مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

دموع ملونة علي جناح النورس " الجزء الثاني "


الجزء الثاني


و أغني ليه وزماني زماني ما سعدنيش
والفرحة بتواعد ولا توفيش
والليل بيطويني والآه على لساني
والحزن يخاويني ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني .. رماني .. رماني مانصفنيش


( 8 )
اساليني انا 

كمثل ايام كثيرة ، يمر زين علي نبيل مبكرا ويهبطا معا بفرحة وصخب للمدرسه ، كعادتها تبتسم فردوس لنجوي وتدعوها لقهوتها الصباحيه ، تعتذر نجوي برقه كي لاتزعج عم وصفي ، تضحك فردوس وتخبرها انه نزل قبل الصغيرين وينتظرهما علي " امة" الشارع وانها لوحدها زي كل اليوم ومستنياها ، ترتدي نجوي ثوبها القاتم وتطرق باب ابله فردوس ليتشاركها معا بدايات النهار مثل كل الايام الكثيرة التي عاشاها جيران بعدما قطن الاستاذ وصفي واسرته الشقه التي تقابل شقتها ، تفتح لها فردوس لايعجبها لون ثوبها ، تلوي شفتيها ساخره من اصرارها علي افساد حياتها اكثر مما هي خربة ، هو يعني بالغامق ، الحزن في القلب ، كاتمه الدنيا علي قلبك كده ليه ، اياكش فاكره ده حيعيد اللي راح ولا يهون عليكي غيبته ، تهز نجوي رأسها نفيا وتستعد للمشاجره الصباحيه التي اعتادت عليها من ابله فردوس التي لاتقبل منها الاستسلام للحزن الجارف والسكون فيه واليه ، انت محتاجه حيلك تشديه علشان اليتيم اللي في ايديكي ، تحدق فردوس في نجوي وتعرف انها تغرز الابر المسنونه في عمق الجرح الدفين ، والحزن مش بالاسود ولا الفرح بالالوان، ياما قلت لك ، تهمس نجوي باسي ، قلتي ياابله ، تشاور لها لتجلس بجوارها علي الكنبه الاسلامبولي التي اشترتها من سوق الجمعه شوقا لكنبتها الكبيره في التراسينه البحريه في الايام الجميلة التي كانت ورحلت عنها مثلما رحلت هي عن مدينتها وكنبتها والتراسينه ، اقعدي وريحي كده وفكي الزمته اللي انت زامته نفسك فيها دي ، بصي يابنتي ، اللي انتي عايشاه ده مش عايشاه لوحدك ، انا شفت صبايا زيك ياما ، قمرات ضنت الدنيا عليهم بالرحمه وعذبتهم بالحمول ، شباب وزينه الرجال ياما استشهدوا ، كل واحد رصاصته مكتوب عليها اسمه ، موته متقدر في ميعاد لايقدر ولايأخر ، وكلنا يابنتي مالناش في نفسنا حاجه !!
تجلس فردوس علي الكنبه وامامها نجوي ، تحمص البن في المحمصه الصغيرة التي حملتها معها من منزلها وقت الهجره ، طقسها النهاري الذي لاتغيره ، تحمص البن طازجا وعلي "السبرتايه" النحاسية العتيقة  تصنع فنجان القهوه الطازج الذي تبدأ بعده يومها ، رائحه البن تغمر الصاله الصغيره فيستفيق النهار في ساعته المبكره ، الاولاد نزلوا المدرسه ووصفي خرج للمقهي القريب يحتسي شايه ودخانه ويقرأ صحف النهار بحثا عن انتصار قريب يعيده لشارعه وتراسينه منزله والبلنصات والشبار الطازه في المراكب الهاله من البحر بعد ليل طويل ، يقرأ الصحف كلمه كلمه وسطر سطر ، ولايعجبه كل مايكتب ، لايعجبه اليأس الذي تنشره الصحف في قلوب المصريين تهزمهم قبل الحرب تيأسهم قبل الانتصار ، يقرر يعود زياره لبيته ، هناك سيشم رائحه القناه وعبق المدينه ويعرف متي ستعمر بارودتها وتحارب وتنتصر ، وحتي يصاحبه زين ويسافرا لبورسعيد يقتل الوقت علي المقهي ويحدق في البشر الذي تغير حالهم يهرلون في الشارع غاضبين وكأنهم اسري لايقوون فكاكا من احوالهم الكئيبه وهم يقتاتون الهزيمه التي لايبشرهم احد بقرب نهايتها ، رائحه البن تغمر الصاله وتلف فردوس ونجوي بهالات من الحيويه ، فردوس تجهز الفناجين والسبرتايه والماء البارد المعطر بالمزهر وتعدها تقرأ لها الفنجان بعدما تفرغ من احتساء قهوتها ، تضحك نجوي ، حتشوفي لي البخت ماهو باين ياابله ، تلكمها فردوس في صدرها تعاتبها ، بختك جميل وزي الفل ربنا يخلي نبيل وتفرحي بيه والبركه فيه ياحبيبتي واللي بيخلف مابيموتش  ، ابله فردوس تنكأ الجرح ، تنكأ كل الجراح وتعبث فيها ، تخرج قيحها وسمها وتنظفها بالوجع وبوز الابره المحميه علي النار الحمراء ، اللي يتأسي علي روحه يتكسر مايقومش واللي يتكسر يتنسي ومالوش عازه والبلد عايزه اللي يشد حيلها ، تهز نجوي رأسها توافقها ، الحرب كده اساليني انا ، تهمس فردوس ، شفناها بكل طريقه ، في سته وخمسين شفناها لما السما مطرت فوق رووسنا بالانجليز والفرنساويه ، شفناهم نازلين من السما زي اسراب الجراد ، علي اسطح البيوت وفي التراسينات هبطوا علينا ، وضربناهم علقه موت وكسرنا نفسهم وانتصرنا ، الحق البلد اتدغدغت وبيوت ياما اتهدمت  والمدافع ضربت واللي بيخاف من الموت جري وراه ووورا خوفه زياده وخطفه واللي استبيع وجري في وش الموت خاف منه واتكسر قصاده  ، نزلنا الخنادق ياما وقضينا فيها ليالي طويله والقنابل فوق الرووس بتدك اللي بتطوله ، الناس اضطربت اللي مشي وهاجر مشي ، واللي قعد وتشبث بالارض قاوم وانتصر ، عمك وصفي ياما شال سلاح وخبي فدائيين وووصل رسايل ، وخرج من بورسعيد ورجع ولاهامه ولافرق معاه ، كانت ايام صعبه لكن انتصرنا ، تفتكري الايام دي يانوجه ، تهز نجوي رأسها ، كانت صغيره لاتعي كل ماتقوله فردوس لكنها سمعت عنه من امها ، الحرب صعبه ياحبيتي لكن مالهاش بد لما ولاد الحرام تجور علي الحق ، والحق كله كوم وسبعه ستين كوم تاني ، احكي لك عن اللي شفته قبل مانمشي ولا حكيت لك قبل كده ، تبتسم نجوي بادب ، احكي ياابله ، تلقم فردوس الكنكه وتضعها برفقه علي نار السبرتايه وتهمس خجله وكأنها فطنت انها قصت علي نجوي تلك الحكايات قبل ذلك ، طيب نعدل راسنا بقي ونشرب قهوتنا ونشوف ورانا ايه ولما نفضي نبقي نحكي تاني ، تناولها فنجان القهوه وتحثها تحتسيه بسرعه ، خلصي علشان اقلبه واقرا بختك ، ابتسمت نجوي بأسي  ولا فيه حاجه حتتغير ، ضحكت ربنا يفرحك بنبيل ابن عمرك ويطرح البركه فيه ، هو فيه بخت احسن من كده ، وصمتت فردوس باسي ، وصمتت نجوي ايضا !!!
ومازال الفنجان مقلوب ينتظر نظره فردوس الفاحصه للبخت الراقد في قاعه !!!
لكن فردوس لاتنظر فيه ونجوي لاتنتظر تعرف لانها تعرف !!!!

( 9 )
دبابير

في مكتبه بعد منتصف الليل يجلس زين علي مقعده الخشبي الصارم كمثل حياته كلها وكل تفاصيلها يطالع التقارير الاوراق واخبار كل المعارك ، انهي اجتماع هام منذ بضعه دقائق وغادره الزملاء لاستراحاتهم ليناموا ، لن ينام الان عليه اعمال كثيره لينجزها ، سيطالع الاوراق والتقارير ويتصفح الجرائد ويدور بسرعه علي صفحات المواقع الاجتماعيه يتابع اهم مايشغل اصحابها ، سيتصل بامه يرجوها تدعو له ، الحق لن يرجوها تدعو له ، سيطالبها تدعو للوطن مثلما دعت له في كل معركه انتصر فيها الوطن استجابه لدعاءها ودعاء كل القلوب الطيبه الطاهره ، سيفكر قليلا في حياته التي اختارها ، سيسأل نفسه وبعض الحزن يتسلل لقلبه رغم انفه علي زملائه الذين رحلوا عن الوطن وتركوا سفينته امانة في اعناقهم ، سيسأل نفسه ، هل مازلت راضي عن اختيارك ، هل مازالت تحب ماتقوم به ، سيهز رأسه مؤكدا لنفسه صحه اختياره وقراره ، فمااجمل ان تقدم حياتك كلها للوطن والاجمل ان تموت فداءه راضيا عن كل ماقدمته له ، يبتسم زين رغم الحزن والضيق ، هذا الوطن سينتصر لاننا نموت سعداء من اجله ، سيتصل بابيه ، ربما يوقظه من النوم ، سيسمع صوته ويطمئن علي صحته ، سيسأله عن حرب سته وخمسين التي عاشها مقاتلا محاربا ، سيسأله هل كانت مثل حربنا ام اصعب ، يعرف رأيه سيقول له انتم ستنتصروا فليس مهم الحرب الاصعب والاسهل ، المهم يقينكم وايمانكم بقضيتكم ، اليقين بالنصر والايمان بالقضيه هو السلاح السري الذي يحسم كل المعارك والحروب لصالحكم ، يسمع صوت ابيه يدوي في اذنه ، منذ كان طفلا صغيرا وابيه يقص عليه حكايات الوطن وتضحيات الرجال وعطاء النساء ، يقص عليه كل الحكايات كأنه يتمني منه الا ينسي ، كيف كانت الحياة وصعوباتها والمعارك وضراوتها والانتصارات وحلاوتها ، حين كان صغيرا كان يضجر من تلك الحواديت ، اليوم والانفجارات تحيط به وزملائه يستشهدون والوطن يخوض حربا ويتحرر ، اليوم تتردد في روحه كل تلك الحواديت كأنه زاده وزواده للايام الصعبه ، هذا الوطن سينتصر ، يهمس زين نفسه قابعا مابعد وسط الليل علي مقعده الصارم ، المشهد الذي يعيشه في تلك اللحظه مثله مثل كل المشاهد التي عاشها في كل الليالي السابقة ، ضوء خافت وعسكري مراسله علي باب المكتب ينتظر اوامره وصمت عميق ، صوت الانفجارات البعيده  يهز المدينه ، ربما فجروا خط الغاز وربما تربصوا بحافله جنود وربما القوا قنبله علي مدرعه تغلق الطريق الساحلي ، اعتاد علي صوت الانفجارات البعيده ، ساخرا من جبنهم ، لايشتبكوا ولا يحاربوا ، غادرين يلقوا قنابلهم ويفروا دون مواجهه ، قتله وليسوا محاربين ، فارق كبير بيننا وبينهم ، نحن اصحاب قضيه ووطن ، وهم مرتزقه يبيعوا حياتهم لمن يدفع اكثر ويحجز لهم مكانا في الجنه الموصده في وجه آثامهم ، الحرب هنا ليست حرب ، قنابل تقذف وصواريخ تصوب ورصاص لقيط يدوي ، واشباح تجري وتختبيء وسط الجبال والمدقات المهجورة وفي شبكات الانفاق السرطانية علي الحدود القريبه ، ليست حرب بل معركه للقبض علي القتله وتجريدهم من اسلحتهم واغلاق المنافذ الحدوديه في وجه داعميهم ، يتمني زين يتصل بابيه ليقص عليه مايعيشه ، لادي حرب ولا دول جنود ، دول شويه مرتزقة ياحاج ، مرتزقة صيع ماسكين سلاح مش عارفين معناه يدوسوا علي زناد الموت ويجروا معندهمش قضيه ولا يقين ، عم وصفي غاضب مما يحدث في سينا ومن ارهابيها ، كلما اتصل به يسأله بصدق عن احوالهم ، يطمئنه زين ، كل يوم بنضف اكتر واكتر ، وبنقبض علي مرتزقه وارهابيين ونسمع صواريخ وقنابل بعيده واللي مكتوب عليها اسمه تصيبه ، يدعو له وصفي ولكل اخواته بالخير ويضحك في نهايه المكالمة ، كنا بنقول الانجليز جبانات لما هبطوا علينا بالبراشوتات وخافوا واستخبوا ، لكن الاسم غزاه حاربناهم وانتصرنا ، دول بقي اشباح لا براشوت ولا مواجهه ولا رجاله من اساسه يبقي هانت وقربت ونصركم قريب ، اشباح ياحاج اشباح ، لا بارعين ولا ماكرين ولااستراتيجيه ولا تخطيط ، دبابير بتطير في السما الواسعه تلسع وتجري والجبن شيمه المجرمين ، وتنتهي المكالمه الطويله وقتما يهمس وصفي لابنه امك بتسلم عليك وبتقولك خلي بالك علي نفسه ، يبتسم زين يعرف فردوس وحنانها دموعها تمنعها تكلمه بصوتها المرتعش تخاف عليه من شده خوفها وحبها ، الله يسلمها ياحاج بابوس ايديها ، يدعو له وصفي بالنصر ويتمني له زين الصحه وطيله العمر ونتكلم بكره !!!
يغمض عينيه وكأنه يتمني سكينه تسرق روحه بعيدا عن ارض المعارك ، يتمني يجلس ونبيل علي سطح البيت القديم يتأملا النجوم وينصتا لقرآن الفجر من الجامع القريب ويتجاذبا اطراف الذكريات التي تملأ جعبتهما حزنا ومرحا ، يغمض عينيه لكن نبيل لايزوره هذه الليله كعادته ، نبيل غارق في حب ليلي ويخاف من رأيه في تلك العلاقه التي ستهدم بيته وتشرد ابنته الصغيره ، وكأن كل ماعشناه لايكفينا ، يتم وقهر وتهجير فتأتي بارادتك وتهجر ابنتك بعيدا عن حضن وتيتمها في وجودك وتحب اخري غير امها وتعيش لنفسك وفقط ، نبيل يعرف رايه في ليلي وعشقه لها ، هي غلطانه عارفاك راجل متجوز ماتقربش منك ، يضحك نبيل انا اللي قربت منها ،انت غلطان وهي غلطانه ، يتمني زين ان يعود نبيل لصوابه ورشده ويترك المعشوقه ويعود لزوجته الست المحترمه اللي بتربي بنته وكتر خيرها وخير الدنيا ، مش عاجباك مراتك يانبيل ، دي اختيارك انت ، اختياري ودفعت ثمنه ، انت حر تدفع اي تمن ، المشكله انك بتخلي بنتك هي اللي تدفع الثمن ، اختياراتك ادفع تمنها براحتك ، لكن لغايه البنت الصغيره وتقف وتفكر ، هي ماقالتلكش تتجوز امها ولا قالت لك خلفها ، لكن هي بقي ليها وجود وحياه وكرامه لازم كلنا نحافظ عليها ، يغضب نبيل من زين ، يغضب منه ويقرر يبتعد عنه حتي يكف عن لومه وتعنيفه لانه يحب ليلي ، باحبها ومش حاقدر اعيش من غيرها وانتهي الامر !! ويهرب نبيل من زين ويختفي بعيدا ، يتركه زين وشأنه ، سيعيش المشكله حتي يصل وحده لحلها وان تاه سيجدني اعيده لما يتعين عليه ، ويتباعدا ،وطال البعاد ، الان في هذه اللحظه الموحشه بالذات يستدعيه زين في خياله يتمني لحظه ونس ودفء تعيد الوصل بينهما كالايام الخوالي البعيده ، لكن نبيل لايأتي ، ولايزوره في مكتبه البعيد ، يتصوره غارقا مع ليلي في بحار العسل ، يتصورا منشغلا عن كل مايحدث في الحياه بنفسه وعواطفه وقلبه ، لايعرف زين ان نبيل في تلك اللحظه بالذات كان يبكي مصابا عجز ينقذه وروح فرت من بين يديه للبراح وشهيد جديد حرمه من نجاح طبي واصر علي فخر وفرحه فرحل من تحت مشرطه ومن فوق منضده عملياته للشرف ، كان يبكي نبيل وهو يري جثه جديده تضاف لسجل الجثث التي عجز ينقذها ، كفر بالطب والعلم وكل شيء ، احس عجزا يقهره ، الرجال تتساقط تحت يديه ولايقوي يقدم لهم مايتمناه ، يبكي وليلي تلاحقه بنظراتها الحزينه ، تتمني تأخذه في حضنها وتهون عليه اوجاعه ، لكنها لاتقوي ولا تجرأ تقترب منه ، فهو الطبيب الكبير وهي الممرضه الصغيره التي تحاصرها العيون المتلصصه بالاسئله عن طبيعه علاقتها به ، تقف بعيدا لكن حزنها يصل روحه فيمسح دموعه ليقويها وينتشلها من حزنها وبصوت صارم يشرح لها ، انا في الاستراحه لو اي حاجه جديده بلغيني ، حاضر يادكتور ، كل هذا لايعلم زين عنه شيئا ، كل مايعلمه انه وحيدا يتمني سكينه تسرقه ولو للحظه قصيرة بعيدا عن ارض المعارك ، صوت الانفجارات يخفت قليلا ويكاد الصمت يسيطر علي المكتب والمدينه وارض المعارك ، يغمض عينيه اكثر جالسا علي مكتبه وكفه قابضا علي زناد مسدسه جاهزا للتصويب مستعدا لاي مباغته نذله تقتحم كل الحواجز الامنيه والكمائن وتفتح عليه بابه وتصوب رصاصاتها لرأسه ، وقتها سيطلق هو ايضا رصاصاته وليختر الموت من يختار لكنه لن يغتال خلسه دونما حرب ، ناقم علي هؤلاء الجبناء الذي ينتظرهم في الليل ويتربصوا به وبزملائه من خلف الحجب المسدله علي وجودهم الا من طلقه غادره او قذيفه حمقاء هنا او هناك!!!
مازال في مكتبه ومازال الصمت يلفه والترقب ايضا ، يغمض زين عينيه اكثر واكثر وكأنه سينام مطمئنا ، نغمات بيانو تتسلل لروحه ، لايعرف من اين تأتي بصوتها الرخيم ، هذه النغمات الناعمه تتسلل تحت جلده تخترق اعصابه وتوقظها ، هذه النغمات يعرفها جيدا ، خيالات ضبابيه تأتي بها لسمعه وروحه ، كان صغيرا يقبض ابيه علي كفه وهو يسير معه علي الممشي الخاوي من رواده صوب البحر وقتما تسللت تلك الموسيقي لقلبه ، ابتسم ابيه وشرح له انها نغمات كازينو بالاس الرابض علي البحر وشاطيء القنال معا ، سحبه ابيه للكازينو واجلسه علي منضده وطلب له كاساتا ايس كريم ، الكاساتا علي نغمات السوناتا ، هذا ماعرفه عن تلك الليله الآسرة التي عاشها في كازينو بالاس بعد ذلك بسنوات طويله ، احب الموسيقي الكلاسيكيه الحالمه واحب الكاساتا ، صارا معا رمز للمدينه التي عاش فيها طفولته وهجر منها قبلما يعيشها وتعيشه ، نثرات من الشوكولاته والفواكه المسكره وبعض الفراوله هذا مايجري لعابه ويفجر حنينه للمدينه التي كانت تخصه ومازالت ، يقص زين لنبيل عن الذكريات البعيده ، كنا نمشي علي الممشي وقت الغروب ، عمك وصفي يسحبني من ايدي وياخدني معاه ، يبص علي البحر كأنه بيطمن عليه وانه لسه موجود وان مافيش لاغواصه معاديه تحته ولا بلنص شايل ولاد حرام ، يرفع عينيه للسما كأنه يفحصها ، لاطيارات غريبه ولا مظليين ولا اعداء ولا صواريخ تنشر الموت ، كل يوم علي ده الحال ، نمشي وقت الغروب ، يحكي لي عن بورسعيد وعن المقاومه الشعبيه وعن الوطنيه والجدعنه ، يحكي وهو بيبص علي البحر والموج رايح جاي ويبتسم ، ويبص للسما صافيه وشمسها راحله وسحابها احمر ويبتسم ، يسحبني نرجع للبيت جعان وطمعان في اكله شبار تهون بيها الست فردوس شقا اليوم كله ، مره واحنا ماشين سمعت صوت مزيكا ، لاسمسيه ولا دق طار ، صوت معرفوش عجبني ، انتبه ماهو لماح زي ماانت عارف ، قالي ده بيانو كازينو بالاس ، تعالي اوريه لك ، وسحبني بسرعه خطوتين تلاته ولقيت روحي في جو تاني ، مش دي بورسعيد اللي اعرفها ، مش دي اللي قاومت وحاربت وانتصرت ، مش دي بورسعيد اللي حكي ليها عنها عمك وصفي بدل النوبه مية ، دي بورسعيد حاجه تانيه ، بورسعيد الصبيه العفيه الانيقه اللي خارجه من عند المزين في الحي الافرنجي ، شاور عمك وصفي علي البيانو وقالوا هو ده اللي غواك واسرك ، وجلسنا علي منضدة كبيره وطلب لي كاساتا وعنها ياعم بلبل ، بقت هي دي بورسعيد اللي باحبها ولما افتكرها افتكر صوت البيانو وطعم الكاساتا بتاع كازينو بالاس ، يحكي زين ويحكي وينصت له نبيل وينصت ، ويتعارفا اكثر ويقتربا اكثر واكثر والوصل ايابا وذهابا والحب ايضا ، هذا ماتصوره زين وقتما غزت الموسيقي روحه ، تصور انه مع نبيل علي سطح العقار القديم الذي يعيشا فيه يحكيا ويحكيا ، لكنها اضغاث الاحلام والامنيات التي تغزوه ، نبيل في غرفته يبكي شهيدا فر من منضده العمليات ورحل رغم انفه ،  وهو في مكتبه الصامت وسط ليل متربص في المدينه التي تغزوها الدبابير تعقر بغدر خيره الرجال وتختبيء حتي تدك علي رؤوسهم الجبال وتنهب تحت اقدامهم الارض انتقاما وثأرا وانتصارا ، و............ يدوي انفجار كبير تستيقظ عليه المدينه مرتاعه تدعو بالخير لخيره الابناء الذي تتربص بهم الدبابير تعقرهم في حبات عيونهم وتختفي ، وينتبه زين علي صوت الانفجار لكن ركام الجدران المنهاره فوق رأسه يودي بانتباه وبسرعه و.......................... يسقط جسده تحت الانقاض التي كانت جدران عاليه ومبني شامخ قبلما تنفجر عند بوابته الرئيسه سياره مفخخه ، ويرتفع صوت الرصاص والقنابل وتدوي الانفجارات وصفارات الانذار ويعرف اهل المدينه وقاطنيها ان جلل حدث هز المدينه من جذورها ولخلخ جذورها و.................. مازال زين ملقي تحت الانقاض !!!!

( 10 )
شدي حيلك


خرج من غرفة العمليات حزينا غاضبا ، هاهو بطل اخر يرفض يساعده ويساعد نفسه ، وترفض شراينيه تلتئم وينفجر طحاله وتتحول دماءه لفيضان وسيول ويرفض قلبه ينبض ثانية وترفض روحه تعود لجسده الممزق وترحل بعيدا عن كل هذا وتحلق للسماء فخورة بتضحياتها وعطاءها وموتها الذي يرفع رايه الوطن للسماء ويحرره من الارهابيين القتلة ..
هاهو بطل اخر يقهره بعجزه ويرحل من فوق منضدته في غرفه العمليات للفردوس الاعلي ، يشعر عجزا قهرا حزنا ، هاهو طفل صغير جديد سيتجرع مرارة اليتم وهاهي زوجة حبيبه سيحترق قلبها وهاهي ام ستفقد حياتها كل المعاني وتغيب عن قلبها الفرحة ،هاهي ام جديده تنضم للصابرات المؤمنات التي يختبر الله ايمانهن بحرقة قلوبهن ، مازال يتذكرها ، دموعها المتحجره ،صوتها المتحشرج ، رجاءها ودعاءها ، مازال صوتها يتردد في اذنه في اليقظه والنوم ""حبيبي يامحمد ياغالي ، ودعتك وودعت الدنيا مافيها و ودعت كل حاجه حلوه في الدنيا ( 1 ) "" مازال صوتها يعتصر قلبه ويجدد كل احزانه ، كأنه خلق للحزن ولاشيء الا الحزن ..
 خلع الملابس الخضراء الموشاه بدماء الشهيد الساخنه ، قذف غطاء رأسه بغضب علي الارض وتمني لو الارض انشقت وابتلعته ، مالذي سيقوله لزوجته ، مالذي سيقوله لصغاره ، مالذي سيقوله لامه ، اللعنه علي الطب وعلي الحياه كلها ، مالذي اعادني لهذا العمل الذي هجرته ، مالذي اعادني لهذا العمل بعدما نسيته ، تمني نبيل في تلك اللحظه بالذات لو بقي بعيدا عن الطب وغرف العمليات والمرضي والجرحي ، لو بقي جالسا في النادي تحت الشجره الكبيرة هائما مع نفسه ماعاش كل هذا الوجع ولا كل هذه القهرة ...
يسير في ممرات المستشفي صوب استراحته ، سيغلق عليه الباب ويبكي ، نعم من حقه يبكي ، من حقه يبكي ومن حق دموعه يترك لها المجال لتنهمر تهون عليه الوجع الذي يتقافز في روحه كاصابع الديناميت تكاد تنفجر وتبعثره الف الف مليون ذرة صغيرة .. صوتها يطارده " علي قد ماربيتك وشحتك من عند ربنا ، بادعي لك يغفر لك ربنا ، يغفرلك ويرحمك احلي رحمه ، انا اديته لك انت وانت احن عليه مني ، انا ام لكن انت احن عليه مني ، اشوفك في الجنه ونعيمها ، اشوفها متهني ومتمني في الجنه يامحمد ، ربنا حرمني منك لكن ماتتحرم من دخول الجنه ياحبيبي يامحمد ( 1 )" صوتها يطارده وكأنه صوت كل ام يفقد ابنها علي طاوله عملياته ، يفقده ، يفشل ينقذه ، وقتها يسمع مرثياتها تمزق قلبه وروحه ، يسرع الخطي صوب غرفته ، هناك سيبكي ويبكي ..
يسير صوب الاستراحه غائبا عن كل ماحوله ، نهنهة مكتومه تخترق قلبه ، نحيب موجع يتسلل لاذنه ، يبحث عن الصوت ، عن السيدة التي تبكي ، هل هي الزوجه التي عرفت بموت زوجها ، هل هي الام التي ادركت رحيل ضناها ، هل هي الابنة التي غاب سندها ، لايعرف ، ولايريد ان يعرف شيئا ، سيفر من كل هذا لاستراحته ، سيدفن رأسه في المخده ويصرخ ، سيدفن رأسه في الفراش وينتحب براحته ، يسرع الخطوات وكأنه يفر من اعاصير الحزن التي تجوب في المستشفي تهدم جدرانها فوق رأسه ، صوت النحيب يلاحقه والنهنهنات الباكيه تتبع خطاه ، يتصور ظله المرسوم علي بلاط المستشفي يسبقه ويبكي ، يتصور ظله يعبر عن حزنه ويبكي قبلما يصل هو لاستراحته ويعيش مع لحظات حزنه الزرقاء ، يقف مكانه عل ظله يصمت ، لكن صوت النحيب والبكاء يلاحقه ، يمر بجواره ، يعبره ، يتقدمه ببضعه خطوات ، يراها ، ممرضه صغيرة تمسح دموعها في كم البالطو الابيض ، يلمح دموعها تنهمر علي وجهها ، كأنها نورة ابنته تبكيه يوم يموت ويتركها ، كأنها نجوي تبكي اسماعيل يوم وصلها خبره الاسود وبذلته الملطخة بدماءه العطره ، مازالت الممرضه تبكي وتسير علي غير هدي ، يتحرك صوبها ، يلحق بها ، يمد كفه علي كتفها ليهون حزنها ، تنتفض ترتعش ، قلبه ايضا يرتعش ، روحه تنتفض ، حزنها يتملكه فيزيد احزانه ويفيض بها ، تكاد دموعه تنهمر بما لايليق به وهو الطبيب الجراح الكبير ، لو بكي لانهار الجميع حزنا ، عليه يخفي احزانه عنهم وعن جدران المستشفي التي ستوشي به للمرض والمصابين واسرهم ، عليه يخفي احزانه عن الممرات الشاحبه ولمبات الاضاءه البارده البيضاء ، عليه يقوي فيتساندوا عليه ويقووا جميعا ، رفعت عينيها المليئتين بالدموع ونظرت له ، دكتور نبيل ، همست باسمه وصوتها مختنق حزين ، ليلي ، همس ، يعرفها ، احدي الممرضات التي تقف معه في غرفه العمليات ، تقف امام طاوله المعدات ، تناوله المشرط ، الابره والخيط ، واحيانا اخري تجفف قطرات العرق من فوق جبهته ، نعم هي ليلي ، شدي حيلك ، همس يقويها وهو يبحث عن من يقويه ، همس يتمني يشد حيله هو ، حيله الذي مزقته الاوجاع ، شدي حيلك ياليلي ، همس ، كفه مازالت علي كتفها ، هل احس بقلبها يرتجف تحت اصابعه ، هل جسدها كله يرتجف ، فزعه ، هذا مااحسه ، فزعه تحتاج طمأنينة ، هل يحتضنها ويمنح روحها بعض الطمأنينة ، لايقوي يحتضنها ولايقوي يتركها ، تضغط دموعه علي قلبه لتنهمر وتسيل ، تتحرك خطوه صغيره بعيدا عن كفه ، شدي حيلك ياليلي ، لايجد كلمات يقولها لها ، كل الكلمات ماسخه حتي شدي حيلك ، كل الكلمات ماسخة لاتعبر عن الحزن المتراكم فوق قلبه وقلبها ، تحركت خطوه اخري بعيدا عنه واستأذنته لتنصرف ، هز رأسه لايجد كلمات يواسيها بها ، تحركت امامه وصوت نحيبها يدوي في اذنه ، مازالت تبكي وتمسح دموعها في كم البالطو ، سار خلفها يحسدها لانها حره تملك تبكي وتعبر عن حزنها في اي مكان واي لحظه ، تاه مع افكاره فغابت عن بصره ، لم يكترث ، فقد طبعت صورتها الباكيه المقهورة في خياله وكأنه اقتنصها رغم انفها لتبقي معه تشاركه الحزن ، وصل غرفته ، فتح الباب بسرعه واغلقه بسرعه والقي ببدنه علي الفراش ودفن رأسه في المخده وانفجر باكيا ، وكأن كل الاحزان تجددت في لحظه واحده ، وحيدا مقهورا عاجزا حزينا ، هذا مايشعر به في تلك اللحظه ، وحيدا !!! وكيف هو وليلي تربت علي روحه تهون عليه الحزن وتشاركه بعضه ، ليلي ، تسللت خلف الجدران من الابواب الموصده واقتربت من جسده المرتج بالحزن وربتت عليه وهمست في اذنه بصوت صادق ، شد حيلك يادكتور ، مازال يبكي ومازالت تهون عليه حزنه ، شد حيلك يانبيل ، صوتها صوت امه صوت فردوس صوت الام المكلومه التي فقدت ابنها وفقدت معه الفرحه ، شد حيلك يانبيل ، وتمناها لو تأتي الان ، تفتح الباب ، تقترب بدموعها من دموعه وتدخل في حضنه وتقاسمه الحزن و.......... الحياه !!!
وكأنها التي كان يبحث عنها العمر كله ، وكأنها الطيف الذي لاحقه ليبحث عنه فوجده صدفه في لحظه حزن تمني حبيبا يشاركه وجعها .... ليلي ، ومازال يبكي ومازال تربت عليه وتقاسمه الحزن الفياض وتقوي قلبه وروحه في لحظه كاد ينكسر فيها ثانيه ويهجر الطب وكل الحياة .....
ليلي ...
 ( 11 )
متي ؟؟

متي مات ابيه وطويت صفحته بسرعه في كتاب حياته لايعرف ، مات في الحرب ،هو لايعرف ولايتذكر و" مايفرقش" متي مات وكيف ، امه قالت له ابيك مات شهيد من اجل الوطن وصمتت ، في حجرتها وفي خزانه ملابسه يلمح دائما بذلته العسكريه مخضبه ببقايا دماءه التي سالت وقتما مزقت دانة كبيرة جسده ودبابته ، تمزق الجسد وانفجرت الدماء علي ملابسه المموهه بالعلامات الصفراء والبنية ، ومات وبقيت البذلة شاهدا علي وجوده وشرفه وتضحيته!!! صار الاب اسما في شهاده الوفاة ، وخنجرا حزين في القلب يوخز ولايقتل ، ودموع في عين امه لاتكف تنهمر في كل لحظه وكأنها تحافظ علي ذكري زوجها الحبيب من الزوال وسط صخب الحياه وافراحها التي تتسلل لقلبها رغم ارادتها ...
صار نبيل يتيما !!! هذا ماعرفه عن نفسه ، نظرات الشفقه التي تحوطه والاكف البارده التي تربت علي كتفه والاحضان المليئه الشوك التي تجذبه اليها رأفه وحزن ، كل هذا عرفه حالته التي لم يفطن لمعناها وكيف يعرف الصغير ابن الخامسه مذاق اليتم ومرارته ، كل مايذكره انه كان بريئا لايحمل للدنيا هما ، قابعا علي ارض غرفته يلهو بلعبه لايذكر شكلها ، مايذكره انه كان سعيدا ، وقتها تسلل نحيبها لغرفته .. انت لسه فاكر يانبيل ؟؟ يسأل نفسه فيبتسم ساخرا من نفسه ، وكيف ينسي ، كانت لحظه فارقه في حياته ، يومها ، تسلل نحيبها لغرفته كأن رياح زرقاء فتحت باب غرفته عنوه ، كأن بعض الاعاصير اختصت غرفته واختصه بدواماتها ، سمع نحيبها فادرك ببصيرة الاطفال ان ماكان يخافه ويفر من تصوره حدث فعلا ، ترك لعبته وتسلل علي اطراف اصابعه للصاله حيث تجلس ، كانت تقبض علي راسها بكفيها ودموعها تنساب تمسحها بسرعه وتنكرها ، تهز رأسها كأنها لاتصدق ماتعرفه ، مات الحبيب ، استشهد ، حملت دانة مكتوب عليه اسمه روحه الغاليه للسماء للبراح للفردوس الاعلي ، قصفت الدانه بقيه ايام حياته وفرحتها ، لم يبقي منه الا بذلته العسكريه المخضبه بدماءها ، ارسلوها له مع بقيه متعلقاته ، خطاب كان يكتبه لها ولم ينهيه ، اشواق تحولت بعد رحيله لاشواك تمزق روحها ، عروسه شابه لم تكمل فرحتها مع الحبيب وتجرعت رحيله وحيده بقيه عمرها سما مرير قطرة قطرة ، تتذكر وهي تبكي مكالمته الاخيره ، صوته كان بعيدا منهكا ، يحاول يطمئنها وهي تكذب عليه وتطمنه علي حالها ووحدتها وانتظارها الموجع ، يطمئنها فتكذب عليه فيدرك كذبها ويحاول ثانيه ، نبرات صوته المرهقه الموجوعه حملت لها رسائل كثيرة لكنها لم تفطن لمعناها الا بعد رحيله ، انهي المكالمه بعد معاناة ، كلماته الاخيره تدوي في قلبها وروحها ، باحبك يا نجوي ووحشاني قوي قوي وانهي المكالمه بسرعه ، كلماته العاطفيه مست شغاف قلبها واربكت مشاعرها ، تمنته يعود في نفس اللحظه لحضنها ، تمنته ينام في حضنها وفي الصباح تحمله الجنيه الطيبه للجبهه لدشمته الحصينه لرفاق السلاح والدم والايام الصعبه واحلام النصر ، لكن امنيتها لم تتحقق ولم يأتي لحضنها ولم تنام في حضنه واوصدت الاحضان بمفاتيح الحزن والفراق ، امنيتها لم تتحقق ولن تتحقق ، تبكي وتنتحب ، لم تنتبه لوجوده ، لوجود نبيل ، يراقبها ويتمناها تفصح عن مايحزنها ، تتمناه تخبره ان معدتها توجعها او تبكي علي ابيها الذي مات السنه الماضيه او حزنا لان الكيكه اتحرقت في الفرن ، يتمناها تبكي لاي سبب الا السبب المخيف الذي تبادر لذهنه وفقط لكنها للاسف يانبيل تبكي لان ابيك رحل عن الحياه وتركها وتركك !!
و... بابا مات يانبيل مات وتبكي وهي تحتضن نبيل يشاركها البكاء والحزن دونما تسمح له سنوات عمره القليله يفهم بحق معني ذلك الحادث الجلل واثره علي حياته كلها ...

( 12 )
اللهم لاتمنحه الشهادة

همست الجدران المتهدمة للاعمدة المنهاره توصيها الرفق بزين ، البطل الملقي تحت قواعدها ممزق الجسد ، همست توصيها ترفع اثقالها عن قلبه وروحه ، همست الاعمده المنهاره لقطع الاحجار المبعثره توصيها الرفق بالبطل ، تذكرها بابتسامته وقتما كان يدخل ذلك المكان قبلما تهدمه القذيفه التي القيت عليه او السياره المفخخه التي انفجرت فيه ، تذكرها بابتسامته ، تذكرها بالساعات الطويله التي كان يجلس فيها يرسم خطط النصر ، ويشد ازر الرجال المحاربين ويتصل باسر الشهداء يواسيهم ويعدهم بزياره قريبه ويوفي بوعده في ااقرب فرصه متاحه ، تهمس الاحجار المبعثرة فوق جسد البطل لقطع الزجاج المتناثرة حوله توصيها الرفق بالبطل ، هو الذي طالما اغلق الشبابيك برفق يبعد اعاصير الصحراء ترطمها بقسوة وتهددها بالتبعثر كل لحظه ، تقص عليها انه منح جندي المراسله اجازه وقتما مرضت امه ، وحمل علبه شوكولاته لصغيره لم تعرف ابيها الذي استشهد ، حمل علبه شوكولاته وفيها صوره الشهيد حتي لاتنساه الصغيره وتقرن حلاوة الشوكولاته بذكراه الطيبه ، تتمني نثرات الزجاج المشحوذ لو تلملم نفسها بعيد عن جلده الذي مزق سطحه واعصابه بعض القطع الكبيرة من النافذه التي طالما حن عليها وحافظ عليها من الاعاصير ولصقها بالشريط القوي حتي لا تتبعثر اذا ماصوبت الدانات عليها ، تتمني نثرات الزجاج المشحوذ لو تبعد عن بذلته التي مزقتها واسقطت ازرارها علي الارض وسط التراب والدم ، نادت الجدران المتهدمة بصوت قوي وواضح ، هنا بطل يرقد تحت انقاضي ، انقذوه مني ومن الموت الذي يسكن بقايايا ، هنا بطل ، تمنت رجل المكتب الكبيرة الراسخه فوق اصابع كفه لو تحركت قليلا ، تمنت لو الانفجار الذي مزق بدن المكتب ابعدها عن كف البطل التي طالما رفعت تحي العلم ، تمنت رجل المكتب لو احضرت العلم وفرشته فوق رأس الرجل تقيه الاعاصير التي تعصف ببقايا الغرفه التي كانت ، تقيه لدع الدبابير التي احتلت الغرفه وملاك الموت تحرضه يسرق حياه البطل ويجري ، تمنت رجل المكتب لو تملك حنجرة تصرخ بها تجلب المساعده للبطل الذي مازالت انفاسه تصارح الخنقه وكتمه الهواء وذرات التراب المتناثره علي شفتيه وفي جوفه ، تمنت رجل المكتب لو تبعد عن كف يده فيتحامل عليه ويقوم ، يتساند علي بقايا الجدران ويصلب طوله ، تمنت لو استخدمها عكازا يركن عليه وهو يتحرك بخطوات بطيئه مرعوشه والدماء تسيل من كل الثقوب الغادره التي مزقت الدانه بها جسده ، تمنت رجل المكتب لو صارت عكازا يتحامل عليه حتي يجد سبيله بعيدا عن الانقاض المنهدمه وعواصف التراب والزجاج وذرات الانفجار ، تمنت الارض التي طالما سار فوقها واثق الخطي لو حملت وجهه المدفون في حضنها بعيدا ، تمنت الارض لو افلحت تمنحه بعض الهواء النقي في رئتيه اللتين مزقتهما الاحجار المشحوذه التي هوت كالمشارط فوق ظهره وعبرت منه للرئتين تمزقهما ، تمنت الارض لو تفجرت تحته عين ماء دافيء حاني تسقيه من نهر الكوثر وتغسل بدنه وروحه وتمنحه بعض القوه ليحمل اشلاءه الممزقه ويفر من مصيره الذي يبدو حتمي ، بكت الحجره المهدمه علي الرجل الذي طالما عاش فيها يخاطب جدرانها ويحنو علي ارضها ويهدهد مفروشاتها البسيطه ويغني مع صوت المذياع ويبكي وقتما يري جنازه عسكريه لزملائه ، يبكي لان العمر طاله به فلم يمنحه الشهاده مثل زملائه المحظوظين ، بكت الحجره ودعت ربها ، اللهم لاتمنحه الشهاده و اعده للحياه ليحارب اعداء الحياه وينتصر عليهم ، اللهم لاتمنحه الشهاده واعده للحياه فمازال له فيها عمر لم تنتهي ايامه بعد  وله فيها بطوله لم تتجلي بعد وله ابنة صغيرة سينجبها وابن يحمل اسمه واب يحبه وينتظره يحمل خشبته لمثواها الاخير ، اللهم لاتمنحه الشهاده فمازال في حياته حياة ، الحجره تبكي والجدران المتهدمه تدعو ورجل المكتب تتمناه ينهض ويتحامل عليها ويفر من اسر الموت ، نثرات الزجاج المبعثره علي وجهه وجسده تدعو ربها ، اللهم انقذه اللهم انقذه ، امين ، تهمس كل الموجودات المحطمه المتراكمه طبقات طبقات فوق جسد البطل الملقي علي وجهه تحت انقاضها ، يتناهي لزين وسط الالم العاصف والوجع الموحش المتوحش ، صوت تمتمات الرجاء وهمسات الدعاء ، يتمني لايخذلهم ويعود بنفسه يرمم الحجره ويصلح المكتب المكسور ، يتمني يشفي من اجلهم ومن اجل كل من يحبهم ، ماما فردوس وبابا وصفي واشقاءه ونبيل ... اين انت الان يانبيل ؟؟ يسأل زين ويسقط ثانيه في جب الغيبوبه لطفا من ربه لانقاذه من الوجع والالم الذين يعصفا بوجوده وكيانه وحياته.....
( 13 )
يسعدني ؟؟؟

انا ابن المدينة الباسلة ابن بورسعيد ، دي مش جمله انشا في حصة عربي في المدرسه ، ده معني حقيقي جوايا ، معني بالف معني  ، يتحدث زين وينصت نبيل ، انا ابن هذه المدينة التي تكالبت عليها الدنيا فلم تهزمها فاورثتنا العناد والمقاومة ، ان ابن هذه المدينة التي غزاها المرتزقة من كل الدنيا فصدتهم علي عتباتها وانتصرت ، ابن المدينه الباسله اللي علمتنا نقاوح ونعند ونقاوم وننتصر ومانسمحش للدنيا تكسرنا ، يقول زين ويقول ، كأنه علي خشبه مسرح يصول ويجول ، ونبيل جمهورة الوحيد ، يجلس في قاعه العرض وحيدا ينصت لكلمات صديقه بمنتهي الاهتمام ، كانا معا ، جالسين علي السطوح في ليله قمرية يتبادلا احاديث اخرسها الصمت الطويل والايام التي باعدت بينهما ، اتصل نبيل وزين دعاه للعشا واخبره ان ناديه مسافره مؤتمر ولن تعود قبل اسبوع وانه يحتاج ليتكلم ويبوح وانه يفتقد الايام الخوالي التي كان يتحدثا فيها طيله الليل حتي تشرق عليهما الشمس والحديث مازال ممتدا ، ابتسم زين وقتما سمع صوت نبيل وعرف دعوته ، هاهو للمره المليون لايطيق الوحده ولايصبر عليها ويخاف من نفسه وحسابها له ، تعالي من بدري يازين ، حاضر يانبيل حاجي !!!
وصل البنايه التي عاش فيها ايام طفولته وصباه وشبابه ، صعد السلم ودفء الذكريات يحاصره ، الله يرحمها خالتي نجوي ، علي بسطه السلم وقف صامتا ، هذه الشقه التي هاجروا اليها بعد رحله شتات بين المدن والشقق التي لم يجد وصفي نفسه فيها ولا رائحه بورسعيد علي جدرانها ، هذه الشقه هاجروا اليها وسرعان ماامتد الوصل بين الشقتين ، بين حضرة ارملة المقدم الشهيد وبين عم وصفي واسرته المهاجره تنتظر العودة ، علي هذا الباب وقف زين مع ابيه يطرقا الباب ليتعرف ابيه واسرته بحضرة ارمله المقدم الشهيد ، فتحت نجوي الباب بارتباك وقفت علي الباب وخلفها صغير يحدق في الغرباء بوجل ، اقترب منه وصفي واحتضنه بحنان اربكه ، قبله في رأسه وعرفه بزين ، وصارا اخوين وصار البيتين بيت واحد وجرت الدماء في عروق الجميع تكون رباط لايفك ولا يوم الدين ..
وقف زين يحدق في الباب قبلما يدق الجرس ، كيف افلحت ناديه ترسم اسوار ومسافات بين الشقتين ، كيف مزقت الوصل او حاولت وجمدت المشاعر او سعت ، كيف قررت تستأثر بنبيل وحدها بعيدا عن اسرته واهله وشقيقه الوحيد فخسرته للابد وضاع منها ومن الجميع ، غبية لحد مخيف ، اشفق عليها زين ، خائفه لحد مخيف ، خائفه جدا من الحياه التي لم تمنحها مكان بين عالمها الواسع فصنعت زنزانه اعتقلت نفسها فيها وحاولت تعتقل نبيل فانتحر ومات وضاع منها ...
زين يحكي ونبيل ينصت عله يفهم مالذي يعتمل في روحه ومالذي يعتمل في روح زين ، ونبيل يحكي وزين ينصت عله يفهم مالذي يمزق سكينه نبيل ويبعثر امانه ، تربينا معا وكبرنا معا ، لكنك غيري ، انا فقدت حماسي للحياه كلها وانت الحماس نفسه ، الملل غزاني واستبد بي واليأس ايضا وانت تنشر التفائل والامل بلا صخب ولا كلمات جوفاء ، كيف صرنا واصبحنا كل منا مثلما هو ، اشرح لي يازين ، اشرح لي ، ضحك زين ضحكات رنانه صاخبه ، كل شيء واضح لكنك لاتري وربما لن تري ، انت ابن الوجع والمرارة ، تجتر ايام حياتك وكأنها عقاب وقع عليك دون ذنب ، وانا ابن المقاومة تاريخي هزائم مؤقته وانتصارات باقيه ، انت ابن اليتم الذي كسرك او هكذا تظن ، وانا ابن التهجير الرضائي الذي قواني ودائما يقويني ، انت عشت بين الجدران لاتشعر بقيمتها ولامعناها تتوق للتحليق بعيدا ، وانا انتزعت من ارضي فبقيت غالية عزيزة  اتوق لاعود لها دائما ، هذا انا وهذا انت .. !!!
طيب وانا اتجوزت ناديه ليه ، علشان تستخبي !!! لم يفهم نبيل ، تستخبي يانبيل تستخبي فيها خفت تقعد لوحدك اسبوعين تلاته بعد ماخالتي نجوي ماتت ، تفكر في حياتك تتمرد عليها تواجهه مشاكلك وحزنك وتفنطه وتعرف ليه وعلشان ايه ، قررت تستخبي وتهرب من نفسك فكانت نادية ، فاكر لما كنت بتهرب للسطوح تستخبي من خالتي نجوي لما تتخانق معاك ، لاتواجهها ولا تغضب ، تجري تستخبي ، اهو انت لما الدنيا اتخانقت معاك ، قررت تجري تستخبي ، لاتواجهها ولا تغضب ، تجري تستخبي ، الاول نمت ونمت لغايه ماشكينا انك عيان وكبدك بايظ ، وبعدين صعت في الشوارع ليله واتنين خايف تروح تلاقي البيت فاضي ، انت قررت تستخبي في ناديه ، تهرب جواها ، ناديه اللي مش عاجباك دي ، ادتك مبرر زياده تغضب وتحس بالمرارة وتكره عيشتك ، انت كاره عيشتك يانبيل وبتدور علي سبب ، الاول كان اليتم والحرب وبعدين بقي القهر ودموع خالتي نجوي وفي الاخر بقت ناديه ، المهم فيه سبب تاني غير جنابك يخليك تكره حياتك !!!
مازالا علي السطوح الذي تحول لمسرح ، يتبادلا علي خشبته ادوار البطوله ، يستأثر كل منهما ببعض الوقت ليصبح  هو البطل الاوحد ، يلقي كلماته ويشرح وقبلما ينتهي يستعد الاخر للصعود لخشبه المسرح ليحكي ويقول و.............. العرض مستمر وسيستمر ...
انا تعبت يازين ، تعبت قوي ..
انت اللي تاعب نفسك وتاعب الدنيا كلها معاك ، اعمل اللي يريحك ، مش عارفه ، دور عليه ، دور علي اللي يريحك وتلاقي نفسك فيه ويسعدك ... انتبه نبيل لكلمة زين الاخير ، يسعدني ؟؟ طب انت ايه اللي يسعدك يازين ..
ضحك ضحكات متلاحقه ، كل حاجه باعملها في حياتي بتسعدني ، حياتك دي فين ، انت عايش في الصحراء ولابس الافرول ووسط العساكر وحياتك خشنة ، لاراضي تتجوز ولا بتحب ولا بتتشاقي ، نظر له زين نظره لوم وكأنه يقول له ايش عرفك ، حياتك فين بقي ؟؟
اللي انت بتقوله ده بالضبط بيسعدني ، رفع نبيل حاجبيه دهشه ، بيخلي لحياتي قيمه ، هو فيه حاجه بتسعد اكتر من كده ، ان يكون لحياتك قيمة !!!
التقط نبيل منه العباره واخذ يرددها ، هو فيه حاجه بتسعد اكتر من كده ، ان يكون لحياتك قيمة !!! التقط العباره واخذ يرددها وكأن يسأل نفسه ، كيف يكون لحياتي قيمة؟؟!! ...


وطال الليل وطال الحديث بينهما حتي اشرقت الشمس فرحل زين وعاد نبيل للشقه الخاويه ، القي بدنه علي الفراش يبحث عن نوم عزيز يبعده عن عقله وروحه عبارة زين والسؤال الذي احتله بعدها ، كيف يكون لحياتي قيمة ؟؟!! كيف يكون لحياتي قيمة !!! ..

" نهاية الجزء الثاني ويتبع بالجزء الثالث " 

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

مجدي السباعي
كالعاده عندما تصفين الحزن تبدعين وتتعمقي وكانك اقسمتي الا تتركينا والدوع تمطر من اعيوننا
حاسس بالحزن العميق المناسب للحدث
والذي اعتقد انه مقدمه لأحداث اكثر حزنا

او كما قلتي

فين بقي ؟؟
اللي انت بتقوله ده بالضبط بيسعدني ، رفع نبيل حاجبيه دهشه ، بيخلي لحياتي قيمه ، هو فيه حاجه بتسعد اكتر من كده ، ان يكون لحياتك قيمة !!!
التقط نبيل منه العباره واخذ يرددها ، هو فيه حاجه بتسعد اكتر من كده ، ان يكون لحياتك قيمة !!! التقط العباره واخذ يرددها وكأن يسأل نفسه ، كيف يكون لحياتي قيمة؟؟!! ...