الجزء الثالث
و أغني ليه وزماني زماني ما سعدنيش
والفرحة بتواعد ولا توفيش
والليل بيطويني والآه على لساني
والحزن يخاويني ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني .. رماني .. رماني مانصفنيش
والفرحة بتواعد ولا توفيش
والليل بيطويني والآه على لساني
والحزن يخاويني ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني .. رماني .. رماني مانصفنيش
( 15 )
ماما ماتت
ماتت نجوي فجأ واغلقت صفحتها في كتاب حياة نبيل ، ماتت فجأ ، لم تمرض ولم
تمنح نبيل فرصه علاجها ، ماتت فجأ فأدرك ان الموت لايحتاج اذنه ولابراعته ولا علم
الكليه التي قضي فيها سبع سنوات ليأتي او يرحل ، ماتت نجوي فجأ ، عاد لمنزله ليلا
وجده ساكنا ، لم يسمع صوت الست ام كلثوم التي اعتادت تسمع غناءه يؤنس وحدتها ، لم
يسمع صوت نحيبها علي الحبيب الذي استشهد وترك شبابها وابنها يتلظيان بغيابه ، لم
يري الضوء الخافت لمصباح غرفتها كعادتها في تلك الساعه ، انتفضت الهواجس في روحه ،
لو عم وصفي لم يعود لبور سعيد ومعه خالتي فردوس لتصورها عندهما تشاهد فيلم السهره
، لكن البسطه مظلمه والشقه المقابله ايضا ، اوجعها فراقهما وجدد احزانها ، عادت
ارمله المقدم الشهيد ونسيت نوجه التي اعتادت فردوس تناديها بيها ، فراقهمها اوجعها
وذكرها بكل مامرت فيه وعاشته ، مره ثانيه تخلو الدنيا عليها وعلي ابنها الذيي كبر
وصار طبيب امتياز في المستشفي الجامعي منشغلا بدراسته وحياته واحلامه حسبما تتصور
، اليوم طويل عليها حتي مل منها الملل ، لم تعد تخبز مخبوزاتها وتهدي منها لخالتي
فردوس ولم تعد تشاركها تفصيل الفساتين وجلاليب البيت ولم تعد تصاحبها لسوق السمك
تسمع منها حصصا ودروس عن الشبار والصياديه وملوخية الجمبري ، تركاها ورحلا ،
وعدتهما بالزياره لكنها لاتطمح في زيارات عابرة بل تتمناهما اسرتها مثلما كانا ،
اعتل مزاجها وصحتها ، كأنها زهدت في الحياه وكرهتها ، تقضي ساعات طويله تحدق في
وجه اسماعيل معتقلا داخل الاطار الاسود وشارات الحداد القديمه التي بليت فلم
تغيرها ولم ترفعها وبقيت تذكرها بالعمر الذي ذهب ومعه احلامها وقلبها ، تفتح
خزانته وتتشمم بذلته العسكريه وتطوف باصابعها علي دماءه المتيبسه المتخلله النسيج
القديم ، رائحته تتسلل لانفها من خيوط البذله العسكريه فيجتاحها الشوق والوجع ،
تمنت تنام علي ذراعه وفي حضنه تمنت لو عادت بها الايام وعاد لها ، مازالت تحدق في
صورته ملامحه التي نسيتها ابتسامته التي حرمت منها شبابه الذي ضن علي شبابها
بالفرحه ، تمنت تعود بها الايام فترافقه في رحله فراقه ولاتعود ، تصاحبه في موكب
السماء ، اغمضت عينيها ونامت ، غرقت في النوم ، جسدها ثقيل وانفاسها بطيئه ، تحلم
وكأنها تخرج من فراشها ، وكأنها تتجمل امام مرآتها وتتعطر لحبيبها ، تحلم وكأنها
تراه علي باب غرفتها ينتظرها هادئا راضيا سعيدا ، تسمع صوته يبثه شوقه وحبه ، تسمع
همس كلماته يدوي في روحها يروي الارض الجدبه بالحزن فتثمر ورودا وفرحه ، تحب الحلم
الذي تعيشه ولاتتمني تستيقظ منه ابدا ، يمد لها اصابعه فتقبض عليها ، يسحبها خارج
الباب والبنايه والدنيا والحياه فتسير خلفه بل بجواره ، يلقي ذراعه علي كتفها
ويبتسم فتبتسم و............ ترحل نجوي لحضن الحبيب الذي طالما تمنت تعود لحضنه
لحظه واحده لكنها الان في حضنها وللابد ...
ياعم وصفي ، ياخالتي فردوس ، يازين ، ماما ماتت ماما ماتت وانفجر باكيا ،
صرخ نبيل في التليفون وسرعان مااستقل وصفي وزوجته سياره نهبت الطريق من المدينه
الباسله للعباسيه وسط الليل وقبلما يصلا كان زين قد طرق بابه واحتضنه وبكيا معا
واستقبلا معه بقيه العائله ليعيشوا معا بقيه الحزن المكتوب علي جبينهما قهرا علي
وفاه الست ام نبيل حرم المقدم الشهيد !!!!
وخلا العالم اكثر واكثر علي نبيل واستبدت الوحشه بروحه يراقبه زين قلقا ،
ينتظر منه مفاجأه غريبه يكسر بها وحدته مثلما اعتاد يفعل وقتما تستبد به الدنيا
فيتجاهل استبدادها وكأنه لايشعر به ويمتطيها عابثا بدلا من الغرق في احزانها ،
و............ حاتجوز يازين !!! صمت طويل طويل اخرس به زين انفاسه ينتظر تفاصيل
الجنون المطلق الذي يقصه عليه نبيل بمنتهي الاستخفاف !!!!
( 16 )
ربنا ينجيك ياابني
ملقي علي الارض تحت الانقاض المتهاوية دمارا وخراب ، انفاسه تقاوم الموت
تتصاعد شهيقا وزفيرا تتعثر يختنق يسعل ذرات التراب تخنق حنجرته وتغلق رئتيه
بذراتها المشتعله يقاوم ويتشبث فتتصاعد ثانيه شهيقا وزفيرا ، صوت صفارات الانذار
ودوي الانفجارات مازال يتسلل لبقايا وعيه وسط الالم الجامح الذي مزق اعصابه وجسده
وروحه ، الصوت ينبهه مازلت حيا لاترحل بسهوله لاتترك موقعك لاتنسحب من المعركه ،
عقر الدبابير لن يميتك ولو نهشوا قلبك ، صوت صفارات الانذار ودوي الانفجارات يربطه
ببقايا الحياة ، ووجه عم وصفي ايضا ، يأتيه وصفي وهو ملقي علي الارض تحت ركام
الانقاض ، يأتيه ويملس علي وجه برفق ويهمس في روحه بما ينتشله من غياهب الرحيل ،
يأتيه وصفي المحارب المقاتل المقاوم الذي طالما حارب الاعداء وانتصر ، ولتم
الاحباء وبكي ، يأتيه يناشده ، استني يازين معانا ساعتك لسه ماجاتش ، استني يازين
، يسمع صوت ابيه في اذنه في قلبه في روحه ، يلمح من بين الرموش الملتصقه بقطرات
متجلطه من دماءه الساخنه ، يلمح اشباح
تفتح الباب الموصد وتزيح من خلفه الاحجار وبقايا الاثاث المحترق ، يسمعهم يصرخوا ، لايصرخوا بل ينادوا اخرين
ليساعدوهم ، يتمني يمد يده للاشباح لتقبض عليها ويذهب معهم ، يرفع ذراعه الممزق
فلايرتفع من فوق الجسد المبعثر بالغدر ، يفتح فمه
ليأمرهما بصرامه عسكريه كعادته لكن شفتيه ملتصقتين لايخرجا اصواتا مفهومه ،
يقاوم ويشحذ كل طاقته الدفينه ليتشبث
بالحياه ، يسمع الجندي همهماته المتحشرجه ، يصرخ ارفعوه معايا ، يقترب من جسده
المبعثر ويلملم بقاياه في حضنه وكأن قوه جباره دبت في جسده النحيل ليحمل زين بجسده
الضخم مره واحده فوق كتفه ، يحلق الجسد المتشبث بالحياه الخجل من الرحيل منها قبل
الانتقام والنصر ، يحلق فوق كتف الجندي وكأنه يعاونه لينقذه ، وصفي يمد ذراعيه
بقوه الشباب الذي ولي ، ويساعد الجندي يحمل زين فوق كتفه ، يرفعه من تحت ابطه
ورأسه المدلاة في حضنه خوفا تسقط ، يقبض علي جذعه بقوة ويحمله للهواء ينفض عن وجه
ذرات التراب وعن رأسه وشعره ويهمس في اذنه بادعيه تحفظه مثلما حفظت كل الرجال
الذين حملهم وصفي من تحت الانقاض في كل الحروب ، وربنا ينجيك ياابني ... وفي
الطائرة اتصلوا بالمستشفي العسكري لتستعد لاستقباله..
وتنسكب روحه بداخله اكثر واكثر وتنزلق تختبأ من الالم الذي يعصف بالجسد
الممزق وتحمي نفسها من اعاصير وجعه و.............. صوت وصفي يدوي هامسا حانيا في
اذنه ، ربنا ينجيك ياابني ، ربنا ينجيك ويكتب لك السلامه انت وكل اللي زيك ...
( 17 )
عصير برتقال
خلع ملابسه الانيقة والقي بجسده علي الفراش المعدني في الغرفه الصغيرة في
استراحه المستشفي وحدق في السقف يتحدث مع نفسه كعادته وقتما تخلو الدنيا من
الاحباب ، يحدق في السقف ويتمني يتصل بزين ليخبره ان ليلي هجرته ، قررت تبعد عنه
ورفضت كل عروضه بالزواج منها ، يتمني يتصل بزين ليخبره ان ليلي التي كان يسبها
لانها تخطفه من زوجته بمنتهي الانانيه هي التي فكرت في نورة وضحت بمشاعرها من
اجلها وانها جميله يازين جميله جدا ولاتستحق هجومك ولا غضبك عليها ، لكن الوقت
تأخر وهو مرهق وتعب ، غدا ساتصل بزين واخبره عن ليلي ، عله يحبها ويحترمها ويكف عن
ظلمها ، غدا ساتصل بزين ، ومازال يحدق في السقف يتحاور مع نفسه ويسألها وتجيبه
وكأنه مع صديق يحبه في مقهي اعتادا الجلوس فيه ، هل اتيت لزيارة هذا الصديق لتتغير
حياتي كلها ، هل قادتني الصدفة لهذه المستشفي لاعود لنفسي ولاعثر علي ليلي وعلي
السعادة ؟؟
مازال صوت نحيبها تأثرا لرحيل احد الابطال من فوق طاوله العمليات يوجع قلبي
، يومها تمنيت لو اقوي امسح دموعها وابدد احزانها ، لكن الحزن كان يسكني ودموعي
تنتظر لحظة لتنفجر ، هل جمع الحزن بيننا ياليلي ، لماذا لم نلتقي في الشارع وقت
المطر والحياه ادفء واجمل ، لماذا لم نلتقي علي البحر وانا اجري خلف الموج وهو
يطاردني والفرحه تلون الوجود بالسعادة ، لماذا لم نلتقي في احد المقاهي تأكلين
الشوكولاته وتحتسين عصير البرتقال فاتتيك بقهوتي واغازلك ونتعارف ، لماذا التقينا
هنا ، في لحظه الوجع المتجدد ، لحظه الدموع المنهمرة ، لحظه الرحيل الدائم ، لماذا
التقينا هنا ، هل اتيتي تشاركيني الحزن ، تقاسميني الوجع ، تهوني علي قسوة الايام
... مازال يحدق في السقف ، تلك الليلة كانت طويلة والمصابين كثر ، عملنا ساعات
طويلة في غرف العمليات ، نتنقل مابين مصاب واخر ، نستخرج رصاصات غادره ونرتق
الجروح ، نمدهم الدم والحياه ، نعبر بهم من معابر الرحيل لبوابات العودة للحياة ،
في نهايه الليله
خلعنا ملابس العمليات
سعداء راضيين ، ابتسامات الامتنان للمصابين ان قرروا يبقوا معنا ويعودوا للحياة
مره اخري من بوابات فرحتنا ، لمحتها تجر ساقيها ارهاقا صوب غرفتها في الاستراحة ،
علي وجهها تعبير جميل ، ابتسامه ربما ، تلمع حدقتيها ببعض السطوع ، اسير في طريقي
ايضا لغرفتي في الاستراحه ، ساقترب منها واكلمها ، لست طبيب وليست ممرضه ، ساكلمها
لاني وحيد يحتاج ونس ، ساقص عليها حكايتي ، ابي وعم وصفي ، خالتي فردوس وامي ، زين
واخوة العمر ، ساقص عليها مااعانيه في بيتي مع السيدة التي صارت زوجتي ولم احسها
ولا احس بها ابدا ، ساقترب منها واكلمها ، سادعوها علي كوب شوكولاته ساخن خارج
المستشفي ، سنفر انا وهي بعض الوقت بعيدا عن المستشفي وروائحها النفاذة وصراع
الحياة والموت ، سنفر انا وهي بعض الوقت خارج الزمن الذي نعيشه وصعوباته ، ساتحمم
واخلع جلدي واتعطر وارتدي ملابس انيقة تليق بجمالها ، ستأتيني نضرة الوجة جميله
الملامح بشفتين ورديتين ، ستحكي لي حكايتها التي لااعرفها ، لم تعش حياه قاسيه
مثلما عشت ولم تتوجع مثلما توجعت ، ستقص لي وسانصت ، في المقابله الاولي ساطلب
منها الزواج، ساقول لها صادقا انها التي كنت ابحث عنها ، ستصدقني وتوافقني ونتزوج
، سنفر من الزمن الذي نعيشه لزمن نصنعه معا ببهجة وجودنا معا ..
مازالت تسير صوب غرفتها ومازال نبيل يتابعها ببصره ، خطواتها بطيئه ارهاقا
وخطواته سريعه اعجابا ، اقترب منها ، ليلي ، ثبتت مكانها وابتسمت ، تسلم ايديك
يادكتور نبيل انت النهارده عملت شغل عظيم ، بجد تسلم ايديك ، ابتسم ، تيجي بكره
اعزمك علي عصير برتقال بره المستشفي .. و..... بدأت القصة التي سرعان ماانتهت ،
بدأت مع كوب عصير برتقال وانتهت مع كوب اخر ، ومابينهما ادركت ليلي ان الارتباط
بنبيل مستحيل ، لن تسرقه من زوجته ولن تهدم بيته ولن تفسد حياة ابنته ، ادركت ليلي
ضرورة رحيلها عن المستشفي وحياته ، لن تبقي تحبه بعيدة وتتوجع ولن تستسلم لمشاعرها
فتفسد حياته وحياتها ، ادركت ليلي انه لابد من الرحيل وبسرعه بعيدا عن ذلك الرجل
الذي تمنت تقابله في زمن اخر في وقت اخر في حياة اخري تسمح لهما يتكاملا ويعيشا
مشاعرهما ، قررت ليلي وبسرعه تفر منه ومن مشاعره ، عندما اتاها يخبرها بقراره يطلق
زوجته ويتزوجا ، في تلك اللحظه ادركت ان علاقتهما انتهت ، تحبه نعم لكن الحب غير
كاف لتعيش معه سعيده ، لن تبني فرحتها علي اطلال جماجم ونحيب الغدر وقتما يقذف
زوجته كالحذاء البالي بعيدا ووقتما يشرد صغيرته ويكسر طمأنينه روحها وامانها ، في
تلك اللحظه ادركت انه يتعين عليها الرحيل ، حاولت تحصل علي اجازه من المستشفي لكن
مديرها رفض ، فهذا الوقت الصعب ليس وقت الاجازات ، المصابين والجرحي يتوافدون علي
المستشفي ليل ونهار والبلد في حرب ، ستبعد عنه ولو تلاصقا ، هكذا قررت ، ستخبره
بقرارها ، احبك لكني سابتعد ، ولماذا احبك لانه يستحق ولماذا سابتعد لاني استحق
حياه اكثر انسانية من الغرام الموحش المحاط بالدموع واللوم وقهرة النفس ، مابين
كوب العصير الاول وكوب العصير الاخير الذي دعته له ، عاشت سعاده مسروقه سرعان
ماانهت لحظاتها ، مااشق تعيش سعاده مسروقه تفسد عليك الفرحه والاحلام ...
من اين اتيت بتلك القوة ياصغيرتي ، يتمني يسألها وهي تخبره باصرارها علي
البعد عنه ، وهي تخبره انها ستترك المستشفي وتنتقل لاخري اقرب لمنزلها ، وانها
احبته لكن ستبتعد ولن تكون سعادتها انشوطه القهر حول رقبة نورة ، يحدق فيها لايصدق
ان الفتاه الصغيرة الجميله التي كانت تنتحب مقهورة هي ذاتها الشابة القوية التي
تخبره عن قراراتها الصارمه ، تمني لو سألها كيف اصبحت قويه ولماذا لم اصبح ، لكن
الخرس الصق شفتيه ببعضهما ، هاهي ليلي ايضا توجعه وكأن قدره في الحياه ان يوجعه الجميع
، مكتوب علي الشقاء وهذا قدري ، حاول يثنيها عن قراراها لكنها صممت بقوة اعجبته ،
لو كانت الايام غير الايام والزمن غير الزمن ، كانت تلك الشابه تملك تسعدني واقوي
اسعدها ، لكن السعاده مازالت بعيده وربما لن تأتي ابدا ... ليلي طوت الصفحة بينهما
واغلقتها ومابقي كان مجرد وجع جديد يضاف لكل الاوجاع الاخري ... ومازال يحدق في
السقف ، ربما غفي ويحلم ، ربما مازال يقظ
وهائم مع افكاره وذكرياته ، كل هذا لايهم ، مايهم ان ليلي طوت الصفحه
بينهما وانتهي الامر ، او هكذا كان يظن وقتها ..
( 17 )
انا بنت الشهيد
الوقت ليلا ، انين الجرحي والمرضي هدأ بعدما سرت الادوية المخدرة في عروقهم
وتسلل بعض النوم لاجسادهم المرهقه بالاوجاع ، تسلل نبيل من عنابرهم مطمئنا وتركهم
موصيا الممرضات بمتابعه حالاتهم واخطاره بكل تطوراتها ، تسلل لغرفته الصغيرة ،
القي بدنه علي السرير الحديدي البارد كمثل اجساد المرضي وقتما تفر ارواحهم من
اوجاعها وتترك الجسد شاحبا باردا ، تداهمه الافكار والخيالات ويتمني بعض النوم
العزيز لكنه لايأتي ولن يأتي ، يفتح التلفزيون ويبحث في برامجه الاخباريه عما يسرق
وعيه اليقظ المتوجع بحال مرضاه ، تقتحم مايا غرفته بصوتها المرتعش الغاضب ، تصدمه
ملامحها المشحوذه الوجع و وجهها البريء الغاضب وهي تصرخ وتتحدي انا ابنة البطل
الشهيد محمد المبروك ، صوتها المتهدج والدموع الزجاجيه المعلقة في حدقتيها يذبحوه
، يغيب صوتها عن اسماعه تفر بقيه كلماتها بعيدا عن وعيه وادراكه ، قولي يامايا ،
تقول مايا وتقول ، المشهد ثقيل وصوره ابيها في خلفيه دموعها ، مااقسي البشر الذي
يحولون الاب لصورة وذكري واضغاث كوابيس ، ويحولون الطفل الذي كان عاديا مثل كل
الاطفال ليتيم يتبرع الكثيرين بالشفقه له وبعض الرأفه وكثير من الحزن ، يعرف تلك
المشاعر جيدا ، يعرف تلك الملامح ، يعرف هذا الوجع ...
تصرخ بتحدي ، انا بنت الشهيد البطل محمد المبروك ........ كلماتها تدوي في
اذنه وتهبط علي قلبه بمعاولها الثقيلة تمزقه ، يتمني يأخذها في حضنه ويهمس في
اذنها بأن كلنا ابيك وانت ابنتنا كلنا ، يتمني لو ايقظ نورة من فراشها الدافيء
والبسها ثوبها الجديد واصطحبها لبيت محمد المبروك وعرفها بمايا وتركهما يلعبا معا
بالعاب الطفوله البريئه ويتشاركا الحزن الدفين ، يعرف نوعيه ذلك الحزن الدفين ،
الحزن الموجع الازرق البارد الذي يتسلل في الاورده والشرايين ويحتل الروح ، وقتما
يشعر الطفل بأنه صار بلاسند ولاحمايه ، صار محط شفقه الكبار وحزنهم ، صار وحيدا
لااحد يعرف بحق مالذي يعتمل في روحه وحزنه وجرحه ووجعه ، يعرف مالذي تمر به مايا ،
يعرفه لانه مر به ، نعم كان اصغر منها لكنه مازال يذكر كل لحظه حزن وكل ثانيه وجع
، يعرف الكابوس الذي يحتل عقله وروحه ويمني نفسه يستيقظ منه فيجد ابيه في الصاله
يقرأ الجريده مثل عادته فيناديه وقت يراه ويجلسه علي ساقيه ويهدهده ، ساستيقظ من
الكابوس لاجد ابي في الصاله مثلما اعتاد ، سيطلبني في التليفون وارد عليه ، سيقول
لي وحشتني فاقول له وانت اكتر ، اساله جاي امتي يقولي قريب ، وفعلا يجيي قريب ،
لكن التليفون لايرن وابي لايطلبني وامي تبكي وجدتي ايضا والنسوه بملابس الحداد
يتوافدن علي منزلن يبكين مع امي وتأخذني كل منهن في حضنها بقوه تهرص ضلوعي ومعلش
ياحبيبي ، واصمت وابكي واحيانا اتوجع واجري ، اكره احضان الحداد ، اكره احضان
الحزن والشفقه ، اكره كل ماتقولوه وتفعلوه ولاارغب الا في عوده ابي يأخذني لحضنه
فأطمئن وانام يمسح دموع امي المنهمره علي وجهها المحتقن فتطئمن وتبتسم وتعود
الحياه مثلما كانت ، لكن احلام الصغار لاتتحقق وتبقي جنياتها الطيبه تاتيهم في
النوم واليقظه تطيب خاطرهم لان الاحلام تبقي احلام والواقع المرير يفرض نفسه عليهم
وعلي الحياه كلها ...
امه تبكي في ركن بعيد ، النسوة اللاتي يتوشحن بالسواد يشاركوها البكاء ،
لااحد يخبره اين ابيه ولماذا تبكي امه ، ودعه ابيه قبل عده ايام ، ودعه ابيه
مرتديا زيه العسكري ووعده حين يعود في اول اجازه في نهايه رمضان يصطحبه لمبارة
الاهلي والزمالك ، لكنه لم يأتي والغيت المباراة وكل المباريات من حياته وغاب ابيه
ايضا للابد ، الحياه كلها توقفت في منزلهم وكأنهم رحلوا مع رحيل ابيه للضياع
ومستنقعات الحزن ...
انا مايا ابنة الشهيد البطل محمد المبروك باقول لهم ، صوتها يرتعش ونبراته
تختلج وقلبها ينتفض والحزن يرسم ملامحه الزرقاء علي وجه طفولتها فيسرقها الطفوله
ويبقي لها اليتم جرحا غائرا في قلبها ، يتمني يبكي ، ابكي يانبيل ، ابكي وشاركها
الحزن ، ابكي واقتسم الحزن معها ، انا اليتيم الذي كان وانتي اليتيمه التي صارت
وجميعنا في الحزن وحب الوطن شركاء وضحايا ، لكن دموعه تحولت احجارا تمزق نياط قلبه
ولاتنهمر ، يحدق في حدقيتها ، يعرف تلك النظره ، يعرف ذلك التحدي ، يعرف ذلك الغضب
، يعرف تلك الكراهيه ، الرصاصات التي تخرج من فوهات اسلحه الاعداء لاتخلق موتا ولا
وجعا ولاحزنا فقط ، بل تستجلب الكراهيه وتلوث بها قلوب الاطفال الابرياء
و"" ليه يازمان ماسبتناش ابرياء " ؟؟؟ الكراهيه التي في قلبك
يامايا ، هي الكراهيه التي في قلبي ، انا وانتي ضحايا العدو الواحد ولو تلونت
الوجوه والاشكال والاسماء ، العدو لوطننا واحد ومن قتل ابيكي قتل ابي ومن يتمك يتمني
والعلم الذي تحمليه رمزا لابيك حملته رمزا لابي وشاركتك حزنك واعرفه مذاقه ووجعه
وسمه و... باقول لهم ... ولايسمع بقيه كلماتها ، ترتسم الاحرف علي شفتيه كلمات
قالها وهو يبكي في المدرسه وسط زملائه يتوعد العدو بالهزيمه الساحقه انتقاما لابيه
، نفس الاحرف التي ترتسم علي شفتيها تتوعد نفس العدو بنفس الهزيمه ، والحق يامايا
ان الوطن لم يبخل علينا بالفرحه وانزل بالاعداء الهزائم تلو الاخري ورفع راياتنا
المخضبه بالدماء الشريفه الطاهره للاباء الغاليين لكن الوجع بقي والقهره بقيت
والحزن بقي واليتم بقي ، انتصر الوطن لنا لكنه عجز يخلع الحزن من قلوبنا الصغيرة ،
ويحكي ويحكي ، يحكي لها عن كل ماعاشه واحسه ويتصورها تسمعه ويتمني يقفز داخل
الشاشه وياخذها في حضنه ، لن تجدي فيه شوكا مثل احضان الكاذبين المنافقين ، لن
تجدي فيه صقيعا مثل احضان المزيفين ، ستجدي فيه الحنان الذي تستحقيه ياابنة الغالي
ياابنتي وابنة شريكي في الوطن والوجع !!!
يتمني يقفز داخل الشاشه ويربت علي شعرها المنسدل علي كتفيها ويطمئنها بأنه
موجود هو وغيره من محبي وعشاق هذا الوطن ، موجود وتحت امرها دائما ، لكنه يجلس علي
السرير المعدني المتراقص في الغرفه الصغيرة البارده في وقت راحته بين العمليات
الجراحيه وتشييع الموتي والدعاء للارواح الطاهره بالجنه ونعيمها ، يجلس بعيدا عنها
اميال واميال ، وفي الغرف الكثيرة التي تملأ ردهات المستشفي يرقد الغاليين ينازعوا
الموت ويفروا منه ويتمسكوا بالحياه ويتشبثوا بها لايعرفون الاقدار ومالذي تحمله
لهم وستأتيه بهم ، شرف الاستشهاد ووجعه ام الشفاء واستكمال المعارك والحروب حتي
اللحظه المكتوبه في اللوح المحفوظ ، لايعرفوا ولايعرف هو ، هو يعمل ماعليه ، ينزع
من اجسادهم الرصاصات وشظايا الدانات ويرتق الجروح والارواح ويوصل لشراينهم الممزقه
دماء علها تمنحهم بعض الحياه وبعض الامل وتبقي لاولادهم الطمأنينة ، يحاول ويحاول
، لكن القدر والمكتوب والنصيب ينفذوا فوق رأسه ورغم ارادته وكل مصاب غالي يلاقي
المقدر له والمكتوب علي جبينه !!!
ومازال يحدق في وجه مايا حزين موجوع ، ويقرر انه سيزورها وقتما يعود في
للقاهره في اول اجازه ، ابتسم ساخرا من سذاجته ، انت في القاهره يانبيل ، انت في
القاهره فعلا يانبيل !!! يري المستشفي الصغير الذي يعمل فيه علي خط النار وجبهه
القتال ، يري الصحراء تحيط به وبالمستشفي ، يري المصابين وجثث الشهداء ممزقه بذات
الدانات والرصاصات الغادره ، يري الملابس المخضبه بالدماء كمثل بدله ابيه التي
مازال يحتفظ بها في خزانة ملابسه يفوح منها عنبر الشهداء ومسكهم ، ساذهب لها غدا ،
هذه هي اخر كلمه قالها نبيل لنفسه قبلما يغرق في بعض لحظات النوم القصيره التي
سرعان ماستنتهي علي صراخ ليلي وهي توقظه ، اصحي يادكتور طواريء طواريء !!! ليلي
؟؟؟؟ يبتسم وهو نائم لان هذه الليلي مازالت قادره تشحن روحه ببعض الامل وبعض
الغرام وبعض الحياه رغم كل مايحيطهما من موات وقتامه وحزن !!!! ليلي جرحه الجديد
ووجع قلبه وذنبه الذي يحمله بوعي واراده وليذهب العالم كله للجحيم !!! الاختيار
ثمن يانبيل ، وانت قررت تدفع الثمن وتسدد كل الفواتير القديمه ، تحمل يارجل تحمل
!!!
( 18 )
روح دور علي نفسك
انت ضحية الجميع !! ضحية ابيك الذي استشهد من اجل الوطن وتركك صغيرا تتلظي
بنار اليتم ، ضحية امك التي افسدت حياتك ببكاءها وحسرتها وخوفها عليك ووجع قلبها
علي الحبيب الذي غاب ، ضحية نادية التي قبلت تتزوجك بحثا عن مأوي بعدما قهرتها
زوجه ابيها وموت امها ، ضحية ليلي التي رفضت مشاعرك خوفا علي ابنتك التي نسيتها
وسط براكين عواطفك وعشقك ، ضحية نورة التي ضحيت بحبك وهناءك من اجلها ، انت ضحية
الجميع ، هذا ماتظنه يانبيل عن نفسك وحياتك ، اليس كذلك ؟؟؟ صغيرا جالسا علي مقعد
خشبي في فصل تزأر فيه رياح الشتاء الباردة من النوافذ المكسورة وامامه زين مدرسا
مهيبا يمسك عصا كبيرةيلوح بها في وجهه وكأنه سيضربه بها ، يبتسم نبيل ساخرا مما
يقوله زين ، الحق يبتسم ساخرا لان الفيلم الذي يعيشه الان لايعجبه وليس حقيقي ،
انت تحلم يانبيل تحلم ، استيقظ واخرج نفسك من تلك الحصة السخيفه التي يقرعك زين
بكلماتها علي راسك ، استيقظ يانبيل استيقظ ، لست تلميذا وزين ليس مدرسك ولاولي
امرك ولايملك يضربك بالعصا لاتخاف منه ولا تسمع كلماته السخيفة ، كل ماتعيش ليس
الا كابوس سخيف ....
استيقظ يانبيل ، يهمس التلميذ الصغير لنفسه وجسده يرتعش من البروده والهواء
يمزق وجهه بسياطه اللاسعة ، احنا صحيح بنلعب لكن اللي بقوله لك ده كلام بجد ، كلام
بره اللعبه ، يلوح زين بالعصا في وجهه وهو يشرح له مايعيشاه معا في تلك اللحظة ،
يحدق التلميذ الصغير في وجه زين المدرس ويتمني يصرخ فيه ، لماذا تؤنبني ؟؟ هاانت
تؤكد لي انك ضحيه الجميع حتي انت ، انا اؤنبك واوبخك وانت لاتستحق ، انت الضحيه
والجميع جناة ظالمين قساة ، فلتشكو منا جميع للحياه واطلب منها تعصف بنا جميعا ،
تنتقم منا لك وتطيب خاطرك وتهدهدك وتصالحك ، انت الضحيه وجميعنا الجناه ، هل هذا
مايسعدك ؟؟ استيقظ يانبيل استيقظ ، اللعبه التي تلعبها رغم انفك مع زين ليست الا
لعبة في كابوس ، يقترب منه زين المدرس المهيب ، يقترب منه صغيرا علي المقعد الخشبي
يرتعش بدنه من البروده والهواء اللاسع ، يقترب منه ويمسك ذراعه ، قبلما تستيقظ
احفظ كلماتي ورددها علي اسماعك ولاتنساها ابدا ، احفظها عن ظهر قلب ، قبلما تستيقظ
سمع لي كلماتي وافهم معانيها ، لاالومك لاني احب اللوم وتبكيت الاخرين ، وانت ايضا
لست اخرين ولا من ضمنهم ، الومك لاني احبك واشفق عليك من نفسك من اختياراتك من
الجب الذي تغرق نفسك فيه بنفسك ولاتسمح للحياه تنتشلك منه ، لست ضحيه للجميع ولا
ضحية لاحد ، انت مثل كل ابناء الحياه يعيشوا حياتهم باقدارهم باختياراتهم بمصيرهم
، انت مثلنا جميعا عشت ماقدر عليك ، لكنك استسلمت للقدر ولم تحاول مع نفسك ومعه
تخرج من الجب وتنقذ نفسك ، مازال التلميذ الصغير يرتعش من البرد ومازال المدرس
المهيب يلوح في وجهه بعصاته الكبيرة فيرتجف قلبه رعبا وفزعا ، الكلمات التي يلقيها
المدرس علي اسماعه اكبر من عمره واصعب علي فهمه من الفهم ، ينفجر التلميذ الصغير
في البكاء ، يرتفع صوب نحيبه ، تنهمر دموعه ، يرتجف ويرتجف ، يقترب منه المدرس
المهيب اكثر واكثر ، يلقي بعصاه بعيده ويحتويه بين ذراعيه ويهدهده مثلما كان يفعل
عم وصفي وقتما عصفت به الحمي والمرض ، يحتويه بين ذراعيه ويطمئنه ، لست وحيدا انا
معك دائما واحبك واخاف عليك ، لكنك لاتساعدني ولاتساعد نفسك ، لست وحيدا انا معك
دائما لكنك انت الفار من نفسك ومني ، انت الفار من حياتك ومن الحياه عموما .....
استيقظ يانبيل استيقظ يانبيل ، ماتعيشه كابوس موجع ، نعم ، الحضن الذي
احتواه فيه زين اوجعه اكثر من كل الكلمات المشحوذه والدرس القاسي ، الحضن الذي
احتواه فيه زين اوجعه اكثر واكثر ودموعه تنهمر بحق علي وجهه تلميذا صغيرا وفوق
مخدته التي ينام عليها والكابوس يعصف بعقله الباطن ويخيفه ، استيقظ يانبيل ، يهمس
المدرس المهيب في اذنه وهو في حضنه ، قبلما تستيقظ اسمعني جيدا ، لست ضحية ولست
مظلوم ولست عديم الاراده مشكلتك الاكبر انك لم تجد نفسك بعد ، كل هذه الحياه
والسنوات والاختيارات والتمرد والحزن ، كل هذا عشته ولم تجد نفسك بعد ، بقولك ايه
يابلبل ، روح دور علي نفسك ، فجأ تحول المدرس المهيب لتلميذ صغير يجلس بجواره علي
المقعد الخشبي في اخر الفصل ، تحولا صديقين يتجاورا المقعد الخشبي والاسرار ، يتجاورا
المقعد الخشبي والمنزل ويتشاركا الحياه ، بقولك ايه بلبل ، روح دور علي نفسك
وكفايه تضييع وقت ، تجف دموعه بسرعه ويبتسم ويتمتم بكلمات ممضوغه لاتفهمها ناديه
حين تسمعه يهذي وسط الليل كعادته ، روح دور علي نفسك ولما حتلاقيها حتستريح
وتريحنا كلنا !!!
وتدخل نجوي رأسها من باب الفصل وتنادي نبيل ، تعالي ياحبيبي يالا حنروح ،
وتدخل ناديه براسها من باب الفصل وتتشاجر معه لانها تنتظره وكعادته يتأخر عليها ،
وتدخل ليلي رأسها من باب الفصل وتلوح له تودعه وتعتذر له عن كل الوجع الذي اوجعته
له ، وتتسلل نورة من باب الفصل وتقترب من التلميذ الصغير وتلقي نفسها في حضنه
وتقبله من وجنتيه وتمسك قلم ملون من اقلامه وترسم شمس وقمر ومنزل ملون وقلب تكتب
فيه اسمه واسمها ويسكن كفها في كفه وتقبض اصابعها الصغيره علي اصابعه الصغيرة
وتنتظره ليصاحبها في طريقها الطويل ، وتدخل فردوس رأسها من باب الفصل وتدعو له
بالسلامه والصحه والستر وراحه البال و............... يبتسم الصغير ويتمني لو ظل
نائما للابد ودعاء فردوس يغمر روحه بالطمأنينة والتفاؤل و..... استيقظ يانبيل
استيقظ وقت الاحلام انتهي وحان عليك تعيش الحقيقه ، يهمس زين له ، دور علي نفسك
يابلبل ، دور علي نفسك !!!!
ويفتح نبيل عينيه ويغلقها ويفتحها ويغلقها وتتسلل اليقظه والوعي ببطء لعقله
المرهق وصوت زين يلاحقه ، دور علي نفسك ، دور علي نفسك و.... يغمض عينيه ويعود
للنوم بسرعه كأنه يهرب من صوت زين الذي لايتركه يهنأ بنومه ويلاحقه بصوته القوي ،
دور علي نفسك يانبيل ، دور علي نفسك!!!!
( 19 )
لاتغلق الباب ، سوف نعود
شرح له زين ، مازلت اذكر كل تفاصيل تلك اللحظة ، رغم صغر سني وقتها لكني
مازالت اذكر كل وجعهها ، عندما تتحول حياتك لحقيبه سفر بالية محشوة بتفاصيل ايامك
، عندما يتحول بيتك لصور في خيالك تذكر نفسك بها كل يوم خوفا تفقدها فتضيع وتنقطع
صلتك بالارض والطمأنينه للابد ...
" لاتغلق الباب ، سوف نعود " عباره يرددها مهجرين الحرب بمنتهي
الرضاء وهم يودعوا منازلهم وارضهم وذكرياتهم ، يقص زين علي نبيل وهما جالسين علي
سطح العقار القديم الذي يتجاورا سكني دوره الثالث والاخير ، يقص عليه ماعاشه
ومايذكره ، سنوات طويله قضياها معا،منذ
طرق العم وصفي باب شقه الست ام نبيل في نهايه الستيتنيات و اخبرها انه جارهم الجديد وانه ترك بيته وحاله
وماله في المدينه الباسلة خلف ظهره لان
الاوغاد لايقوون علي الجيش فيتشطروا علي المدنيين ، وكان لابد من الهجره وترك
البيوت والارض والمدن خاويه الا من حماتها لتخفيف الضغط عن الجنود والضباط
والقياده السياسيه المنشغله بتأمينهم اكثر من انتباهها للحرب الدائرة ضروس لاتنقطع
، كان لابد من الهجره حتي لاينشغلوا بنا وبهمنا وكفاهم المعارك التي لايكفوا يخوضوها
والحرب الدائرة بقوه وعافيه حتي لو كانت القاهره وقاطنيها لايعرفوا بحق ابعادها
ومعناها ومنشغلين باسئله سفسطائيه عن ميعاد الحرب التي لايعرفوا انها تدور فعلا ،
ادركت نجوي ان جيرانها الجدد من اهل المدن
التي قدرت عليها الحرب وفرض عليها دفع الثمن الغالي ، اوضح لها العم وصفي انه ترك
بيته خلفه مفتوح الابواب والنوافذ لايخشي سرقته ولا احتلاله بالحيوانات الضاله ولا
تلف مفروشاته ، ترك خلفه الابواب مفتوحه لاننا سنعود ، ابتسمت ودعته لاحتساء
القهوه معها ، وعدها يأتي في يوم اخر بعدما تعود زوجته من عملها ويعود ابناءه من المدرسه
ويلتقوا جميعا ، ودي ايام صعبه يامدام لازم نحط ضهرنا في ضهر بعض ونتسند علي بعض
ونعديها ، يعرف قصتها ، ولانه يعرف قصتها قرر لاينتظر حتي تأتي زوجته من عملها
وتطرق باباها معه ، قرر يبادر بالتعارف ومد الايدي الطيبه للقلوب المنهكه ، قرر
يقتحم حزنها وعزلتها وسرعان ماسيعتبرها اخته التي لم تلدها امه ، وستعتبرها فردوس
شقيقتها الصغيره التي تشبهها تماما ، يعرف قصتها ، قالوا له الشقه اللي انت مأجرها
قدام شقه حرم المقدم الشهيد ، تمتم العم وصفي بكلمات لانعرفها وكأن الشهداء
يطاردوه من شوارع بورسعيد لشوارع العباسيه ، كأنه لم يستكفي من الشهداء ووجع القلب
والروح عليهم فينتقي من بين الوف الشقق والبنايات ، هذه العماره القديمه العريقه
ويستأجر الشقه رقم 5 التي يجاورها علي نفس البسطه الشقه رقم 6 التي تعيش فيها الست
ام نبيل حرم المقدم الشهيد !!!!
زين اخر عنقود اولاد عم وصفي وخلفة الشيبة ، تصور عم وصفي وخالتي فردوس
بعدما دخل اصغر ابناءهما الجامعه ودخلت فردوس عتبات الاربعين ، تصورا ان الحب
العميق بينهما لن يثمر الا فرحة لكن رحم الست فردوس احتضن فرحه اكبر فاخبرت زوجها
خجله بأنها حبلي وحنعمل ايه ، هل قال لها العم وصفي وقتها انه كاد يطير من الفرحه
لان اولاده كبروا وخرجوا من تحت جناحه فكاد يشعر بأنه لاقيمه له في الحياه وانه
كان يتمني ذلك الجنين يمنحه رساله جديده وامل جديد ومعني جديد لحياته ، احتضنها
وانهال عليها بقبلاته فرحا بالهبه التي منحها له المولي القدير وسرعان مااتي زين
بوجه الجميل وملامحه المنمنمة وابتسامته ليسعد قلب عم وصفي وزوجته خالتي فردوس ،
احساه لعبتهما الجديده في الحياه و........... وصار " زين " زينه
حياتهما وفرحه ايامهما ...
وقبلما يعرف زين معني المدينه الباسله ويسمع من ابيه اساطيرها واسرارها و
انتصاراتها الغاليه علي اسرائيل وقبلها انجلترا وفرنسا وقبلما يتعرف علي ابطال
المقاومه الشعبيه اصدقاء ابيه واحباءه ، قبلما يفهم اي شيء ، جمعت الست فردوس
ملابسه والعابه الصغيره في حقيبه باليه واخبرته انه مسافرين و....... ترك زين
المدينه الباسله خلف ظهره وتوجه صوب العاصمه الصاخبه القاهره المزدحمه المتوترة
المدينه المهزومه التي ادمن ابناءها الصخب مواراه لاوجاع قلوبهم ومراره الهزيمه
التي كسرت فرحتهم ، وعاني عم وصفي واسرته الامرين في القاهره ، تنقلوا بين شقق
كثيره ، احياء يكرهوها لبرودها واحياء يعجزوا عن التواصل مع اهلها المتربصين بالغرباء
المتلصصين علي احوالهم ، مدينه يملأ قلبها الشك تجاه الغرباء وكأنهم اعداء فارين
من جبهه القتال ينوون باهلها شرا ، تنقل عم وصفي واسرته بين شقق كثيره حتي استقر
به المقام في العباسيه ، شقه رقم 5 امام شقه رقم 6 التي تسكنها الست حرم المقدم
الشهيد ، تفاءل وصفي بالشقه والعقار القديم ، ذكره ببنايات الشوارع التي يحبها في
المدينه الباسله ، البنايات صاحبه التاريخ التي بقت اثار اقدام قاطنيها ومحبيهم
عالقه محوا علي درجات السلالم القديمه ، التي مازالت اثار الاصابع وقبضات الاكف
علي درابيزن السلالم الخشبيه المتأكلة ، احب عم وصفي البنايه القديمه والحي ، احسه
حميم عريق صاحب تاريخ مثل مدينته الباسله وشوارعها التي تحكي وتقص عن التاريخ
الذيي عاشته ، احبها في البدايه وحين عرف ان شقته تحمل رقم 5 تفاءل خيرا لانه ذات
رقم شقته التي تركها وبابها مفتوح ينتظر عودته ، وحين عرف ان جارته حرم المقدم
الشهيد ابتسم وعرف لماذا قادته قدميه لتلك البنايه ، عرف انه يحمل علي كتفيه دين
لتلك السيده واسرتها التي لايعرفها لكنه سيعرفها ، هي دفعت الثمن الغالي من اجل
التراب الغالي ، وعليه واجب صوبها واسرتها ، يعوضهم الفقد والوجع واليتم والغياب ،
يعوضهم الوحده والعزله والانكسار الذي يعيشوه لايدرك من حولهم فداحه الثمن الذي
دفعوه ، ومن يقوي يعرف اكثر مني انا ، انا الذي حملت الجثث الساخنه لمثواها الاخير
، ولقمتهم الشهادتين وربطت رؤوسهم بمناديل طويله مزقتها من قمصاني وملابسي
الداخليه ، انا الذي شاهدت الرجال تحلق صوب الفخر وتعتلي فرس النبي صوب السماء
وتأتي بطولات انتحاريه لتمحو الحزن من علي وجه الوطن وتمحو الهزيمه من سجلاته
العسكريه ، انا الذي دفنت الاحباء اكثر من اشعر بحزنك ، تعالي اقص عليكي كيف كانوا
يسعوا للموت ببطوله واستبسال ، كيف كانوا يموتوا فرحين بابتسامات تنير الليل
الحائل فجرا حاني ، انا اكثر من سيشعر بها تلك الارمله الوحيده الحزينه وابنها
الصغير ، صار واحد من اسرتي وهمي وصارت واحده من دمي ولحمي ... و..............
ادرك ابن المدينه الباسله ان ديون الشهداء تطارده وستظل تطارده حتي بعدما تصور انه
هاجر من مدينته للعاصمه ليعيش وسطها الايام الضروريه حتي يعود لبيته بعدما ترفع
رايات النصر خفاقه علي ضفتي القناه ، لكن الشقه 5 وارمله المقدم الشهيد اوضحا له
ان العطاء مستمر والحب ايضا وان شهداء هنا شهداء هناك والجميع مكلوم يدفع ثمن باهظ
حتي يتحرر الوطن من هزيمته ويمحي العار و................... انا جاركم الجديد ،
عم وصفي ، في مقام والدك يابنتي وانت في مقام كل الغاليين وقلت اتشرف بيكي مؤقتا
لغايه مانتعرف وبحق !!!
واجتاح الدفء قلب نجوي وحياتها بعدما هاجرت اسره عم وصفي من المدينه
الباسله لجيرتها بعطاء وحب لم تتصور تصادفه ولا تعيشه بعدما رحل الحبيب الغالي
المقدم الشهيد ، وصار لنبيل اخا اسمه زين ، زين الابن الاصغر واخر العنقود في
عائله العم وصفي ، تائه بين اشقاءه الاكبر وشقيقاته لايجد لنفسه ممكانا ، طالما
شعر وحده تعصف بروحه ، رغم كل الاهتمام الذي يمنحه له الاب العجوز ورغم كل القصص
والحواديت والارواح وصوابع الموز وصواني الصياديه التي يصنعها له بيده ورغم رحلاته
النهارية علي شط القنال والذكريات التي يقصها عليه وهو يقبض علي كفه الصغير ، رغم
كل هذا ، بقي وحيدا غريبا حتي التأمت روحه بروح نبيل ، لم
يتصادقا بل صارا اخوه من اللحظه الاولي التي تعارفا فيها ، احتل زين منزل نبيل
ففرحت نجوي لان ابنها اليتيم وجد من يؤنس وجوده وسط دوائر الاحزان التي يعيشها منذ
رحل ابيه وتركه يتيما وحيدا يعيش في عالمه الموصد مع ذكرياته الضبابيه وخيالاته
المقهورة عن اب رحل واخوه لم يأتوا وام تبكي وفرحه لايعرف بحق مذاقها ويتصورها
فلايفرح !!!
" نهاية الجزء الثالث ويتبع بالجزء الرابع "
هناك تعليق واحد:
مجدي السباعي
من حزن الي حزن بتفاصيلك الرائعه
ولم تنسي الحزن في الحب
وفقدان الحبيب التي تكسو كل كتاباتك والتي تعبر عن وقعنا جميعا من منا لم يكتوي بالحزن في الحب
من منا لم يترك حبيب لظروف الحياه
جرعه كانت مطلوبه في منتصف الأحداث
ثم
عدتي لتنقلينا في مرحله اخري
والتي اتوقع ان تكون محور القادم
سد الين ورد الجميل
من واقع كلماتك
..... ادرك ابن المدينه الباسله ان ديون الشهداء تطارده وستظل تطارده حتي بعدما تصور انه هاجر من مدينته للعاصمه ليعيش وسطها الايام الضروريه حتي يعود لبيته بعدما ترفع رايات النصر خفاقه علي ضفتي القناه ، لكن الشقه 5 وارمله المقدم الشهيد اوضحا له ان العطاء مستمر والحب ايضا وان شهداء هنا شهداء هناك والجميع مكلوم يدفع ثمن باهظ حتي يتحرر الوطن من هزيمته ويمحي العار و................... انا جاركم الجديد ، عم وصفي ، في مقام والدك يابنتي وانت في مقام كل الغاليين وقلت اتشرف بيكي مؤقتا لغايه مانتعرف وبحق !!!
إرسال تعليق