مازالت كل الاصوات تختلط في رأسها ....
بائع "اللوكومادس " ينادي عليها في الساعه الاولي من النهار ، يحملها كراته المسكره فوق صنيته النظيفه مغطاه بغطاء ابيض ناصع و "يالوكومادس " يافطار البشوات !!!
" عنابي ياعنابي ياخدود الحليوه "
" المدمس ، المدمسسسسسسسسسسسس " بائع الفول يجر خلفه عربته الخشبيه الصغيره ترقد عليها قدرتين بواحده منها " اللووووووز" وفي الثانيه " البليلللللللللللللة " يصرخ وينادي ياقليل البخت ياجميل الطعم يا "مدمسسسسسسسسسسسس "!!!
" جوروبببببببببي ، ايس كريم ، جوروبيييييي ، كلوكلوووووو "
" يااكل الضيوف ياملوخيه ، يامجنونه ياطماطيييم "
" ياموووووولعب في البحر بتلعب " بائع السمك يحمل مشنته الخوصيه يصرخ علي بضاعته " ياموووووولعب وفي البحر بتعلب "
كل الاصوات تختلط في رأسها ... كانها تسمعهم جميعا يصرخون في اذنها ....
" يافونس يااكل البهوات ، ياهندي ياكل الاحبه ، ياتيمور جه عليك الدور "
" مولعه بنار الفرن يابطاطاااااااااااااااااا "
" ياطيوووووووووور ياطيوووووووووور "
" وحمار وحلاوه وعلي السكين ، وحمار وحلاوه وعلي السكين " عربه بطيخ يجرها حمار عجوز يشارك البائع وابنه تهليلهما فيصرخ طربا " ها هها ها هها - ياحمار وحلاوه وعلي السكين ، ياحمار وحلاوه علي السكن "
تبتسم ، خيل اليها انها ابتسمت ، كل الاصوات صاخبه تدوي في اذنها ، اين كفيها تسد بهما اذنها !!!!!
لاتجد كفيها مازال الصوت عاليا مدويا .........
" اصحي يانايم .. دوم ددوم دوم ... وحد الدايم .. دوم ددوم دوم " !!!
" الفجافيج ....... الفجافيج ... ياعصافير الجنه يافجافيج "
" ليالي الانس في فينيا "
" ياحمام ومشوي واطعم كمان ، كوزين والتالت هديه للحبايب كمان، ياحمام ومشوووووووووووي "!!!
" سمرا ياسمرا "
" ياريحه الحبايب يافراولة ، ياعسل ودايب يافراوله "!!!!
هل مازالت نائمه في الغرفه البعيده في العشه البوص !!!
لماذا تدوي الاصوات في راسها ولاتصمت !!! هل تحلم ؟؟؟ سالت نفسها وتيقنت انها تحلم ، فكل الباعه الجائلين اقتحموا منامها وصرخوا علي بضاعتهم في اذنها ، غاضبه هي من ضجيجهم ولن نشتري شيئا !!!!!! سانادي ماما وابكي لها واصرخ " مش عارفه انام " ستغلق عليها الباب وتخرج للباعه تتشاجر معهم " ايه مافيش دم شويه من هنا ، البيه نايم " ماما تكذب علي الباعه ، فالبيه رحل منذ زمن بعيد ولانعرف عنه شيئا ، لكن ماما تضع اسمه في كل جمله مفيده تقولها ، فهيبه البيه ستردعهم ، هيبه البية ستخيفهم وتعيش هي وابناءها الصغار التي ولدوا جميعا من بعدي تعيش في امان !!!! لقد ناديت ماما ولم تحضر ، والباعه المجرمين لايكفوا عن الصراخ في اذني !!! سابكي والله ، لقد بدأت ابكي ، نعم هذا النحيب نحيبي ، وهذه الدموع التي تتساقط ساخنه فوق وجهي المحروق بنار شمس اغسطس في راس البر هي دموعي!!! لكن ماما لم تاتي !!!
نظرت لها الممرضه واشفت عليها ، جثه تتنفس بالاجهزه الصناعيه، صدرها يعلو ويهبط بالماكينات ، جسدها اكلت تقرحات الفراش نصفه ، شهور ثلاث وهي في غيبوبه عميقه لم تفيق منها ، اولادها رحلوا وتركوا ارقام تليفوناتهم للاتصال بهم وقت الضروره !!! حدقت فيها الممرضه ولم تصدق عينيها ، دموع تسقط من عينيها المغلقتين ، كانها تبكي ، ستذهب فورا للطبيب ، ستخبره ان المريضه ستفيق ، هي تبكي ، الدموع تتساقط من عينها ، نظرت للمريضه وقررت البقاء في مكانها ، ساذهب له ، سيوبخني ، سيطردني من غرفته ، سيغضب لاني ايقظته في الثالثه صباحا ، سيلعن ابي وابوالمريضه ، انها ليست مريضه ، انها جثه لاترحل وتخلي فراشها لمريض يستحقه !!! بقيت في مكانها تراقبها ، لانها تبكي ، نعم الجثه تبكي ، لن تخبر الطبيب سينهرها ويهز راسه بتعالي ويتركها ولايشرح لها الظاهره العلميه التي تراها اماما ، جثه تبكي !!! وانشغلت عنها بالتفكير في اي شيء اخر !!!
مازالت الاصوات تصرخ في اذنها ، كل الاصوات التي سمعتها في حياتها ، لاتفهم مالذي يحدث ، لماذا لا يصمتون ؟؟؟
"تحيا الجمهوريه العربيه المتحده ، تحيا الجمهووووريه المممممه الممممحده ،تحيا الجمممممهووريه المممممه الممممحده "
"روبابيكييييييييييا ... بيكيااااااا ... اي حاجه قديمه للبيع ... بيككككككيااااااااااا "
" الملك لك لك ياصاحب الملك ، الملك لك لك لك ياصاحب الملك " ...
" بريلا بريلااا بريلليه ، بريلا بريلااا المرسال جالكم عايزين مين ؟؟"
تبتسم او هكذا تظن ، كانت تحب تلك اللعبه مع صديقات في الشارع ، تكاد تنطق تغنيها معهم ، هي تسمع اصواتهم الرفيعه الصاخبه يصرخون فرحا " بريلا بريلااا بريلليييه " لكن لسانها جامد مكانه ، لايتحرك لاينطق ، تحاول ثانيه لكنه لاينطق كانهم استبدلوه بخشبه لاتغني ، حزنت ، ستتابعهم يلعبون وستسمع غنائهم ولن تغني معهم...
" سسسسسسسس ... بلدي ياسسسسسسسسسس ... سسسس ... بلدي ياخسسسس"
" سسسسسسسس .. يابو قلب كبير .... يابلدي ياخسسسسسس "
" تسعين ميه .... نطوا عليكم الحراميه "
" فتحي ياورده قفلي ياورده ... هنا فيونكه وهنا فيونكه "
صخب وضجيج واصواب متداخله لاتصمت ، راسها يوجعها ، اطفال الجيران ، بل هي واطفال الجيران لايكفوا عن اللعب والصراخ ، لهو بريء ، ضحك ، مشاجرات عنيفه ، صلح سريع ، اصمتوا ارجوكم ، سانادي لكم ماما تتشاجر معكم ، لكن ماما في شغلها وابي رحل ولم يعد وجدي نائم لانه عجوز وماما تركتني وحدي واطفال الجيران في المنزل وقت الغاره "
" غااااااااااره .. غاااااااره .....طفوا النور .. طفوا النوووووووور"
تتسارع دقات قلبها فزعا ، انا في البيت وحدي وقت الغاره ، ماما خرجت وتاخرت وجدي نائم والخادمه لاترد علي ندائاتي تقف علي سلم الخدم تتسامر مع صديقاتها وصبي المكوجي ..... وانا وحدي والغاره مخيفه ....
" طفي النور ياوليه ، احنا عساكر دوريه ، طفي طفي ، طفي النور ياوليه ،احنا عساكر دوريه "
تضحك ... تضحك بصوت عالي ... يهتز بدنها ... اشقياء اطفال الجيران ، يعلقون فروع الشجر خلف ظهورهم ويلبسوا شرابات في رؤوسهم ويسيروا بخطوه عسكريه منتظمه يغنوا صاخبين كانهم كتيبه دفاع مدني وقت الغاره ، مازالت تضحك !!!
" دوم .. دوم دوم ... دوم ... دوم دوم دوم .... مادايم الا وجه الله ... وحدوووووووووووه .. سبحان الله ولااله الا الله " صراخ وعويل وصخب وضجيج .... تذكرت ،هذه دقات الطبول التي سبقت خروج نعش جدها من الجامع ، دقات طبول تقول للبلده كلها ان الجنازه ستبدأ ، فيترك الجميع كل ما في ايديهم ويهرلوا للسير في الجنازه تسير خلفهم النساء تصوت وتلطم وتشق ملابسها ويضربها الرجال لتعود للمنزل لكن النساء ترفع عقيرها بالصراخ اكثر واكثر ولاتعود حتي وصل الجثمان للمقابر ....
و" ياخرابي ياسوادي ياحزني ، ياسنه سودا ياخراب بيتك يابيه ياخراب بيتك "
مازال الصراخ عاليا ،لكن صوت انين وبكاء وعويل مكتوم ارتفع عنه وغطي عليه ....
تسمع نغمات حزينه لاتميز كلماتها " قالوا ليه النعش مايل ، قلت ماليش ابن شايل " ، " قالوا ليه النعش حزين ، قلت ماليش ابن طويل وسمين " ، " قالوا ليه النعش زعلان ، قلت ادي اخر خلفه النسوان "
تسمع صوت صراخ عنيف ، غناء حزين علي دقات اكف مرتعشه ، انها الندابه تعدد في ماتم الجد ، مات وتركها وامها و"البيه " الذي كان زوج الام وابيها رحل منذ زمن بعيد ولم يكترث بحالهم لم ياتي ولم يعد ،حتي يوم مأتم الجد ...
امها تقف في المأتم وحدها تشحذ اولاد العم والخال ليقفوا علي مدخل الصوان لياخذوا العزاء في الجد الذي مات وترك خلفه الابنة تطبخ للمعزين ولم يترك ابن يشيل النعش المائل ويتقبل العزاء من الرجال في الصوان ...
" ياحبيبي ياجدي ، ياحبيبي ياجدي " تبكي جدها الحبيب الذي مات وقت الغاره ، لا بعد الغاره ، لاتذكر متي مات ، لماذا لاتذكر ، اين عقلها المتوهج لاينسي شيئا ، همت تقوم ، تساءلت اين انا ، لماذا انام منذ زمن طويل ولا استيقظ ، اين عقلي ، نزعوه من راسي ؟؟ كنت اتذكر كل شيء والان لااتذكر شيئا ، بل اتذكر متفرقات من ذاكره مليئه باحداثها ، اين عقلي وذاكرتي بل اين انا ؟؟؟
مازالت الجثه موصوله بالاجهزه ، كل مؤشراتها الحيويه سليمه ، جثه عظيمه تصلح للتبرع بكل اعضاءها لصالح قليلي الحظ الذي اجتاح المرض ابدانهم ويهددهم بالموت ، لكن تلك الجثه ستنقذهم من الموت المحقق ... " هي مستنين ايه " سالت الممرضه نفسها ، " رقدتها طالت " لم تعتاد الممرضه من مرضي الغيبوبه العميقه كل ذلك الوقت ، يباغتوها ويرحلوا عن الحياه فجأ ، لكن تلك الجثه التي كانت سيده ولم تعد صامده مكانها لاترحل ، الاجهزه لاتقرا مؤشرات رحيل ، كانها ستعود للحياه ، هزت الممرضه راسها " قادر علي كل شيء " هذه الجثه وظيفتها التي تتقاضي راتبها الكبير من اجلها ، هي لاتغادر غرفتها ولاترفع عينها من عليها ، تتابعها ، وظيفتها تتابعها ، لكن الجثه تسهل عليها المأموريه ، لاتتدهور لاتتحسن لاتتغير ، فتبقي تحدق فيها طويلا وتفكر في الاف الاشياء وهي مكانها لاتزعجها ، فقط بكت منذ يومين ، سخرت الممرضه من سذاجتها ، الجثث لاتبكي ، سالت مياه من عينيها ، هذه ليست الدموع التي نعرفها ، هذه مجرد مياه بلا اي دلاله ، ليست بكاء وليست علامه علي اقتراب شفاءها ، هي مجرد ماء سال من عينها وفقط ... مازالت الممرضه تحدق فيها ، بدأت تمل ، تتنظر اي تغيير ، تنتظر اشاره الطبيب ياتي وخلفه الرجال الكثر ، يحملوها لغرفه العمليات ، يفككوها لاعضاء بشريه تحمل بعنايه في ثلاجات وتطير بعيدا للمرضي الاملين في الشفاء ، اكم شهدت بشر تفككوا لاعضاء بشريه ، في المره الاولي بكت احست نفسها شاركت في قتل الرجل الذي كان يتنفس بالاجهزه ثم قتل واخذت الاعضاء الهامه من جسده وتململ بقيه الجسد ودفن وسط عدم اكتراث حقيقي لا بحياته ولا بموته ، يومها بكت وانهارت حين حملوه شخصا حيا وقتلوه وعادوا به جثه ممزقه الاوصال ،يومها تشاجر معها الطبيب ، افهمها ان هؤلاء الراقدون فوق السرائر ليسوا بشر احياء ، بل جثث تنتظر افاده الاخرين ومدهم بالحياه التي فقدوها ، صمتت ولم تقتنع ، الرجل كان حيا امام عينها جسده دافء تحسه يكاد يقوم من رقدته ويربت عليها ، لكنها صمتت لاتقوي مناقشه الطبيب ولا مجادلته ولا الكف عن الحزن .. في المره الثانيه حزنها قل ، في الثالثه لم تحزن لكن قلبها اوجعها ، في المره المائه اعطت الجثه ظهرها وتجاهلت كل مايحدث امامها !!! لكن هذه السيده اقصد الجثه النائمه امامي طالت رقدتها ، لم تمزق اوصالها ولم تعد للحياه ، فقط بكت منذ عده ايام ومازال كل شيء كماهو لايتغير مثير للملل !!! لاتفهم الممرضه لماذا لايمزقوها ويوزعوا اعضاءها وينتهي الامر مثلما انتهي مئات المرات قبل ذلك ؟؟؟؟
الاصوات يزداد صخبها ..... لاتصمت لاتهدء لا تكف عن الضجيج !!!
" جوووووون ... جوووون " الاطفال في الشارع يتصايحون وجدي نائم " شششششششش جدي نائم " والله لانزل اموتكم من الضرب ، جدي نايم وانتم عمالين تجعروا " جوووووووووون " ..
" اصلح بوابير الجااز ، فونيا كباس ، اصلح بوابير الجاز "
" ياابو شوكه ياتين ، ياعسل بينز ياتين "
" اهرام ، اخبار ، جمهوريه ، ميكي ، ميكي ، اهرام ، اخبار ، ااقرا المصور "
تكره كل الاصوات ، ساغلق اذني ولن اسمعها ، ساذهب لمكان بعيد لاتصله تلك الاصوات الغريبه
لماذا تدوي في اذني كل تلك الاصوات ، تحيه العلم ، بائع البطيخ ، مسحراتي رمضان ، بائع العصافير ، نواح الندابات في مأتم جدي ، لماذا اتذكر راس البر وطفولتي والعشه الخوص القديمه ، لماذا اتذكر المدرسه وطابور الصباح ، لماذا اتذكر ليالي رمضان وساعه السحور ، لماذا لا اعمل شيئا مفيدا ، اقرأ اخرج اكلم صديقتي في التليفون ، لماذا فقط اتذكر احداث الماضي واصواته ، اين الحاضر الذي اعيشه ، كيف اعيشه ، كاني اسيره الماضي ولااعيش الحاضر ، ساكف عن التذكر واقوم لافتح الراديو ، ساغلق اذني عن اصوات الذكريات وسابحث عن كتاب جميل اقراءه ، عجبا لااقوي علي الحركه ، لااقوي علي القراءه ، حتي عيناي مغلقتان لااقوي علي فتحهما ، لااذكر متي اكلت اخر مره لكني لااشعر بالجوع ، هل اكلت قريبا ، لم اكل منذ زمن بعيد ، لماذا لااحس بالجوع ، لست عطشي ، لست مرهقه ارغب في النوم ، لااجد اذناي لاسدهما ، لااقوي علي فتح عيناي ، اصابعي لاتتحرك كانها لم تعد متصله بذراعي ، اين ذراعي ، كانه ليس بجسدي ، اين جسدي لااشعر به ، عجبا مااحسه ، كاني لست موجوده الا تلك الاصوات التي تدوي في راسي ، كانها تنبعث من داخله ، كان راسي يغني وينادي ويصرخ ويبكي ويعوي ويضحك ويلعب ، كاني اعيش براسي فقط ، كاني لست حيه الا في ذكرياتي القديمه ، اين حياتي الانيه ، كيف اعيش ، انا لااعيش ، انا فقط احي في ذكرياتي القديمه ، راس البر ، بلدتنا الريفيه ، صوت السواقي ، دعاء الكروان ، صوت الليل واشباحه ، الموسيقي البعيده التي تنبعث من الكازينو النائم علي الرمل امام البحر ، صراخ الاطفال فوق المراجيح ، صراخ مدرسه الحساب في وجهي وانا بليده لم افهم شرحها للدرس ، مطعم المدرسه ورائحه البرتقال التي اكرهها تحتله ، باب المدرسه الثانويه التي كنت افرح بالخروج منه ، لماذا لااعيش اي حاضر لااتذكر اي شيء عملته امس او اول امس او منذ شهر ، ليس لي امس او اول امس ، كاني لست حيه ، كاني روح شارده بلاجسد ، كاني صدي صوت في الفراغ ، كاني كومه ذكريات يحيطها الصخب والضجيج ، كأني لست موجوده ، لكني موجوده ، اسمع اصوات لاتكف عن الصراخ ، نغمات مدويه ، السلام الجمهوري في طابور المدرسه ، دقات الهون في سبوع ابني ، صوت القلم الذي رزعته امي فوق وجهي حين عثرت علي الجواب الغرامي ، اسمع صوت تنفيض السجاجيد يوم الوقفه ، صوت الصراخ الفرح يوم نجح ابني في اختبارات كليه الشرطه ، اذكر اصوات واحداث ، وجودي اختصر في صوت الذكريات واحداثها ولا حاضر اعيشه وليس لي مستقبل !!! مازالت الاصوات الصاخبه تدوي في اذنها .... ارهقت من كثره الضجيج ، ارهقت وتعبت وتمنت النوم لكنه عزيز لا ياتيها ، حائره لاتعرف مالذي يحدث لها ، عاجزه عن التفكير ، قررت انها ميته ، ضحكت ، نعم انا ميته من زمن بعيد ، لايعيش منها الا الذكريات ولااعيش الا في صوتها الصاخب !!! ضحكت اكثر ، لست حيه ولست ميته ، اين انا ومالذي سيحدث لي ؟؟؟؟ مازالت الاصوات تدوي في اذنها صاخبه !!
دخل الطبيب للغرفه ، خلفه مجموعه مساعدين ، امسك ساعد الجثه المتصلب ، قبض علي معصهمها ، دفن سماعته بين ملابس غيبوبتها ، ابتسم ، اشار لمساعديه ، فهموه ، التفوا حول السيده الغارقه في الغيبوبه العميقه ، يتفحصوها ، بطنها صدرها من يضغط باصابعه علي ساقها ، من يفتح حدقتيها ويحدق فيهما ، ابتسموا للطبيب فاتسعت ابتسامته اكثر ، اوضح لهم بصوت حاسم " بكره الساعه 8 في اوضه العمليات " ارتعشت الممرضه لاتعرف سببا لرعشتها ، فقد حضرت هذا الموقف الف مره ، جثه في غيبوبه ياخذوها لغرفه العمليات وتخرج جثمان مسجي بلا اعضاءه التي توزع علي المحتاجين تمنحهم الحياه المهددين بفقدها !!! لماذا ارتعشت هذه المره ، احست ان تلك الجثه حيه مازالت حيه لم تمت بحق ، اقترب من الطبيب وهمست له وجله مرتكبه " امبارح عيطت " صرخ الطبيب وارتبك المساعدين وانهالوا فوق راسها جميعا باللعنات ، هي مجرد ممرضه لاتفهم شيئا ، هذه الجثه غرقت في غيبوبه عميقه لن تخرج منها ابدا ، لو نزعنا الخراطيم من عروقها لماتت ، لو نزعنا خراطيم التنفس من انفها لماتت ، هي ماتت منذ زمن بعيد ، مجرد جثه ، حافظنا عليها للاستفاده منها ، يصرخ الطبيب بصوت اعلي " هي تعيش لاني حافظت علي مؤشراتها الحيويه لاني محتاج قلبها وكبدها وكليتيها وحدقتيها " يصرخ في الممرضه التي تخاف وتزرق شفتاها رعبا ،سيطردها من وحده زرع الاعضاء ،ستفقد راتبها الكبير وحوافزها الاكبر ، لقد اغضبته ، تعتذر له ، لايقبل اعتذراها ، تعتذر بمذله اكثر ، يصرخ فيها " انت حماره مابتفهميش مافيش جثه بتعيط " تهز راسها توافقه ، يصرخ بصوت اعلي " هو ده اللي علمتهولك ، حماره مافيش فيكي فايده ، انا حانقلك من هنا " تكاد تقبل يديه ، تستسمحه ، اخطأت ولن اكرر الخطأ ،لم تكن تبكي وكنت نصف نائمه ، هي جثه كما علمتني ، هي ماتت من زمن بعيد ، هي لم تكن تبكي ، تعتذر وتعتذر ويتجاهلها الطبيب ويخرج من الحجره وخلفه المساعدين ويتركوها بجوار الجثه تلعنها " ان شالله تتحرقي وانا مالي تعيطي ماتعيطيش ان شالله تولعي حتخربي بيتي " تنظر للجثه التي كانت كانها تضحك ، ارتعدت وكادت تنادي الطبيب ، هذه الجثه مازالت حيه ، لكنها صمتت وحافظت علي راتبها وحوافزها ونامت بجوار الجثه طيله الليل تتجاهلها تتعمد الا تنظر عليها ، فغدا وبعد ساعات قليله ستشيع جنازتها وتمنح الحياه للاخرين الكثر !!!!
وقف اولاد الجثه امام باب غرفه العمليات ، شاهدوا قلبها يخرج في تلاجه صغيره فبكت ابنتها تاثرا بموت امها التي بقيت في الغيبوبه ثلاث شهور لاتفيق ولاتموت ، شاهدوا كلياتها يخرجا ومعهما طبيب عصبي وبضعه مساعدين ، يجرون في الممر لغرفه العمليات الاخري التي ينام فيها مريض بلا كليتين ينتظر دخولهما لتبدأ حياته ، شاهدوا الكبد يخرج في ثلاجه ، تتبعه الابن الاكبر ببصره وانفجر في البكاء ، فامه ماتت وانتهي الام ، صرخ فيهم الابن الاوسط يكفوا عن البكاء فهي ماتت منذ ثلاثه شهور وانتهي الامر وكل مايحدث ليس الا تحصيل حاصل ، خرجت عيناها وخلفهم الطبيب يرسم علي وجهه علامات الحزن " البقيه في حياتكم " وخلع بالطيه الابيض وودعهم وعاد لمنزل مرهقا بعد العمليه الطويله التي كسرت عظامه هو يخرج اعضاء الجثه باهتمام ودقه لانقاذ حياه الاخرين وسرعان ماخرج الجثمان مسجي في كفنه وخلفه بضعه رجال ونساء يرفعون اصابعهم يتشاهدون ، انفجرت الابنه في البكاء ، سحبها اخويها وسارا خلف الجثمان ....
مرت ايام وايام .........
طلبت المريضه التي زرعت لها قرنيتني الجثه الابنه لتقابلها ، شكرتها وواستها في وفاه امها ، كانت المريضه مرتكبه لاتفهم مايحدث لها ، سالت الابنه " هي مامتك كانت بتصيف في راس البر ، اصلي عمري مارحت هناك ، لكن بقيت عارفاها زي مااكون عشت هناك ، مش برضه هناك كان فيه عشش خوص " هزت الابنه راسها ولم تنتبه لما تقوله المريضه !!!!
مرت ايام وايام ............
رن جرس التليفون في منزل الاسره ، رد الابن الاوسط ، كانت المتحدث ابو الشاب الذي زرع قلب الام ، رد عليه الابن الاوسط ببرود ، شكره فهمهم باصوات غير مفهومه ، شرح له الاب " انا مكلمك بناء علي اصرار ابني ، اصله حاسس ان مامتك عايشه جواه " انتفض الابن الاوسط لايرغب في سماع بقيه الحديث ، القي السماعه لاخته ، اكمل الاب لايكترث من يسمعه " ابني شاب لاعاش ايام ماقامت الثوره ولا ايام حرب 56 لكن فاق من العمليه عارف كل حاجه ، كانه كان عايش وقتها ، حاولنا نفسر الظاهره دي عجزنا ، ابني صمم اكلمكم ، واسيب تليفونه ، حاسس انه بيحبكم وبيقول لو حبيتم تتصلوا بي هو مستعد " لم ترد الابنه ، اكمل الاب " ابني اتغير ذوقه في الاكل ، بقي بيحب السمك والمشبك والبطاطا المشويه ، هي الست والدتك كانت بتحب الحاجات دي " اغلقت الابنه السكه مرتاعه وانفجرت في البكاء تتذكر حب امها لتلك المأكولات اكثر من اي شيء اخر !!!!
مرت ايام وايام .............
وصل للابن الاكبر خطاب من ام الطفله التي ذرع لها كبد الام ، تتعجب الام من حال ابنتها الصغيره ، تشرح في الخطاب ان ابنتها تغني اغنيات قديمه لم تسمعها من قبل ، تحفظ الاغاني وترددها ، كارم محمود واسمهان ، تشرح الام ان ابنتها الصغيره خائفه ، بل تطالبها عندما تردد تلك الاغنيات التي لم تكن تعرفها ، تطالبها بنزع الكبد من جسدها ، تشرح الام في الخطاب ، ان الصغيره تخاف من جسدها تحس ان صاحبه الكبد تعيش فيه ولم تمت ، تحس انها احتلتها ، تطالبهم الام بزياره ابنتها والتاكيد عليها ان والدتهم ماتت فعلا وانها لم تكن تحب لاكارم محمود ولا اسمهان وانها لم تكن تحفظ اغانيهم والامر كله محض صدف لاعلاقه لها بزرع الكبد في جسدها ، ينتفض جسد الابن الاكبر لايصدق مايقرأه ، فامه كانت تحب كارم محمود واسمهان ولاتكف عن ترديد اغنياتهم !!! يخبيء الخطاب من اخوته يخاف عليهم من الصدمه ، يقرر لن يتصل بالام ولا بالابنه التي زرعت الكبد ، ولن يفكر في الامر ابدا بعد ذلك !!!!!
مرت ايام وايام ...........
دخلت الممرضه من باب المستشفي وجدت سيده في منتصف العمر مرتكبه ، سالتها السيده مدير المسشتفي فين ، اشارت لها علي غرفته ، سارت معها حتي باب الغرفه ، شرحت لها السيده في الطريق للمدير انها زرعت كليتين منذ عده شهور ، ومن يومها وحياتها تغيرت ، ابتسمت الممرضه تهنئها علي الشفاء ، شرحت لها السيده انها لاتقصد الشفاء ، حياتها تغيرت كان صاحب الكليتين او صاحبتها مازال حيا بداخلها ، وهي حضرت لتعرف هل كان رجلا ام امرأه ، اشارت لها الممرضه علي باب غرفه المدير لاتصدق حديثها الغريب ، فجأ سالت دمعتين من طرف عين السيده ، شرحت لها السيده ، انها تتذكر احداث غريبه لاتعرفها ، في الاحداث المفرحه تضحك علي مالا تعرفه ، في الاحداث المحزنه تبكي دمعتين ثلاث من طرف عينها ، ارتبكت الممرضه ، انها تعرف تلك العين التي كانت تبكي دمعتين ثلاثه من طرف عينها ، كادت الممرضه تنطق ،تقول لها انها دموع سيده وزعت اعضاءها علي الاخرين وهي مازالت حيه تبكي ، لكنها صمتت ، خافت علي الحوافز والمرتب العالي ...
استمرت الاصوات عالية ، النداءات النغمات صوت الذكريات فيضانها ...
عالم حي تعيشه السيده التي زرعت الكلتين ، وتعيشه الطفله التي زرعت الكبد ، ويعيشه الشاب الذي زرع القلب ،وتعيشه المريضه التي زرعت القرنيتين ...
الاصوات مازالت عاليه وصوت الذكريات صاخبا مدويا يسمعه الاربعه وهم يعيشوا ذكريات ماضي السيده الكريمه التي منحتهم اعضاءها لتمنحهم الحياه والشفاء ....
الاربع واثقين ان روح تلك السيده يعيش بداخلهم يسكنهم ، الاربع واثقين ان الاعضاء التي منحت لهم منحت لهم بروح المريضه التي رفضت تغادر اعضاءها وتركت بقايا جسدها تدفن بلا روح وابقت روحها وحياتها في روح وحياه المرض الاربع !!!!
هناك تعليق واحد:
الذكريات كائن متوحش تأخذنا بعيدا نحاول جاهدين العودة من هناك لكن محاولاتنا دائما تصاب بالفشل .......كأنه الحنين الى الماضى الى ذكري وحيدة تنشلنا وتأخذنا وترحل بنا من هذا الحصار المطبق على صدورنا وعلى قلوبنا وهذه الجدران المتشابكة والمتراصة بجانب بعضها البعض ووراء بعضها البعض ...أنه الحلم أنه الأمل فى التواصل .....أشد ماعجبنى فى هذه القصة هو التسلل العبقرى فى سرد الحكاية نرحل معك بالكمات والعبارات الملئية بالشجن من نوعية يصرخ وينادي ياقليل البخت ياجميل الطعم يا "مدمسسسسسسسسسسسس "!
مازالت الاصوات تصرخ في اذنها ، كل الاصوات التي سمعتها في حياتها ، لاتفهم مالذي يحدث ، لماذا لا يصمتون>>>>طفي النور ياوليه ، احنا عساكر دوريه ، طفي طفي ، طفي النور ياوليه ،احنا عساكر دوريه ...الله عليك بجد ..هذا التناغم الرائع ومحاولة أبحارك والعودة الى الزمن الجميل شئ رائع شكرا لك أستاذة أميرة لأنك سمحت لى أن أشاركك فى قراءة هذه القصة الرائعة وتحياتى لك (على فكرة لابد من قراءة القصة مرة وأتنين هذا هو الأنطباع الأول
إرسال تعليق