسرعه من مصاب متوجع لشهيد بطل يزف علي فرس النبي وحوله الملائكه لعرش
الرحمن !!!
يبكي نبيل وتبكي الممرضات لان الجدع راح ، يبتسم الجدع لانه في طريقه للجنه
لكنهم لايعلمون !!!
يخلع نبيل البالطو الذي كان ابيض ويغسل دماء الجدع من علي اصابعه ويتسلل
لغرفته الصغيرة يبحث عن بقايا الاحجار المشحوذة التي تسكن جفنيه لتسقط دموعا ،
يتسلل لغرفته ويطفيء النور ويمني نفسه ببضعه ساعات بلا حزن جديد ، لكن امنيات نبيل
لا تتحقق ولن تتحقق ، قدر له يشهد لحظات الرحيل لجسد لايعرفه ، وقبلما تهدأ روحه
وتلملم نفسها المبعثره حزنا علي الاحزان التي تحاصره وتحتله ، قبلما يصالح نفسه
علي نفسه ويطمئنها انه سينقذ المصاب القادم مهما كانت شدة اصابته وانه باراده ربه
وقدرته سينتشله من الموت سيعيده لزوجته فتعيد ملابس الحداد لخزانتها وتغلق عليها
بقفل ترمي مفتاحه بعيدا ، سيعيده لامه فتدخر دموعها لتبكيها علي اولاد الاخريات
التي يخترن الفخر ويرحلن شهداء عرسان للسماء ويتركن القلوب تحترق والعيون تبكي دما
وهما وحزنا ووجع لايضاهيه وجع ، سيعيده للحياه وللارهابيين القتله يتقص منهم ويثأر
لزملاءه الذي فشل نبيل يشد اواصر حياته لجذورها في الارض الطيبه فتركته وحلقت
للسماء ، قبلما تهدأ روحه ، تطرق ليلي باب الغرفه بطرقات يعرف معناها ، تهمس بصوت
جزع يخلع قلبه ويحرك مشاعره التي ظنها ماتت من زمن بعيد ، يادكتور الطياره علي
وصول ، ينتبه ، وجع جديد سيصل حالا ، دماء ومشرط وخيوط معقمه وصراع مع الموت
وتشببث بالحياه وتحدي مهني يطارده من فشل لفشل ومن رحيل لرحيل ، يهرع للساحه
الخلفيه للمستشفي وهي خلفه وبقيه زميلاتها وزملائها ، يعلو صوت الطائره في اذنه
وسرعان ماتكاد رياح مروحتها الهادره تخلعه من الارض تلقيه في الفراغ ريشه تائه وسط
الاعاصير ، يسكن المحرك ويهرع نبيل والممرضات وعمال الاسعاف صوب باب الطياره ويلقي
نظره سريعه علي وجه المصاب و.............. يكاد يقفز من مكانه وينسي انه الطبيب
المعالج وان حياه المصاب امانه في عنقه ، زين !!! يصرخ بصوت مخنوق ، وبسرعه تنقل
الايدي المدربه الجسد الممزق للنقاله ويجري عمال الاسعاف ومعهم الممرضات وامامهم
نبيل يهمس لزين ، الا انت ، الا انت يازين ، حرام عليك اللي بتعمله في واللي
حتعمله فيا وفي نفسك !!!
ويحدق في قطرات الدماء تتناثر من جسده علي الارض ترسم طريقه الذي لايعرف
نبيل بعد نهايته وهل هو سكه السلامه ولا سكه اللي يروح مايرجعش ، ويجري عمال
الاسعاف صوب غرفه العمليات وخلفهم نبيل ودموعه تنساب علي خديه رغما عن ارادته
وقوته تفضح حبه لصديق عمره الذي اختار يموت حسبما تصور نبيل علي يده هو دون كل
الناس ، اختار يموت علي يد صديق عمره !!!
( 21 )
ليلي
طرقات الباب اعادت اليه بعض الانتباه ، وحيدا في حجرته الصغيرة في المستشفي
ينتظر نداءات صارخه لتوقظه لينقذ مرضاه ، طرقات الباب اعادت اليه بعض الانتباه ،
يعرف تك الطرقات الرقيقه ويعرف صاحبتها ، تحرك من فوق فراشه بعدما سوي ملابس نومه
مرتبكا ، فتح الباب وجدها كالقمر وسط الليل الموحش ، ابتسمت ارتبك ، ارتبكت اكثر
لارتباكه ، تمني لو ياخذها في حضنه ، رحب بها ، اتفضلي ، همست ، انا جايه اودعك
يادكتور ، لم يفهم ماقالته ، انا مسافره الفجر وقلت مايصحش امشي من غير مااودعك ،
ليلي صرخ بصوت هامس ، مسافرة ، مدت اناملها الرقيقه لتودعه ، لايفهم ولن يفهم ،
بعد كل ماكان بينهما ، هل مابينهما كان ولم يعد ، اسئله كثيره تدور في رأسه وهو
يشاهدها امامه جميلة نضرة ، بعض الحزن يسكن ملامحها ، نعم ، بعض الحزن يسكن
ملامحها ، هكذا قرر ، حزينه هي لفراقه ، اكيد حزينه ، كأنها طعنته بخنجر في قلبه ،
بل كأنها مزقت قلبه قطع صغيره ، كأنها مزقته باسنانها ، ليه ياليلي ، نظرت له نظره
عميقه تحمل كل الاجابات ، انت تعرف وانا واثقه انك تعرف ، انت تعرف لماذا افر منك
وتعرف اني افعل مايتعين عليه افعله ، سحبت اناملها من كفه البارد واعطته ظهرها وسارت
بعيدا عنه وتركته مذهولا علي باب غرفته غير مكترثه بما اصابه وكأنها ابدا لاتعرفه ، خطواتها تبتعد تبتعد في
الممر الطويل المظلم ، وهو مازال ثابتا مكانه خلف باب غرفته المفتوح لايصدق ماسمعه
ولا ماقالته له ....
من مكان ما خفي لايعرفه يستشعر وجود زين ، نعم زين هنا ، يراقبه ويشاهد
المشهد كل ، يراقبه بنظراته الحاده التي يعرف وهجها وقت يتملكه الغضب ، زين يراقبه
غاضبا لانه لم يهجر ليلي حتي هجرته ، زين يباركها ويبارك اختيارها الصعب ، يشفق
عليها لكنه يبارك اختيارها ، يراقبه زين بنظراته الحاده وكأنه يلومه علي كل ماعاشه
وماعرضه نفسه له ، اين انت يازين ، اين تختبيء وتراقبني ، لماذا تلومني وانت اعرف
الناس بمااعيشه ومااعانيه ، النظرات الغاضبه مازالت تلاحقه ، لاتمنحه عذرا ولا
مبرر ، يصرخ نبيل ، انت حرضتها علي هجري ، انت قتلتني وهي ايضا ، ويجري صوب الباب
يلاحق خيالها الراحل بعيدا ، ليلي ، يتذكر لمساتها الاخيره وهي تودعه ، يقبض
باصابعه علي راحة كفه وكأنه يقبض علي اناملها الرقيقة ، مازال لم ينتبه ، نعم لم
ينتبه لقصاصه صغيره تركتها في كفه ، لم ينتبه لها فلم يقرأها ، بقي يحدق في ظهرها
وخيالها وهي تغيب تغيب غاضبا منها ومن زين
و....... سرعان ماتراجع داخل غرفته واغلقه عليه الباب وتمني لو لم يكن في
المستشفي ، تمني لو كان في الصحراء ليصرخ عاليا ، يصرخ من اعماقه بكل الوجع والالم
الذي اشتعل في روحه وروحه تتركه يتظلي بغيابها ويحترق ببعدها وتهجره وتختفي ويصرخ
ويصرخ بصوت محبوس لايخرج من حنجرته !!!
ليلي ........... صرخ بصوت مذبوح ، ليلي ، ليلي ، ليلي ، ليلي وتنهمر دموعه
!!توقظه نادية وهي تهزه هزات عنيفة ، اصحي يانبيل اصحي ، تهزه اعنف واعنف ، يفتح عينيه مرتعبا والدموع تنهمر منها ،
يفتح عينيه ويغلقها بسرعه ، في فراشه بجوار ناديه لايريدها تشاركه الحلم ، يكفيها الحياه كلها ، انه سره الصغير الذي
لايشاركه فيه احد ، لتأتيه ليلي براحتها ويبكي براحته ، اغلق عينيه بسرعه وكأنه
يخرج نادية من حلمه رافضا تشاركه لحظته الخاصه جدا ،تلك اللحظه التي ودعته فيها
ليلي وكسرت قلبه وادمته وابكته ، نعم وقتما قررت ترحل وتتركه وتمضي ، لحظتها لم
يبكي ، لكنه يبكي اللحظه كل يوم ...
يغمض عينيه ثانيه عل ليلي تعود له وهو يقظ مشتاق لعودتها ووجودها في حياته
، لكنها ظالمه ، ظالمه قاسية لاتزوره الا
في الحلم وتأتيه بطوفان دموع ووجع يشعل اعصابه الما ، ظالمه هي الجميله التي
يعشقها واختفت بعدما اكدت له انها تحبه وستحبه للابد لكنه يتعين عليها ترحل من اجل
نورة التي تحبها ربما اكثر منه ، نورة ، هجرته من اجل نورة وتركته يلتظي بحرمانه
منها حانقا علي ناديه زوجته لانه تزوجها هي ولم يتزوج ليلي ولانها انجبت له وحيدته
نوره ولم تمنح ليلي فرصه لانجابها فتصبح حبيبته وام ابنته ، ناديه سرقت منها
الامومه ولم تترك لها الا الحب ، ليلي التي اجتاحته بحبها فتعلق بها وعشقها
وتمناها زوجة وكاد يطلق زوجته لاجلها ويشرد نورة لاجلها ، كاد وكاد ، قرر واختار ،
صمم وتهور ، لم يكن احدا في الحياه يفلح يثنيه عن اختياره الا هي ، نعم هي التي
كسرت ارادته و هجرته وهي تحبه من اجل نورة التي كاد يضحي بامانها من اجل حبه !!!عجزت عن الاختيار يادكتور فاختارت هي ، همس زين في اذنه ، ليلي اختارت
الرحيل وانت اخترت الكوابيس والبكاء ، وليدفع كل منهكما ثمن اختياره ، مازال صوت
زين يرن في قلبه ، يتذكره حانقا عليه وحانقا علي ليلي وعلي ناديه وعلي الحياه كلها
، يعرف كل ماقاله زين ومالم يقله ، ورغم هذا يتمناها تعود وليذهب العالم كله
للجحيم ، حتي نورة ؟؟ يسأله زين ، فيغلق عينيه بقوه وكأنه يخرسه ويخرس صوته الذي
يلاحقه باللوم والغضب!!!!!
يغمض عينيه ويتمني ينام ، لتعود له في الحلم ولو كانت عودتها موجعه ورحيلها
المتجدد في كوابيسه وكل لياليه موجع اكثر ، لكنه يتمني يراها ولو ثواني قبل الرحيل
، اغمض عينيه وصمت تماما وانزلق تحت الغطاء و اعطي نادية ظهره وزين ايضا ، اغمض
عينيه اكثر واكثر وانتظرها ... انتظر ليلي تأتيه في الحلم ككل ليلة !!!
( 22 )
نونس بعض
علي سطح العقار القديم الذي يسكنا في دوره الثالث معا ومنذ سنوات طويله ،
حدقا في بعضهما البعض بنظرات وداع وادركا ان هدنة الطمأنينة التي اختلساها من
الزمن الصعب انتهت ... حزن كبير يداهمها ويؤرقهما ، خلال ايام سيعود وصفي للمدينه
الباسله وتفترق فردوس عن نجوي ، وتغلق الشقه التي لم يغلق بابها كل تلك السنوات ،
وتعود نجوي لوحدتها ونبيل لعزلته ويعود وصفي وفردوس وحيدين دون كل فروع شجرتهما
للمدينه التي حاربت فهجرت اهلها خوفا عليهم فشتتهم وكبر الابناء بعيدا عنها وعن
حضنها فلم يعرفوها مثلما يعرفها وصفي ولم يحبوها مثلما احبها ولايطربوا لنغمات
سمسيماتها وسهرات الانس علي شط القنال وفي السعيديه مثله ، صار الابناء غرباء عن المدينه
وعن وصفي ، فقط زين الذي لم يعيش فيها الا قليلا يتمني يعود لها يحارب مثل من
حاربوا وينتصر مثل من انتصروا ويستشهد علي ترابها متشبثا بوجوده فيها فتهجيره
مبكرا شد وثاق روحه لارضها والموت عليها احن عليه من فراقها ، هل هجرته صغيرا مدت
جذوره في الارض خوفا ينساها فلم ينساها ، هل الحقيبه الباليه التي حملها بملابسه
وكتبه وقبضه من ترابها حافظت علي الوصل بينه وبينها ، سيعود وصفي وفردوس للمدينه
الباسله لشقتهما الواسعه والتراسينه البحريه والذكريات ، سيعودوا لبيتهم ، بعض
الفرحه وبعض الحزن وكثير من القلق وكأنه الغربه احتلت ارواحهم فصاروا غرباء عن كل
الاماكن والمدن حتي مدينتهم الباسله ، نجوي تعدهم بالزياره وفردوس تقسم عليها برأس
كل الغاليين تنتقل لتعيش معها والبيت واسع و" نونس بعض وناخد حس بعض "
فتعدها كاذبه بالذهاب والبقاء ، ومن جديد ، تفرقت العائله التي ربط الحزن والوطن
بين ابناءها الغرباء فصاروا عائله بلا دم ولانسب ، تفرقت العائله او هكذا تصور
الجميع وقت تبادلوا الاحضان والدموع علي بسطه السلم التي طالما شهدت وصلهم ووطدت
قربهم ، تفرقوا وتصوروا الايام ستبعد بينهم وتباعدهم ، لكني انا التي اراهم من عل
، اعرف ان كل مخاوفهم اوهام لاعلاقه لها بما سيعيشوه ، انا التي اراهم من عل ،
اعرف انهم صاروا عائله واسره وهم ودم ، ومهما تباعدوا لن يبعدوا و....... جففوا
دموعهم ربما تمنحكم الايام بعض الفرحه قبل فيضانات الدموع الاتية !!!
( 23 )
ازيك ياحبيبي
مكالمه من بورسعيد ، همس لنفسه وهو يقرأ الرقم المجهول الذي يومض علي شاشه
تليفونه ، الو ، تصوره زين ، ربما هو في اجازه قصيره في بورسعيد وفرغت بطاريه
تليفونه كالعاده ، الو ، اتاه صوت فردوس ، ازيك ياحبيبي ، اهلا اهلا ياخالتي ،
صوتها يومض في قلبه بالفرحه ، معلش ياحبيبي باكلمك وسط مشغولياتك ، ياخالتي انت
تؤمري ، يقصد كلماته بحق ، يحبها كأمه بل ربما اكثر لكنه يخجل يصارح نفسه بمكنون
مشاعره تجاهها ، هي الام التي احس امومتها ، لم تبكي كلما رأته ولم تنهره لتوترها
الذي وقت طفولته لم يعرف سببه ، لم تتشاجر معه ليذاكر ويتحمم ، لم تقسو عليه بحجه
حسن تربيته ، هذا كله ماعاشه مع نجوي ، امه التي قهرتها الظروف فقهرته ، فردوس هي
الام التي شاهدها في الافلام ، حنان فياض لاينضب ، هي التي اخذته في حضنها وحمته
من غضب امه ودعت له ورقته بعد صلاتها ، هي التي اشترت له ملابس العيد رغم انف امه
التي عانت دائما من ضائقه ماليه قسّتها عليه ، فردوس هي امه وام شقيقه ، نعم زين
اخيه الوحيد ، هكذا احس من اللحظه الاولي التي شاهده فيها وسيظل هذا احساسه به حتي
يموت ، اؤمري ياخالتي ، قصت عليه ان جارتها مريضه ودارت علي الاطباء في المدينه
الباسله فلم تشعر راحه ولم تشفي ، اخبرته انها تحب جارتها التي تتعذب بمرضها وانها
عرضت عليها ترسلها له في القاهره ، تقدر تعمل لها حاجه يانبيل ، طبعا ياخالتي ،
سيهتم بها ويحجز لها عند افضل زملائه المشهورين وسيوصيهم عليها لانها من طرف خالته
الغاليه ، اصل انا باتباهي بيك وبشهرتك ونجاحك يانبيل ، يرتبك لمديحها وينهي
المكالمه سريعا وهو يؤكد عليها انه ينتظر جارتها وانه سيفعل لها كل مايمكنه واكثر
...
صار طبيبا مشهورا ذائع الصيت ، هل كنت تتصور يانبيل انك ستكون هذا الطبيب ،
لم اتصور شيئا لكني لست سعيدا ، هذا مايقوله لنفسه دائما ، هل يعرف العالم كله انه
نبغ في الطب لانه منحه كل حياته التي لايوجد بها الا ذكريات زرقاء وزوجة متيبسة
ومذاكره كثيرة ووقت طويل لايجد مايقضيه فيه الا الاهتمام بعمله ومرضاه ، لست سعيد
، كنت اتمني امنح نفسي بعض الوقت السعيد ، اقضيه مع زوجه تحبني وتحتويني وتشاركني
الخروج والتنزه ودخول السينما ، كنت اتمني امنح نفسي بعض الوقت السعيد اقضيه في
منزلي علي الاريكه المريحه امام التلفزيون احتسي شاي ساخن وقطعه كيك طازجة تصنعها
لي زوجه محبه ، كنت اتمني اكون اي شخص غير ماكنت ، الشهرة والنبوغ العلمي والتفوق
والوقت الطويل الذي امنحه لمرضاي هروب منظم من البيت الموحش والزوجه البارده
والحياه الرتيبه الكئيبه ، لست سعيد ياخالتي ، تمني يدخل حضنها ويبكي ، تمني يحكي
لها عن مشاعره ووحدته وامنياته التي بقت حبيسه ، تمني يحكي لها عن رغباته في تغيير
حياته كلها ، الزوجه والعمل والمنزل ، يتمني لكن لايقوي ، مش قادر ياخالتي لكن مش
مبسوط ، لو سمعته لحرضته يطلق زوجته الكئيبه بنت الكئيبه ويغير عمله لان المهم
سعادته ويغير المنزل لان عتبته ناشفه وضلته نار جهنم ، لو باح لها بوجعه لطيبت جروحه وسايرته في
احلامه وفتحت له طاقات الامل ، لكنه يخجل يقص عليها همه ، الم يكفيها كل ماباح لها
به في طفولته ، الم يكفيها كل الدموع التي بلل بها ملابسها صغيرا فارا من عقاب امه
لحنانها ، لست سعيد ياخالتي !!!
يحدق في شاشه تليفونه وكأنه يتمناها تطلبه ثانيه ، لو فعلت لباح لها بكل
همه ووجعه ، لو فعلت لصارحها بما يعتمل في نفسه ، مل الحياه كلها بكل تفاصيلها
لكنه عاجزا عن تغييرها ، دق رنين التليفون وهو محدق بشاشته غائبا لايري هائما في
افكاره ، تصورها طلبته استجابه لاستغاثه روحه التي ارسلها لها عبر الاثير ، انتبه
وحدق في الشاشه ، نادية !!!!
ستسألني متي ساعود للبيت ، ساخطرها ان العياده مازالت مكدسه بالمرضي واني
لن اعود مبكرا ، ولتتعشي وتنام ولاتنتظره ، يعرف كل ردودها ، ستهمس طيب وتمنح
التليفون لنورة لتهمس لابيها الذي ستنام قبل عودته للمنزل ، تصبح علي خير يابابي ،
سيهمس وانتي من اهله ياحبيبه بابي ويبقي صامتا علي مكتبه طويلا يفكر في كل شيء
ولايفكر في شيء ، سيبقي صامتا ثابتا حتي تطرق الممرضه باب الغرفه وتخطره ان المريض
مل من الانتظار فيشاور لها لتدخله وهو يهمس لنفسه ، لست سعيد !!!
ومازال جرس التليفون يطارده فيفتح الخط ويهمس ، ايوه يانادية !!!
( 24 )
انت لها
حدق في وجه المصاب محمولا علي النقاله امام ولم يصدق نفسه ، زين ؟؟ نعم هو
، زين ، اخيك وبقيتك ودمك وهمك ، نعم هو زين ، الضابط الذي مزقت جسده الاسياخ
الحديد التي انهارت مشحوذه فوق رأسه وقتما تهدمت الجدران وتهاوت بسبب الانفجار
الكبير الذي وقع هو زين ، الضابط الذي تلطخته بذلته العسكريه بدماءه الساخنه هو
زين ، هل سيخلع عنه البذله ويحتفظ بها بجوار بذله ابيه ليفوح منهما المسك والعنبر
يحكي ويقص عن الابطال وبطولاتهم العظيمه ، يهز نبيل رأسه نفيا كأن كابوس يثقب
جمجمته ويحتل تلافيفها ، لا ، لن يكون زين اسماعيل ثاني ، يحرق بغيابه قلب نبيل
ويكمل علي بقيته ويسود ايامه بغيابه ، لن ترحل يازين ، يحدق في الجسد الممزق امامه
، يدقق النظر في الوجه يبحث عن ملامحه المعروفه المألوفه التي يحبها ، ملامحه غابت
وضاعت تحت خليط من التراب والدماء الساخنة وبعض الدموع ، خليط رسم علي الوجه الذي
يحفظه شكله ملامح غريبه ، يحدق في الوجه يبحث عن ابتسامه القوة التي طالما استمد
منها قوته في الايام الصعبة ، امسك نبيل بالنقاله يوقفها ، لن يجري وراءه ،
سيصاحبه في رحلته للشفاء خطوه خطوة ، استنوا ، هل هذا الصوت العالي الصارخ المرتجف
صوته ؟؟ هل هذه الرجفة التي دوت بين جدران الممر الصامت في المستشفي تخلع القلب هي
رجفة قلبه ؟؟ استنوا ، مد كفيه يملس علي شعر زين ، كأنه ينقيه من ذرات التراب وبعض
الحصي المدفونين بين خصلاته ، مد كفيه يمسح عن وجهه التراب ، يزيله من علي جفنيه ووجنتيه
وشفتيه وفتحتي انفه ليساعد الهواء النقي يشق مساراته للرئتين المحشورتين بين عظام
القفص الصدري المهشمة تحت الجدران الثقيله الحجريه التي تهاوت فوق رأسه وجسده ،
يحدق فيه لايصدق مايراه ، زين ، يهمس ،يتمناه يفتح عينيه ويراه ، انا جنبك هنا ،
يتمناه يسمعه ، زين ، يناديه ليوقظه ليعيد بعض الوعي لرأسه ليطمئنه ، زين ، لايرد
عليه ، يقف بجواره مرتاعا ، لست طبيب ولست مصاب ، انت اخي وانا اخيك ، انت مني
وانا منك ، انا بقيتك وانت بقيتي ، رد علي يازين ، تأتي ليلي مسرعه من خلفه ،
اتحركوا مستنين ايه ، تصرخ في المسعفين يحملون النقاله ، اتحركوا بسرعه علي اوضه
العمليات ، تقترب منه وتدفعه بكفيها قليلا للامام ، يالا يادكتور نبيل ، يالا علي
اوضه العمليات ، اتحركوا ، صوتها حاسم قوي يأمرهم فلم يترددوا وهرعوا علي الارض
بخطوات ثقيله سريعه صوب غرفه العمليات ، تجري خلفهم ، تدفعه امامها ، يجري لايعرف
مالذي سيحدث ، يجري صوب غرفه العمليات لايصدق انه سيتعقم ويرتدي الملابس الخضراء
ويمسك مشرطه ويشق في لحم زين لينزع الموت من تحت اعصابه ويمنحه بعض الحياه التي
تنقذه من الموت الذي يحاصره ويتسلل تحت جلده وفي شراينه واوردته يخنق انفاسه ويغلق
عينيه ويطفيء وهج عقله ويفسد اعصابه واحاسيسه ، لايصدق مايفرضه عليه القدر ، لم
تنقذ ابيك ومات مصابا غريبا وحيدا ، ولم تفلح تشفي امك فماتت في فراشها وحيده وانت
بعيدا عنها ، الان ، امامك الفرصه ، الان تملك وتقوي ، الان زين بين يديك ، اختبار
صعب لكنك ستفلح فيه ، ستنقذه ولن تتسلل حياته من بين يديك ولا من تحت مشرطك ،
اختبار صعب ، انت له ، تصرخ ليلي ، يالا يادكتور نبيل ، يجري ويجري ، يدفع
المسعفون باب غرفه العمليات وينقلوه برقه علي منضده العمليات ويخرجوا مسرعين ،
خلفهم يدخل نبيل ، يحدق في زين علي طاوله العمليات وينسي انه شقيقه وحبيبه وبقيه
عمره ، ينسي كل شيء ويصرخ في معاونيه ، يالا ، ربع ساعه ونبتدي ، اتكلنا علي الله
، ويخرج مسرعا للغرفه الملحقه بغرفه العمليات ليتعقم ويرتدي الملابس المناسبه ،
تنهمر دموعه رغم انفه ، تنسال فياضانات حزن يترك لها المجال لتخرج من روحه التي
قويت وصممت واتكلت علي مولاها وعلمها لتنقذ زين .... مازال يبكي ويعمق ذراعيه
وكفيه ، تقترب منه ليلي ، وجودها يقويه ، وجودها يحمسه ، وجودها يشعره بالطمأنينة
، تقترب منه وترجوه يكف عن البكاء فحياه صديقه تستحق قوته كلها وعلمه كله وارادته
كلها ، ترجوه يكف عن البكاء فهذا ليس وقته ، يغطي وجهه بالماسك الطبي فلاتبقي الا
عينيه ساطعتين ببقايا الدموع ويتحرك صوب غرفه العمليات لينقذ زين ... يلمح وجه
فردوس وعمي وصفي وكأنهما يوصياه علي زين ، يتمتم بالادعيه ويعدهما ينقذ زين باذن
ربي ، و....... اتكلنا علي الله ويبدأ عمله لانقاذ الجسد الممزق امامه وكأنه
لايعرفه ولايحبه ولا يخاف عليه ولايتمني اي شيء من ربه الان وفي هذه اللحظه الا
انقاذه ....
( 25 )
اين انت يازين ؟؟
قرر يغلق عيادته ، قرر يعتزل الطب ويغير مسارات حياته ،مل من المرضي والمرض
ودموع الرحيل وترقب الامل ،مل كل هذا واكثر ، الحق مل حياته كلها ، سيتقاعد ، هكذا
قرر ، وعجبا ماقرر ، مازال في سن العطاء والحياه تنتظر منه الكثير ، لكنه مل من كل
شيء وفقد حماسه لكل شيء ولن يفلح يمنح الحياه اي شيء لو بقي علي حاله مثلما هو ،
حسم امره وقطع علاقته نهائيا بالطب ، او هكذا قرر ، لم يشر ناديه في اي من قراراته
، ستعارضه كعادتها ، كل مايقرره لايعجبها ، هو نفسه لايعجبها ، لكنها تزوجته
وانتهي الامر ، منذ لحظه زواجهما الاولي وحين اغلق عليهما الباب وبعدما سكنت بين
ذراعيه ، عرف ان الهوة بينهما سحيقه وانه تسرع في الزواج منها ولعن القدر والزمن
والحياه التي حرمته من ابيه صغيرا ومن امه كبيرا ففرضت عليه الوحده الموحشه التي
لم يجد الا ناديه لتملأ فراغها فاذا بها تزيد الفراغ فراغا والوحدة تعقيدا ، تمني
لو يخرجها من حضنه ومن حياته ويختفي بعيدا عنها ، تمني في الليله الاولي يطلقها
ويعتذر لها ويمنحها اي تعويضات او حقوق ترضيها لتخرج من حياته ، لكنه جبن يصارحها
وكذب عليها وادعي انه يحبها ومنحها جسده ورجولته وبيت امه وعفشها القديم ، وصارت
الدكتورة ناديه زوجته وصار زوجها ، هل كان يعرف معني الزواج قبلما يغلق عليهما
الباب ، لم يعرف ولم يتصور ، اتي بغريبه تشاركه حياته ، تتدخل في قراراته ، تفرض
عليه رغباتها ، اتي بغريبة تحمل اسمه وتنجب اطفاله وتشاركه فراشه وتصمم علي اطفاء
كل انوار البيت لانها لاتنام الا في الظلام الدامس ، احس حياته معها ومنذ اللحظه
الاولي وكأنهما في خندق الحرب وصافرات الانذار تدوي، احس معها بالحرب التي تنتهي
خطر وتوتر قلق ووجع ، حتي نورة ، ابنته الحبيبه وقره عينيه لم تفلح تغير مشاعره
تجاه امها ، هي ابنته وحده وكأنه انجبها من رحم القدر وحده ، صارت نورة ابنته وحده
،نعم الدكتورة ناديه امها ،لكن الدكتورة ناديه لاتخصه ولن تخصه ، فهمت بذكاءها كل
مايدور في نفسه وانها مجرد زوجه تشاركه الفراش وتعد له الطعام ولا تحتل اي مكان في
قلبه ، قبلت مشاعره وعاشت معها وتعايشت ، كثيرا تسال نفسها لماذا قبلت ولماذا رضخت
ولما استمرت في تلك الزيجه المؤلمه ، نعم زواجها بنبيل اوجعها منذ لحظته الاولي
وحتي الان ، تمنت لو احبها مثلما تحبه ، لكنه لا يحبها ولن يفعل ، المصيبه انها
اكتشفت وبسرعه انها ايضا لاتحبه ، وانهما تشاركا في زيجه لقتل الوحدة والطمأنينة ،
تشاركا في زيجه بارده منذ لحظتها الاولي وستظل ، نادية شغلت نفسها بعملها واموتها
ونسته ، هو قتل نفسه في العمل ، يتمني يؤمن لنورة مستقبل سعيد لاتعاني فيه شظف
العيش مثلما عاش ولا اليتم مثلما توجع ، غرق في العمل وافلح بسرعه يراكم الثروات
الصغيره فوق الثروات الصغيره ،العمرذهب في مراكمه الثروات والكشف علي المرضي وحب
نورة ، بمقاييس الاخرين هو طبيب ناجح ورب اسره سعيد ، وبمقايسه هو لقد بدد عمره في
زيجه فاشله وعمل مضني وحياه تسير كالزورق المثقوب في بحر يهدده كل يوم بالغرق ...
عشره سنوات مع الدكتورة ناديه والحياه بارده كئيبه ، لايمنحه فيها بعض
اللحظات القليله من السعاده الا نورة ، يتمني كثيرا لو يخطفها ويبعد عن الدكتورة
وصرامتها وبرودها ، وتمني كثيرا لو قوي وطلق ناديه ، سيطلقها ويمنحها اكثر من
حقوقها الشرعيه ، سيترك نورة تعيش معها وسينفق عليهما بسخاء شريطه يري ابنته وقتما
يحب ، سيطلق ناديه ويعيش حياته التي افسدها القدر ووجعه واختياراته الفاشله ، لكن نورة تحب امها تعشقها وتحبها ولن يقوي يكسر
قلبها ويشتت امانها ويفسد حياتها ويمنحها يتما موجعا وهو علي قيد الحياة ، لن يطلق
ناديه وسيحافظ علي المنزل واستقراره ، لن يطلقها لكنه سيغير حياته من اجل سعادته
،كفاه عمل مضني وليمنح نفسه بعض الوقت ، يمنح روحه بعض الحريه ،سيغلق العياده ويبع
اسهمه ويودع النقود في البنك بأسم ناديه ويتركها ويرحل ، سيكذب علي نورة وقت
الوداع ويخبرها بأنه عمله صار في مدينه بعيده وانه سيزروها كلما قوي ، سيخبر ناديه
انه مل الحياة معها وان لن يطلقها كرامة لنورة وسيترك لها الثروة والمنزل ونورة
ويرحل ، لماذا سيرحل ، هذا ماسيعرفه وقتما يرحل ويبعد ويختلي بنفسه التي طالما
تمني يختلي بها ...
عاد لمنزله مرحا ، حرا ، اخيرا سيعيش مثلما يرغب ، اخبر ناديه بكل ما فعله
وشرح لها انه اودع النقود بأسمها في البنك لتنفق علي نورة بسخاء ، اخبرها انه
سيرحل ، تصور انه سيرحل فعلا ولن يعود ، الغريب انها لم تسأله عن سبب رحيله ولم
تحاول تثنيه ليبقي ، الغريب انها استراحت من قراره وتنفست الصعداء ، لم تخبره ولما
تفعل ،وودعها بقبله بارده علي وجنتها تمنت تمسحها مثلما تمنت تمسحه من حياتها
،تمنته يرحل ولايعود ،تمنه ينساها وينسي نوره ويخرج من حياتهما ، ودعها بقبله
بارده وطرق الباب بعنف وسار في الشارع يحلق بذراعيه كالعصفور الذي سيتعلم الطيران
مرحا سعيدا ، وفجأ قفز زين لخياله ، راه غاضبا حزينا ، سمعه صوت مشاجرته وصراخه ،
عندما يعرف زين كل ماحدث سيتشاجر معي ، ابتسم نبيل ، وكأن زين ابيه وكأنه مدرس المدرسه
الذي عاقبه لانه لم يحل الواجب ، كأنه شيخ المقرأه الذي طالما دفس وجهه في الحائط
عقابا لانه لايحفظ الايات التي يتعين عليه حفظها ، زين هو ضميره الذي مازال حيا ،
ضميره الذي لم تفسده الحياة ولا نهم جمع الثروة ولا برود ناديه ولا قسوه الزمن ،
تمني لو لحقه زين وصعدا معا للسطح وجلسا يتحدثا ويتشاجرا مثلما اعتادا ، لكن زين
بعيد وعمي وصفي ايضا ، تمني لو سافر بورسعيد والقي ببدنه وروحه في البحر يغسل
همومه ويستريح!!!
اين انت يازين ؟؟؟
( 26 )
اوعي تموت
يجلس صامتا يراقب الشاشات وكأنه لايفكر ، لكنه لا ولم يكف عن التفكير ...
كل شيء يجري امام عينه وكأنه يعيش ثانيه ، تتابع في مخيلته اللقطات نفس
الاصوات نفس المشاعر نفس البشر ، كل شيء يجري امامه وكأنه يعيشه مرة ثانية ...
زين ... يصاحبه في كل اللقطات والمشاهد والمشاعر ..
يحدق فيه نائما علي السرير المعدني ويتمني لو يبكي ، لكن دموعه لاتطاوعه
كالعادة والمرارة تفيض من جوفه للحياه ، يحدق في زين ويتمتم بكلمات ممضوغه ويهمس ،
اوعي تموت يازين ، اوعي تموت !!!
لم يعد طبيبا ولا زين مريضه ، بل هو صديق يجاهد لانقاذ حياة صديقه الاعز ،
بل اخيه ، يجاهد لانقاذ حياته ويتشبث ببقاءه ويتشاجر معه لانه لايعاونه وكأنه
يتمني يرحل ، يتمني يصرخ بصوت عالي راعد مخيف ، اوعي تموت يازين ، يتمني لكنه يكتم
صوته مثلما اعتاد يكتم كل شيء بداخله ، مشاعره مخاوفه حبه ضعفه وجعه ، كل شيء
مكتوم بداخله يفور كبركان اوشك ينفجر !!!
يحدق في زين امامه ويتمني يبكي او يصرخ ، لكنه عاجز فيهمس بكل الرجاء
والتمني ، اوعي تموت يازين ، اوعي تموت !! ومازال الليل طويل والامنيات كسيحه
لاتجد نهارا صحوا يقويها فتتحول حقيقه مبهجه!!
( 27 )
وحلقت النوارس وحلقت
وطارت وارتفعت بعيدا عن الارض
وعادت بسرعه وقذفت ببدنها وسط الماء
وبكت وكأن احدا لن يراها
و... فعلا .. احد لم يراها ...
اشرقت الشمس وغابت ، وخيم الليل علي الحياه وادبر ، سطعت النجوم وغامت ،
غربت الشمس واتت ، ايام متعاقبه خلف ايام وهو راقدا في غيبوبة تبدو عميقة وكأنه
مات او علي وشك الموت ، لكنه حي ، مازال حي ...
اسير لحظه لايفهمها ولايعرف معناها ، هو حي ميت ، انسكبت روحه بداخله فبدا
وكأنها تستعد للرحيل ، من يراقبه يتصوره رحل او كاد ، لكنه لم يرحل ولن ، سيبقي
لان ميعاد الرحيل مازال بعيدا ، هو يعلم والجميع لايعلمون ، يتصوروه سيموت، لكنه
يعرف وهونصف ميت انه لن يرحل وان في عمره مازال بقيه تشده للحياه وتبعد ملك الموت
عن روحه ، تلافيف مخه تهذي مع خيالاته اسيرة عقله الباطن فيري احلام ويعيشها ويسمع
الحان ويغنيها ويلمح فتيات جميلات فيغازلها وتجتاحه الانفجارات فيدوس علي زناد
سلاحه ويطلق رصاصات تخيف الجبناء ، يبتسم وينادي الجميلات لتأتي، تراقصه علي ساحه
الرقص في كازينو بالاس ، تراقصه علي دقات البيانو ونغماته الدافئه ، يبتسم اكثر،
يضحك ويضحك ، يتذكر طفولته وقتما ترك البيت ورحل ، ويتذكر فرحته وقتما عاد ، فتح
الباب وصرخ فرحا ، مازالت بقايا الجدران قائمه تحتفظ بخطوطه طفولته العابثه رسمت
في الايام الهانئة شموس ومراكب ، يصرخ فرحا لان البيت الذي لم يغادره انتظره حتي
عاد ، ابيه يصرخ فرحا لانه عاد للمدينة التي تصور انه لن يراها ثانيه ، امه تبكي
بدموع الفرح التي ندرتها احتفاءا بالعوده ، كل شيء الان جميل ، كل شيء الان جميل ،
هكذا قررت الروح الحبيسه خلف الحجب داخل الجسد الوهن علي الفراش المعدني في
المستشفي الصغيرة ، الروح الحبيسه داخل الجسد الذي مزقته الجدران التي انهالت عليه
وبعض الشظايات التي تسللت من الجدران المتهدمه ولسع الدباير والخسه ، كل هذا مزق
الجسد فتهاوي وانسكبت منه الدماء الحمراء والحيويه والحياه وكاد يبرد بالموت
والرحيل ، لكن الروح ابت تغادره وصممت تبقي ، استكانت لمشارط الجراحين ورتق الجروح
والادويه السائله تتسلل في العروق تستجدي شفاء يبدو مستعصي علي الاطباء ، الروح
ترتق جروحها وتطبب اوجاعها وتهدهد المها وتكافح مع الاطباء ليصمد الجسد ويبقي ،
تؤنسه بذكرياتها وتقص عليه حواديتها وتاخذه بعيدا عن اعصاب الالم المكشوفه
الموجوعه لاحلام اكثر طمأنينه وامن ، يبتسم ويسايرها ، تسحبه من يده علي شط القنال
، تقذف بالموجيات الصغيره تحت قدميه منعشه بارده ، تحمص وجههه بلهيب شمس الصيف
فتجري في وجنيته الدماء ، تغني له علي السمسميه وتصفق فيتمايل جذعه ويتراقص فرحا
طربا فتدور الدوره الدمويه في الاورده الممزقه تشفيها وفي الشرايين المثقوبه
ترتقها وتندفع الدماء ساخنه في مساراتها فيسعد القلب وصوت البيانو يلاحقه بدقاته
المرحه وليل كازينو بالاس يؤنس ليله المشحون بالوجع والخوف ، والروح تقاوم وتقاوم
، والمقاتل الصلب العنيد النائم علي فراش الموت يستجيب للدعاء والادوية ويقاوم
الرحيل و..... صوت المعدية لبور فؤاد يناديه كمثلما طالما ناده ، يقفز من فوق
السور ويلوح للشط الذي يبتعد ويتمني يقفز وسط ملايين الفقعات الصغيره التي تتقافز
تحت الشمس الطيبه مع النوارس ويحدق في السماء الصحو البعيده مطمئنا ويجري برعونه
الاطفال علي سطح المعديه وسط السيارات ويلوح لراكبيها فيلوحوا له ، يطرق الزجاج
والابواب وينادي الصغار ليلعبوا معه ، يتمني تمطر السماء نثرات من الكاساتا
والفراوله ، يلوح بكل قوته للسفن العاليه ويتمني يحلق فوق سواريها ، وتتناثر
المياه ورزادها البارد علي وجهه فيصرخ من النشوة ، يصرخ يصرخ !!!
وينتفض الجسد المتخشب فوق فراش المستشفي ، ينتفض وكأنه سيقوم وترتبك
الشاشات وتسجل ارقاما غريبه ومؤشرات لاتفهمها ، ينتفض الجسد كأنه يقول مازلت حيا
وسأظل ، ينتفض الجسد يصارع يقاوم يناضل الموت الرحيل الافول ، ومازال الصغير يجري
علي سطح المعديه ومازالت قطرات الماء البارد ورزازها المنعش يرسما علي وجه الصغير
البريء فرحه وتحلق النوارس وكأنها تحتفي به وتتراقص الموجات الصغيره تهدهد المعديه
تتبختر صوب الشط الاخر وكأنها اوشكت تصل لبر الامان.... ومازالت المعركه مستمرة
ومازالت الروح تقاوم ومازالت تقوي الجسد لينتصر ، لكن الانتصار مازال بعيد والشط
الاخر ايضا ، و....... تعلو صافره المعديه وتحلق النوارس فوق راس زين كأنها تحرسه
وهويصارع وجسده الوهن وروحه المقاتله كل ماغدر به وكاد به يفتك ، الصافره تعلو
وتعلو فتبتسم الروح للجسد المتعب وتطمئنه هانت ، والشط التاني قرب وقربنا نوصل
بالسلامه !! وتعلو الصافره وتعلو ............... ومازال راقدا في غيبوبة تبدو
عميقة وكأنه مات او علي وشك الموت ، لكنه حي ، مازال حي ...
" نهاية الجزء الرابع ويتبع بالجزء الخامس "
هناك تعليق واحد:
مجدي السباعي
بانوراما رائعه من العشق
الوطن والحبيبه والصديق والام ولام لبديله
الجميع يجمعهم الحب والدموع
الحزن مازال هو الغالب اتمني ان اره يتقلص في الأجزاء القادمه
وانت اعطيتني الأمل /انت لها
الان تملك وتقوي ، الان زين بين يديك ، اختبار صعب لكنك ستفلح فيه ، ستنقذه ولن تتسلل حياته من بين يديك ولا من تحت مشرطك ، اختبار صعب ، انت له
إرسال تعليق