مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

دموع ملونة علي جناح النورس ( الجزء الخامس )


الجزء الخامس 

و أغني ليه وزماني زماني ما سعدنيش
والفرحة بتواعد ولا توفيش
والليل بيطويني والآه على لساني
والحزن يخاويني ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني .. رماني .. رماني مانصفنيش


( 28 )
مين منا قدر يهرب من قدره ؟؟

علي مقهي الجيانولا ، جالسين يحدقا في بعضهما البعض ، ينتظرا ، كل منهما ينتظر الاخر يبدأ الحديث وينهي ذلك الخرس الموحش بينهما ، قرر زين يبادر ويفتح الحوار ، سأله وكأنه لاينتظر اجابته ، لسه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه يادكتور ، سؤال استنكاري لاينتظر له اجابه ، كأنه يذكره بكل مافعله في حياته وفيهم ، في حياة زين وعم وصفي وخالتي فردوس ، ضغط علي كلمه دكتور والفاظها ، كانه يقول له هل تتذكر وقت هجرت الطب واعلنت انه قرارك النهائي ثم عدت وعدلت عنه ، هل تذكر وقتها الحجج التي قلتها مبررا اغلاق عيادتك وتغيير مسار حياتك ، وهل تذكر الان الحجج التي بررت بها عودتك للعمل ، الحجج الاولي مقنعه والثانيه مقنعه ، المشكله لم تكن ابدا في الحجج ، المشكله كانت فيك وانت تاخذ القرارات وترجع عنها وتتناقض مع نفسك وتصمم علي شيء وترجع فيه وتتشبث به وتعدل عنه ، هل تذكر يانبيل ، هذا ماقالته كلمه يادكتور التي لفظها زين متعمدا يذكره بكل مايسقطه عمدا من ذاكرته ، لسه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه يادكتور ، فاكر اللي كان ولا نسيته ، كأن زين يقص عليه ماعاشاه معا ، فجأ هجرت عملك واغلقت عيادتك وقررت انك لاتريد الطب ولن تكون طبيبا بعد اليوم ، فجأ اخبرت ناديه انك سترحل وتتركها هي ونورة ، تخففت من احمالك وفررت من معركتك ورفعت الرايه البيضاء بمنتهي الانانيه ، فاكر ؟؟
 يتذكر زين ذلك اليوم وكأنه امس ، فجأ اتصلت به ناديه تصرخ لان نبيل جن ، اغلق العياده ومنح العاملين فيها مكافأه نهايه الخدمه وقرر يتقاعد ، تصرخ في الاربعين من عمره ويتقاعد يازين ، صاحبك اتجنن ، شرحت له انه غادر البيت واخبرها انه سيعيش حر براحته ولن يعود ، تصرخ في زين ، صاحبك اتجنن بجد ياحضرة الضابط ، وعدها يفهم الامر من نبيل ويشرحه لها ، انهي المكالمه وبحث عنه وجده جالسا في النادي تحت شجره ظليله ممدا ساقيه علي مقعد امامه يحتسي قهوه بمزاج ، يومها رآه مجنونا احمق لانه افسد حياته بعد كل النجاح الذي وصل له ، لكنه لاحظ ايضا ان ملامحه راضيه هانئه كما لم يراه من قبل ، انت فين يااخ قلبت الدنيا عليك ، ضحك نبيل ، طبعا الدكتورة كلمتك وصرخت واشتكت من جنوني ، توعدته انه ستفضح جنونه ولن تصمت عليه ولن تقبل ماقرره ، لما تبطل الطب تعمل ايه ، استريح واعيش ، قصدك تبقي صايع ، حابقي صايع ، ومين قال اني مستعده يكون جوزي صايع ، ابتسم نبيل ، ليتها تكون اللحظه الموعوده التي تعلن فيها رغبتها في الانفصال عنه ، سيحقق لها طلبها فورا ويمنحها كل حقوقها ويزيد ويختفي من حياتها ، انتظر تطالبه بالطلاق لكنها لم تفعل كادت وامسكت لسانها في اللحظه الاخيرة ، انا مش موافقه ومش حاسكت علي كده ، تمني يضربها علي وجهها ضربات متلاحقه ، من انتي لتوافقي وترفضي ، هذه حياتي انا وليست حياتك ، الستي طبيبه مشهورة ، الا تمتلأ عيادتك بالمرضي ، الست سعيده بتكديس النقود في البنك وشراء العقارات التي ستؤمن مستقبلك ومستقبل ابنتك ، الستي راضيه عن اختياراتك وتعيشي اجمل ايام حياتك تعويضا لكي عن الضياع الذي عشتيه مع زوجه ابيك المستبده وابيكي السلبي ، انت راضيه عن اختياراتك وانا لا اتدخل فيها ، مالك ومالي يادكتورة ، يتمني يصرخ فيها ويضربها ، خضوعي لك له حدود واستبدادك له سقف لن تتجاوزيه وساكف عن الطب والعمل واغلق العياده وارحل عنكي وعن حياتك ، سارحل بعيدا ، ساجلس في النادي احتسي القهوه واقرأ الكتب المكدسه علي مكتبي منذ سنين لااجد لقراءتها وقت واعيش كما احب اعيش ، توعدته ، انت اتجننت ، بمعني اخر انت مكتئب ولازم تشوف طبيب نفسي يساعدك ، ضحك ضحكات متلاحقه افقدتها رشدها ورزانتها ، جنت من ضحكه الذي تلاحق صاخبا بلا نهايه ، اخيرا عرفتي اني مكتئب ، اخيرا عرفت معني حياتي معك وصحبتك لي ، اخيرا فهمت كل مايضغط علي روحي ويقهرني ، صحبتك افسدت حياتي ، تاره بالهروب منك فانغمست في العمل وتاره بالكف عن العمل لاعيش الحياه التي ضاعت وسط الاكتئاب والزحمه ، انا كويس ومش محتاج دكتور نفساني وعاقل وسيد العاقلين وعارف باعمل ايه كويس ، وانتهي الحوار الصاخب والمشاجره الحقماء بخروجه من المنزل ورطمه لبابه بقوه وغضب حتي كاد ينخلع ...
اتصلت هي بزين لتشكوه له ، وتطالبه بحق الاخوه والجيره القديمه يتدخل ليعيد له عقله الجامح ورزانته الضائعه ، الناس تقول عليه ايه وتقول علينا ايه ، لاتفكر الا في نفسها وشكلها وكلام الناس ، هذه هي الدكتورة ناديه وكل اهتمامها بالامر ، لاتفكر في نبيل ومالذي دفعه ليتخذ ذلك القرار الخطير ، يتقاعد ويهجر الطب ويغلق العياده ويرحل عن المنزل ويغير مسار حياته ، لاتفكر في نبيل ولاتهتم به ، اما هو فيفكر فيه اساسا ، بحث عنه ووجده في النادي ، رمي جسده علي المقعد امامه واخذ يحدق فيه ينتظر تفسيرا ، لا يحتاج نبيل لاسئله من زين ليجاوب عليها ، هو يعرف كل مايدور في نفس زين وسيمنحه الاجابات التي يتمناها ، تعجبه او لاتعجبه هذا ليس مهم ، المهم ، انه سيمنحه الاجابات ويزيل الضباب من فوق حدقيته فيراه جيدا ، يختلف معه ، ربما ، الارجح ، كعادتهما ، هذا ليس مهم ، المهم انه سيفهم!!!
لسه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه يادكتور ، قال زين وانتظر نبيل يجيبه ويشرح له ، ناوي يعمل في نفسه ايه ، لكن نبيل لايرد ولايتحدث ، والصمت الموحش بينهما يستشري ويستشري ، يحدق فيه نبيل ولاينطق ، كعادته سيعيده زين تلميذا صغيرا يتيما بلا سند يعاقبه المدرس بقسوة وعنف ، كعادته زين سيقرع راسه بمعول نصائحه ودروسه , ونورة ذنبها ايه ؟؟ يذكره زين بما يتناساه عامدا ، جاي تقولي النهارده انك حتطلق ناديه ، يصمت نبيل ولايرد ، لقد شرح رغبته لزين الذي استمع له جيدا وانتظره يفرغ من حديثه ليهاجمه ويكسر منطقه وحججه عله يثنيه عما في رأسه ، يذكره زين بما يتناساه عامدا متعامدا ، نورة ذنبها ايه ، نورة ابنتك الصغيره التي ستطلق امها لانك احببت اخري هي ستدفع ثمن عبثك واستهتارك ، يصمت نبيل ولايرد عليه ، طال بينهما الصمت حتي كاد زين يطلب من نادل القهوه الحساب ويرحل تاركا نبيل غارقا في صمته وجموحه لكنه يهتم بامر نبيل كعادته ولن يتركه يدمر حياته استهتارا وعبثا ...
فوجيء زين واثناء اجازته القصيره بنبيل يدق جرس منزلهم ، فتحت فردوس وصرخت لاتصدق ان نبيل افلح ينتشل نفسه من كل مشغولياته ويأتي لزيارتهم ، صرخت ترحب به وهي تخنقه في احضانها بذراعيها القويتين ، ترحب به وتبكي فرحه لان الابن الضال عاد بعد طول غياب لحضنها وبيتها واسرتها ، رحب به وصفي فرحا وعاتبه لان سنين طوال مرت وهو غائب لايسأل ولا يصل الود الذي كان ، امسكت به فردوس ليتغدي معهم فوافقها مشتاقا لبعض الدفء الاسري الذي افتقده بعدما رحلوا عن القاهره لمدينتهم وبعدما ماتت امه وبعدما تزوج الدكتورة ناديه التي اتي اليوم خصصيا لزيارتهم ليتحدث مع زين عن رغبته في تطليقها ، خرج زين من حجرته واحتضنه ، احتضنه غاضبا من غيابه لكن قلبه ينتفض فزعا ، لايأتي بنبيل الا الشديد القوي ، يتمناه يحكي ويتمني يسمع ويتمني يخيب الله رجاءه ولا يفاجئه نبيل بكارثه احتار وحده في الخروج من براثنها ، علي منضده الطعام ، ووصفي يراكم الشبار في طبقه محتفيا كريما وفردوس تقشر له الجمبري ، حدق فيه زين متأملا فاحصا عله يهتدي لمبرر الزياره الغريبه وسببها ، كاد يتعجب من صدفه وجوده في البيت وقت الزياره المفاجئه لنبيل ، لكن نبيل لم يترك لتعجبه مبرر وقتما افصح انه اتصل به في وحدته فاخبروه انه في اجازه فعقد عزمه وحضر لبورسعيد بحثا عن وعن بعض الدفء ووصل الايام الجميله التي كانت ، المأزق كبير والازمه اكبر ، همس زين لنفسه وانتظر بفروغ الصبر يفرغا من طعامهما ويرحلا خارج المنزل معا ليكشف له نبيل سر معاناته التي احضرته لبورسعيد ، مازالت فردوس تتحدث وتساله عن اخباره وزوجته وابنته ، ومازال وصفي يتحسس طريقه وسط الاسوار العاليه التي يبنيها نبيل امام كل اسئلته وفضوله ، فقط زين الذي بقي صامتا يعرف ان نبيل لن يسمعه علي منضده الطعام وان مااتي به اكبر كثيرا من مجرد كلمات عابره او فارغه تتبعثر وسط اشواك السمك ورؤوسه المكدسه وسط المنضده و............. حنشرب الشاي في الجاينولا ياام زين و........ما تأمريناش بحاجه وسحب نبيل من ذراعه مسرعا واغلق الباب خلفهما متجاهلا غضب فردوس منهما لانها "مالحقتش تشبع منهم وهما اللي لسه واصلين" .......
ايه الحكايه بقي ، وقبلما يحيك زين الكمائن حول نبيل ليجبره يتحدث ، حكي له نبيل عن ليلي ، القمر الذي شق بهيم ليله والطيبه التي صالحته علي الزمن القاسي ، الورده التي فاحت بعبيرها وسط صحراءه والسيدة التي طمأنته وهو المفزوع المرتاع طيله العمر ، ليلي ؟؟ سأله زين مستنكرا ، ايوه يازين ليلي ، وبسرعه قص عليه انها كبيرة الممرضات في المستشفي ، جميله بسيطه بريئه و......... وتمني نبيل لو يتركه زين يقص عليه قصه حبه وعشقه لليلي ، تمني لكن زين اجهض امنيته سريعا ونهره لانه يتصرف كالمراهقين السذج والمتصابين الحمقي وانه راجل بالغ وكبير ورب اسره ومتجوز وليك بنت زي القمر واللي بتعمله ده مايصحش يادكتور و..................هو يعني تدمر حياتك وتهجر شغلك وتقفل عيادتك ، ولما تقرر ترجع لحياتك وشغلك برضه تدمر حياتك بس بطريقه تانيه ، ايه يااخي انت مصمم تنتحر ليه ؟؟ يصمت نبيل ولايرد عليه ويتمناه يصمت حتي ينهي قصه حبه وعشقه للجميله ليلي ، لكن زين لايصمت ويكيل له اللكمات فوق اللكمات ، كلمات موجعه تذكره بقسوه اختياره علي ابنته التي لايحب احد في الدنيا مثلما يحبها ، ينصت نبيل لحديثه صامتا وكأنه يقول له كل ماتقوله لايعنيني ... ادرك زين ان شيئ لن يثني نبيل عن قصده ولن يخرجه من اسر العشق ولن ينقذ اسرته من جموحه وتمرده وهاويه الغرام التي سقط فيها ، حاول زين وحاول لكن نبيل لم يخضع لصرامته ولم يبتز بسيرة ابنته ومصيرها الموحش الذي قد تواجهه لوطلق نبيل امها وتركها ريشه في مهب الريح تواجه مصيرها كاليتامي الضعفاء وابيها علي قيد الحياة !!!
يادكتور سمعتك تبوظ وشغلك اللي سبت كل حاجه في الدنيا علشانه وبعدين سبته وبعدين رجعت له يتأثر وتهد المعبد فوق راسك وتدفع التمن مرتين انت وبنتك وكل حبايبك ، لسه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه ؟؟ سؤال لايعرف نبيل اجابته ، كل مايعرفه ان ليلي تستاهل ان يضحي من اجلها بكل شيء واي شيء ولو كان استقرار ابنته وهدم بيته واسرته و.............. ناديه حست باي حاجه ، يحاول زين فهم ابعاد المعركه التي يعيشها نبيل ، يحاول انقاذه من نفسه ، ضحك نبيل ، ناديه عمرها ماحست بيا يازين ، حتحس بيا النهارده ؟؟ كاد زين يتشاجر معه ، يصرخ في وجهه ، ماانت السبب ، ماانت اللي روحت اتجوزتها وماسمعتش كلام حد وكالعاده بعدت ، كل ماتيجي تعمل مصيبه تبعد وتستخبي زي العيال ، ضحك نبيل بصوت عالي ضحكات متلاحقه ، بس المره دي انا لابعدت ولا استخبيت ، بالعكس جيت لك برجليا علشان اقولك واصارحك واطلب منك تقف معايا وجنبي ، لما اتجوزت ناديه غلطت ، مش معني كده اني اضيع حياتي كلها ادفع تمن الغلطه دي ،باسي حدق فيه زين ، ياريت انت اللي حتدفع تمنها لوحدك ، اللي حيدفع تمن حمقك في الاول وفي الاخر بنتك ، نورة !!!
تنهد نبيل باسي ، قدرها يازين ، قدرها كده ، مين منا قدر يهرب من قدره !!!
صمت زين وعينيه تلوماه لانه اليوم هوالذي يصنع قدر ابنته الموحشه ويحتجزها فيه ، محدش قدر يهرب من قدره ولاحد قدر ينقذنا منه ، لكنك النهارده تقدر ، تقدر تنقذ نورة من القدر ده ، لكنك ياسعاده الدكتور بدل ماتنقذها ، انت اللي تصنع لها القدر المخيف وتدفعها اليه !!!
زين يلومه كالعاده وهوصامتا كالعاده وراسه كالحجر الصوان عنيده و..... سيطلق ناديه ويتجوز ليلي واللي يحصل يحصل .................  وصمت زين غاضبا وفهم نبيل صمته وغضبه وعرف ان بروده وجفاء سيمزقا الوصل بينها ولو مؤقتا ، هذا ماتصوره نبيل ، لم يتصور ابدا ان يطول بينهما الجفاء حتي يبكي امامه وهو جريحا ينازع الموت علي منضده العمليات بين يديه !!!

( 28 )
الدكتورة نادية

حدق فيها زين وادرك عمق وحدة نبيل وقدر وجعه وقسوة اختياراته ، اتصل به واخبره انه في اجازه قصيره للقاهره ويتمني يراه ، دعاه نبيل للشقه التي شهدت اخوتهما واقتسامها للحزن والحياه ، تعالي اسهر معانا في البيت واتعرف علي الدكتورة ناديه ، ان شاءالله ، همس زين واغلق الخط حزينا ، سيذهب لنبيل ويتعرف علي زوجته التي تزوجها وبسرعه وقبلما تمر ذكري اربعين امه ، تزوجها لان الوحدة واليتم قهراه وموت نجوي جدد احزانه فتآمر علي نفسه وتزوج في صمت وبملابس الحداد وعلي غرفه نوم امه وفي الشقه القديمه التي تمني لو قوي يغاردها ويخلق لنفسه حياه جديده في مكان اخر بعيدا عن تراكمات الاحزان واليتم ..
تتعرف علي الدكتورة نادية !!!! وقفت الجمله في حلق زين وخنقته ، احس الحواجز الرهيبه بين الزوجة التي ستقاسم اخيه حياته ، حواجز بينه وبينها وربما والارجح انها بين نبيل وبينها ... الدكتورة ، الدكتورة ، الدكتوره .... يردد لقبها ووظيفتها وطريقه نبيل في تعريفه بها واحس حزن يغشاه واحس قسوه الحياه عليهما ، فحين نقرر نفرح نقع في ابيار مفتوحه من الحزن تنادينا فنذهب!!!
الدكتورة ناديه الدكتورة نادية !!!ا
في التاسعه فتحت الدكتورة نادية باب الشقه رحبت بزين ودعته لحجرة الصالون ، فادرك زين ان الشقه التي كانت يتصورها شقته صارت مكانا غريبا وصار مكانه حجرة الصالون ككل الغرباء ، ذكرته نادية بدمية الالمبي التي طالما احتفل اهل مدينته بحرقها في ليله شمس النسيم ، شعرها الاشعث وسمرتها الكالحة وعينيها الصغيرتين مثل الدمية التي طالما سخرت منها المدينه الباسله والنار تلتهم قشها وخشبها وجسدها المقدد وسط احتفالات كبيرة صاخبه ، الاحتفال والحريق طقوس تداعب خيال زين بصور بعيده عاشها قبل الهجره مع ابيه الذي اصطحبه للسعيديه واحتسي النارجيله والشاي وجره وسط الزحمه ليشهد الاحتفال البورسعيدي الخاص ، يذكر انه كان تائها وسط الزحام وارجل الكبار والنار المشتعله تخيفه وابيه يضحك ويحمله للسماء فوق كتفيه العاليين ليري مالذي يحدث وسط الحلقه الكبيرة التي تحترق دمية الالنبي وسطها ، مازال صخب السمسميه والتصفيق والهتافات المتحديه واصوات الفرجه التي تمزق سكون الليل والنار تتطاير في ذرات قش صغيرة ، كل هذا مازال يدوي في اذنه ، لماذا تذكره الان وقتما فتحت له الدكتور ناديه باب شقه خالتي نجوي التي لم تعد شقتها ولا شقه الاسرة ولا شقته  ، لماذا تذكر القش المحترق المتطاير في السماء وهو يري رأسها الاشعث والايشارب الصغير الذي تخبيء به نثرات شعرها فوق جبهتها فتتطاير خلف رأسها فوق كتفيها ، لايعرف ، كل مايعرفه انه لم يحب تلك الدكتوره واحس غربه تجاهها وخشي علي شقيقه من جفاءها البادي !!!
رحب به نبيل ترحاب كبير واحتضنه فترك زين جسده وسط ذراعيه ، يتمني يخطفه خارج الشقه ليسمع منه لماذا اختار تلك السيده وتزوج تلك الزيجه ولماذا قرر يعيش الوحشه ويغلق امام قلبه وايام حياته ابواب الرحمه والفرحه ، لكنه لم يقوي ينطق ، تسللت الدكتورة علي الكنبه الكبيرة بجوار زوجها وكأنها تقول لهما معا ، انا هنا ، معكم ، الحق انا هنا مع نبيل وانت مجرد ضيف وان طالت جلستك ، تحتسي قهوتك وواجبك وتطمئن علي صديقك زوجي وترحل !!!
احاسيسها البارده وصلته ، وعدم ترحابها به من اعماق نفسها نغزته في قلبه وتمني لو يرحل سريعا وينهي تلك الزياره الموجعه ، همس له وهي تجهز الشاي ، ليه ياابن الكلب ، ابتسم نبيل يائسا ، كله محصل بعضه ، وقبلما يلكمه في وجهه حانقا عليه ، دخلت ناديه بالشاي والكيك والطقم الصيني الذي طالما تمنت خالتي نجوي تخرجه يوم فرح نبيل يوم الفرحه الكبيرة ، فماتت وبقي الادراج حبيسا حتي استعملته ناديه بلا فرحة ، احتسي زين الشاي بسرعه وودعهما ورحل ، علي بسطه السلم التي طالما شهدت قربهما كاد يبكي ، هي شقت صدريهما ومزقت الحب والقرب بينهما عن عمد قاصده ، تختطف صديقه واخيه من حضنه وتزرع شوك وحنظل و............... تمني لو احرقها فرحا مثل الالنبي واحس بعض الفرح وهو يتصورها تحترق وتصرخ وخجل من نفسه وترك البنايه حزينا !!!
باعدت نادية بين زين ونبيل ، الحق انها باعدت بين نبيل وبين كل حياته السابقه وكأنها قررت تحتل كل تفاصيل حياته منذ ولد وحتي يموت ، دعتها فردوس لزيارتهما للاحتفاء بها وبزواجهما فاعتذرت لانها لاتقوي علي ترك عملها ، اتصل بها وصفي يخبرها برغبته في زيارتها والمباركه لها بالزواج الميمون فاعطته ميعادا مستحيلا في الرابعه مساءا قبل نزولها لان عندها عياده ومش عارفه حترجع امتي ففهم رسالتها وارسل لنبيل ظرفا به " نقطته " وصمت وابتعد ، نهر وصفي فردوس وقتهما بكت لان الست الدكتورة خطفت نبيل ، نهرها وافهمها انهما موجودان وسيظلا وحين يحتاجهما نبيل سيجد حضنهما الدافء مفتوح و" كفايه نكد " ، احسها وصفي تشبه قوات الاحتلال الاسرائيلي التي هددت مدينتهم فهجرتهم منها ، لم تحتل المدينه لكنها هجرت اهلها منها ، هي الدكتورة ناديه كالاحتلال الاسرائيلي هجرت نبيل من حضنهم او تسعي لهذا ويتمني الا تفلح !!!

( 29 )
ماتيجي معايا انت

يسيرا امام المحطة صامتين ، يدخلا من بوابتها العاليه تحت الساعه الكبيرة ، هي لحظه وداع مثل كل لحظات الوداع التي عاشاها معا وعاشها كل منهما وحده ، زين ينتظر القطار الذي سيحمله لمدينته في اجازه قصيره يعود بعدها لكليته الصارمة  ، ونبيل معه في المحطه يودعه ، يودعه ويبحث عن القطار الذي سيعود بابيه لحضنه ، يسيرا صامتين ، يعرف زين وطئة لحظات الوداع علي نبيل ، ويعرف نبيل انه يعرف فيصمت لايشكو له مايشعر به ولامايوجعه ،  فمالذي ستفعله الشكوي واظهار الوجع في واقع قاسي يعيشه وذكريات موحشه تطارده ، يقفا علي الرصيف ينتظرا القطار القادم بعد عده دقائق كمان تقول الاذاعه الداخليه للمحطه ، يقفا صامتين ..
 حر الصيف حارق والذكريات ايضا ، في صيف بعيد مثل هذا الصيف ، وقف نبيل علي الرصيف في قبضه امه ينتظر ابيه العائد من بعيد ، واليوم يقف ليودع زين ، ومابين الانتظار واللقاء والانتظار والوداع يجري الوقت ويوجعه ، صامتا يحاول يتذكر وجه ابيه بصعوبه ، كان يأتي لاجازاته فيحمله للسماء ويجلسه علي ركبته ويقص عليه ما يعيشه في الايام التي يرحل فيها عن البيت ، يقص له عن الصحراء واكل الثعابين والنصر الذي سيحققه وكل زملاءه ، يتذكر وجه ابيه بصعوبه وحين يقبض علي بعض ملامحه تفر منه العينين ، غائبتان غائمتان ، يتذكره نبيل ويتمني معجزه من السماء ، معجزه تعيد الحياه لابيه وبرقيه تصل لامه تهنئها بسلامته وتخطرها بميعاد رجوعه ، يومها ستحمم نبيل وتلبسه اانق ملابسه وتسحبه من يدي لرصيف المحطه تنتظر القطار العائد بالحبيب ، لكن السماء تضن علي نبيل بمعجزاتها ، لن يعود ابيه ولن ينتظره بفرحه علي رصيف المحطه ولن تشتري له امه الفشار الساخن وزجاجه العصير ، السماء تضن عليه بمعجزاتها ، الان هو هنا علي نفس الرصيف ، يودع زين العائد لمدينته ، احس حقدا علي زين الذي يحب مدينته التي قست عليه فلم يقسي هو عليه ولم ينساها ولم يخلعها من قلبه ، احسد حقدا علي زين العائد لحضن امه الطيبه وصحبه ابيه الحكيم ، عكسه هو ، لايحب المدينه التي لاتمنحه الا دموعها و حانق علي امه التي اوصدت احضانها البارده في وجه وغاضب من ابيه الذي رحل وتركه يتيما صغيرا ، هو علي نفس الرصيف والقطارات تتسارع امام عينيه لكنها لاتأتيه بالفرحه بل تمنحه حزن دفين ، وهو هناك لحظه اكثر وجعا وقتما تمزق القطارات روحه وتحمل زين بعيدا عنه ، وكأن كل الحزن الذي تجرع سمه سنوات طويله لايكفي !!!
يتمني لو سأل زين البقاء ، لو سأله يؤجله زيارته للمدينه واهلها لاجازته القادمه ، لو سأله سيبقي معه ، لكنه لن يفعل ، وكلها دقائق وان طالت سيرحل زين للقنال والبحر ومدينة المقاومه وعم وصفي ويتركه ضائعا وسط زحام المدينه وابواق سياراتها الصاخبه يبحث عن سكينه تهدهد روحه ، يتركه وحيدا بعدما بدد وحدته سنوات طويله ، هو يعني لازم تسافر يازين ؟؟ يساله نبيل فيبتسم زين برقة ، عمك وصفي وخالتك فردوس يموتوني لو ماسافرتش ، يصمت نبيل ، والحق كمان كل حاجه هناك وحشتني ، اجازه قصيره وارجع جري ، المره الجايه حاقضي الاجازه كلها معاك ، يبتسم نبيل ويصمت لكن الحزن يلون ابتسامته بزرقه كئيبه يعرفها زين ، لن اشحذ وجودك مثلما اشحذ بعض البهجه في الحياه ، ماتيجي معايا انت ، همس زين فانتعشت روح نبيل ، سيسافر معه لبور سعيد وعم وصفي وخالتي فردوس والتراسينه ، سيسافر معه ويسرق بعض لحظات البهجه والدفء العائلي والونس ، سيسافر معه ويشحن روحه ببعض الحنان والحنية فيقويها لتتحمل مايعيش من خرس ووحشه في البيت المسكون بالحزن ... وعلت صافرة القطار وصعد زين للعربة وهو يسحب نبيل من ذراعه ليسافر معه ، حنكلم خالتي نجوي لما نوصل ونطمنها عليك وياريت هي كمان تحصلنا دول يومين مالهمش تالت و.......... جلسا متجاورين في القطار صامتين ، كالعادة يسحب زين نبيل من ذراعه لينتشله مما يوجعه في اللحظه المناسبة و............... يعلو صوت البيانو من كازينو بالاس يخيم علي ارواحهما المحلقه نحو السعاده لبعض الوقت ....

( 30 )
اوعي تموت

اقترب من رأسه ومرر اصابعه علي شعره وكأنه صغيره النائم ببراءة وطمأنينه ..سحب مقعده واقترب من الفراش ، جلس صامتا وكأنه يحصي الانفاس الصاعده البطيئه ، كأنه يخاف يغفل عنها فتتوقف ، اقترب اكثر واكثر بجسده من الجسد المسجي علي فراشه موصولا بالشاشات ، انا عارف انك سامعني يازين ، همس نبيل ، انت سامعني ، يبحث عن اصابعه مدفونه تحت الغطاء ، يقبض عليها ، لو سامعني دوس علي صباعي ارمش بعينيك ، ايديني اماره انك سامعني ، يصمت وينتظر اي اشاره يمنحها له الجسد لتطمئنه ، لكن الجسد يبقي ساكنا ..
اعرف انك تسمعني يازين مثلما اعتدت تسمعني دائما ، اعرف ان قلبك معي وروحك ايضا ، لااظنك بحق غاضبا مني مثلما ادعيت الفتره الماضية ، كنت غاضبا مني حرصا علي ، رافضا اختياراتي ، حاولت تثنيني عنها وحاولت اسايرك لتصمت ، لكنك لم تصمت !!!
يهمس نبيل في اذن زين ، يتمناه يفتح عينيه ويصفح عنه ، يطمئنه انه لم يعد غاضبا منه وانه صالحه وانهما كانا ومازالا اخوين ، لكن زين ينازع الموت ويصارع الحياه ليبقي ، لايملك الان في هذه اللحظه مايقوي يطئمن نبيل به ، مازال جالسا بجواره وشفتيه في تجويف اذنه واصابعه تقبض علي اصابع زين ، اوعي تموت يازين اوعي تموت !!!
يحدق نبيل في الشاشات ، الضغط والنبض وكل شيء مطمئن لكنه لن يطمئن الا اذا فتح زين عينيه وعرف ان نبيل بجواره وانه تخلي عن حياته التي طالما تشاجر معه ليخرج منها ويرتدي جلده وتاريخه وحياه ابيه ، اوعي تموت يازين !!!

( 31 )
هل كنت تعلم ؟؟

انها مستشفي صغيرة ، ربما هنا وربما هناك ، موقعها الخريطه لايهمنا ، اليها يأتي الابطال في نضالهم الاخير مع الحياه علهم ينتصروا علي الرحيل فيبقوا ويحاربوا وينتصروا ويرحلوا ، وربما يرحلوا فرحين بمواكب الفخر التي تأتيهم لتحملهم بعيدا للسماء تاركين مواقعهم للابطال الاتين من بعدهم حتما ..
زياره قصيره لاحد المعارف راقدا علي الفراش المعدني البارد في تلك المستشفي افلحت تعيد نبيل للطب بعدما هجره ثلاث سنوات ، تأثر لحاله المستشفي التي يناضل اطباءها لانقاذ حياه مرضاهم ، وسط  الجدران الخضراء والغرفه الصغيره التي يرقد فيها المريض داهمه الشوق ليعود لعمله الذي استقوي عليه وهجره ، احس المستشفي تحتاجه ومرضاها يتمنوا وجوده ليعالجهم ، زهد الرفاهيه البارده التي عاشها السنوات الثلاث ، يقرأ في الصحف والكتب ويحتسي القهوة والشاي ويتشاجر مع ناديه ويلعب مع نورة وتجري الايام كالرمال الخشنه بين كفه تمزق روحه ، لم يكن العمل مشكلتك يانبيل ولم تسعد بتركه ، كنت تنقذ المرضي وتساعدهم يتحملوا الامهم واوجاعهم ، كففت عن مساعده الاخرين وتسخير علمك ومعرفتك لصالحهم فبارت روحك كالارض الشراقي لاتجد من يرويها ومن عطش لعطش تنام وتستيقظ ، في المستشفي الصغير استيقظت روحه ، رائحه المطهرات والادوية والدماء الساخنه ايقظوا في روحه معني وقيمه تعمد ينساها ، صوت التوجع المحزن والالم العنيف وزغاريد الفرحه بالشفاء وتمتمات الشكر وادعيه الرجاء والتمني ، كل هذا داهمه فجأ وهو في المستشفي الصغير ، احسها المكان الذي كان يبحث عنه ، لن يعود لعيادته ولن يتنقل بين المستشفيات الاستثماريه ينقذ المرضي باموالهم الكثيرة ، سيمنح هؤلاء الابطال وقته وروحه وحياته وعلمه عله ينقذهم من الموت الذي يحلق دائما فوق رؤوسهم وهما يحاربون ويقاتلون ويقدمون حياتهم رخيصه للوطن ، لماذا تذكر ابيه ، هل لو عثر ابيه وقت اصابته بالشظيه القاتله علي طبيب مثله ، هل كان سينقذه ويبقيه في حياته ويقيه من اليتم الموجع ، ربما زاره هذا المريض ليعود للطب محاربا في حياه الابطال عله ينقذ اولادهم من اليتم والقهره ، ساعود للعمل هنا ، وليس في اي مكان اخر ، هذه المستشفي الصغيره تتمناني بين اسره اطبائها حتي لو لم تبوح برغبتها التي تبدو مستحيله ، لكن سمعت صوت رجاءها وقبلته ، افسحي لي بين جدرانك حضنا وامنحيني من مناضد عملياتك واحده وساعديني اعود لنفسي واساعد الابطال يعودوا لاسرهم واطفالهم ووطنهم ، ساعديني اعود لنفسي ، همس للمستشفي وكأنها امه التي طال غيابه عن حضنها ، ربما عملي هنا يمنح حياتي قيمه تسعدني ، همس لنفسه وتمني لو يسأل زين ، تفتكر ؟؟ عرض الامر علي مدير المستشفي الذي رحب به سعيدا بانضمامه لاسرة المستشفي واطباءها  المقاتلون الغازلون برجل الحمار وسط الظروف القاسيه لانقاذ حياه الابطال ، وبسرعه ، ارتدي البالطو الابيض وعاد للمرضي ووجعهم وانغمس بسرعه في العمليات وانقاذ الابطال والبكاء علي حياه من رفض معاونته وادويته وبراعته ورحل للسماء ، لماذا جئت لتلك المستشفي يانبيل ، هل كنت تعلم ؟؟ هل كنت تعلم ان حظك العثر سيأتي بزين تحت مبضعك وعلي منضده عملياتك لتحاول تنقذه بعدما انهارت عليه الجدران واصابت الشظايا جسده فمزقته ؟؟
ارتدي الملابس المعقمه وقبع في غرفه العمليات يسخر علمه لانقاذ الاحباء الابطال ، ربما يفلح يقي طفله صغيره جرح اليتم ، ربما يفلح ينقذ شابه من الترمل ووجعه ، ربما يفلح يقي هرم طاعن دموع القهره وابنه الغالي يرحل ويتركه يتوجع بفقده ، كفاك كل ماضاع يانبيل ، كفاك توهه ، الان صرخ النداء يستدعيك فلبي ايها الرجل وكفاك انانيه وغرق في تفاصيل الحياه اللعينه !!!
مااصعب الاختيار ، همس نبيل لنفسه ، الاختيار ثمن ، وانت يانبيل دفعت الثمن في البدايه دون اختيار واليوم عليك تدفعه راضيا صاغرا سعيدا ، الان الاختيار ان تكون بدلا ماكنت بلا معني ولاقيمه ، الان الاختيار ان تكون ، ابتسم نبيل ، اختار وانتهي الامر علي صعوبة ماعاشه وماقرره ، وهاهو الان في المستشفي الصغير يؤدي واجبه الذي طالما تقاعس عنه ..
هل كان يعلم كل ماسيعيشه في تلك المستشفي التي اختارت الطياره تحمل زين وجسده الممزق لها ، هل كان يعلم ان قلب خالتي فردوس وعم وصفي سيكون تحت سن مبعضه وبين غرز ابره خيطه وهو يرتق جسد الحبيب الغالي ، هل كان يعلم ان تلك المستشفي بالذات ستعيده لزين وتعيد زين له بعد طول جفاء ؟؟؟ لم يكن يعلم ، ومن يعلم مالذي يخبئه لنا القدر من مفاجأت ... 

( 32 )
مصيري كله في يديك

خرج من غرفه العمليات ، نقلوه لغرفة العنايه المركزة ، ثمانيه واربعين ساعه هم الاصعب في حياتهما ، حياه زين ونبيل ، اخرجوه من غرفه العمليات والابر منغرسه في ذراعه ورقبته توصل الادوية والحياه لاوردته ، نقلوه لفراشه واوصلوا الشاشات بجسده تقرأ مالذي يحدث وسط ذلك السكون المريب ، الغرفه صامته الا من انفاسه البطيئه ، نور هاديء بعيد يرمي بظلال الجدران علي جسده ، بعض الضوء يأتي اخضرا من الشاشات يلون ملامحه بغرابة وترقب ، يجلس نبيل علي مقعدا بجواره ، يعد انفاسه ويراقب اختلاجات عضلات وجهه وينتظر اي اشاره تخبره ان مريضه سيجتاز مرحله الخطر ، يراقب الشاشات والنبض والضغط ودقات القلب ، يراقب المحاليل تقطر شفاءها في اوردته ، يراقب صدره يعلو ، ينصت لدقات قلبه البطيئه يخشي تفر واحده منها فيفر منه صديقه ومريضه واخوه وكل معني الحياة ..
ساعات طويله خلع رداءه الابيض وهدوء الاطباء وارتدي نفسه وخوفه علي صديقه واخيه ، اغلق باب الحجره عليهما واحتجز نفسه معه في ساعات القلق المرعبه ، تتناوب عليه الممرضات ، يغيرين قوارير المحاليل ويقسن الحرارة ويتابعن النبض والضغط ويكتبوا للدكتور نبيل وقتما يعود طبيب كل ملاحظاتهم علي الحاله الصحيه لمريضه الذي يلتصق بفراشه الان كصديق واخ وعشره عمر ، يقترب بمقعده من فراشه ، يتمني لو يفسح له زين بجواره علي الفراش ، يتمني لو يفسح له مكان فيمدد جسده علي ذات الفراش ويحتويه بذراعيه ويمنحه من انفاسه انفاس تمنحه بعض الحياة او كثير منها ، يتمني ياخذ رأسه المسيج بالشاش والاشرطه اللاصقه في حضنه وكأنه سيرممها ويلصق عظامها المفتته ببعضها ، الان لم اعد طبيبا ولاارغب ، الان لم اعد طبيبا ولن اكون ، اما تشفي وتعبر برزخ الموت المعد لانتظارك فتمنحني قوة اكمل بها طريقي واما نرحل معا ، انت عن الحياه كلها وانا عن الحياه التي اعرفها ولم اعد ارغب في مزيد منها ، الان لم اعد طبيبا ولاارغب ، لو لم افلح انقذك لامعني لردائي الابيض ولا معني لبراعه مشرطي وكل مااعرفه من علم عجز ينقذك ، مصيري كله في يديك ومستقبلي وحياتي ، اما سنعيش معا واما سنموت معا لكنك كالعاده اكثر مني حظا لانك ستموت بطلا اما انا سأموت تواريا وقهرا وعبثا ، يهمس نبيل لزين وهو يراقبه ويراقب الشاشات ويراقب الانفاس ودقات القلب ، يتمتم بالادعية ، غدا سيأتي عم وصفي لزياره زين ، مااشقها لحظه ، هذا الشيخ الجليل سيغادر مدينته ويأتي يدعو لصغيره بالحياه والشفاء ، عم وصفي جايلك بكره يازين ، يحدثه ويتمناه يسمعه ، شد حيلك بقي علشان تقابله ويتطمن عليك ، عم وصفي مش حمل حرقه قلب يازين ، ماتعملش فينا كده ، تنهمر دمعتين ثلاث ، يخفيها عنه حتي لايقلق علي حالته ونفسه ، واثق ان زين يسمعه ويشعر به ، سينهره لو شاهد دموعه ، سينهره لان فيضانات الحزن مازالت تحتله وتغرقه في ملحها كلما ارادت ، سينهره ويطمئنه علي حياته وان عمر الشقي بقي ، يبتسم نبيل ، يتذكر الساعه التي نهره فيها زين وردد علي اسماعه تلك العباره ، خائفا عليه من مصيره وقتما قرر يلتحق بالكليه الحربية ، خائفا عليه من مصير ابيه ومصير الوف مثله ، قدموا حياتهم للوطن ورحلوا ، خائفا عليه من مصيره ، يومها نهره زين لانه اناني لايفكر الا في نفسه ، لايفكر الا في حاله وحياته ، اختصر ابيه وبطولته واستشهاده في يتم اوجعه طيله العمر ، لم يري في تلك البطوله الا الوجع ، لم يري في ابيه الا الغياب ، لم يراه وسام فخر علي صدر الوطن وصدره ، بل رأه لحظه وجع امتدت وقهرته ، اختصر ابيه وبطولته في وجعه ، واليوم يخاف عليه ، يخاف علي حياته ، يخاف عليه من مصيره المشرف الذي يتمني يناله بل ويسعي اليه ، اناني انت يانبيل لاتفكر الا في نفسك ورغباتك ، صديقك انا لاتريد تفقدني ، تتعامل مع حياتي وموتي باعتبارهما شأن يخصك ، خلقت لاكون صديقك وعلي ابقي صديقك حتي لاتتألم ، يتذكر نبيل كلمات زين له غاضبا ، انت خايف علي ، طيب مش خايف علي البلد علي مصر ، لو كل واحد فيها فكر زيك كده ، مين يدافع عنها ومين يحارب لها ومين يموت علشانها ، يتذكر نبيل الاصرار والغضب اللذين غلفا صوت زين وهو ينهره ويتشاجر معه ، انا ابن المدينه الباسله اللي ضحت وبتضحي علشان مصر ، ابن المدينه اللي دفعت تمن غالي برضا وسعاده ومستعدين ندفع تاني مره واتنين ، عايزني انسي تاريخي وابقي بمبوطي اهرب سجاير من البلنصات في القنال ولا اهرب صابون وكمبوت وابيعهم في السوق التجاري ، يومها خرس نبيل ولم يجد مايرد عليه به ، تمني لو قال له احب الوطن واتمناه اعظم الاوطان لكننا دفعنا الثمن وكفانا ، تمني لو قال له لااريدك بمبوطي مهرب في سوق الباله لكني لااريد محارب ينتظر الموت بل يسعي اليه ، تمني لو قال له ان عم وصفي وخالتي فردوس دفعوا تمن غالي تهجير وحرب ومقاومه وكفايه عليه خوف وقلق ، تمني يقول له كلام كثير ، لكنه لم يقله ، المصيبه انه احس رده تافها غثا وان كل كلمه فيه ستفجر لدي زين اعاصير غضب سيكيل له بسببها ماهو اشد واوجع من الكلمات ، لكن زين يقرأ روحه وافكاره ، يعرف مسارات وجعه واين استقرت في نفسه ، زين يقرأ افكاره فرد عليه قبلما ينطق ، انا اخترت وحادفع تمن اختياري ، الدور والباقي علي اللي مابيختارش ومش عارف يختار ، خايف من كل حاجه فعايش زي القشه علي وش الميه الدنيا تشيله وتحطه وهو مسلم نفسه ليها لاحول ولا قوة ، اسمع ياصديقي، لست وحدك من دفع الثمن ، اطفال كثيرين حرمهم الوطن من اهلهم ، اباء كثر تركوا اطفالهم في حضن الوطن امانه ومنحوا الوطن حياتهم برضا وفخر ، لست وحدك من دفع الثمن ، اسر كثيره هجرت من منازلها وتركت حياتها ومدنها وتاريخها برضا وطيب خاطر ، زوجات كثيرات حرمن من الحياه والرجل والسند ، امهات كثر فقدن ابناءهن وسندهن في الحياه ، الجميع دفع الثمن ، لكنك وحدك من تضن علي الوطن بوجعك وكأنك الوحيد الذي توجعت ، هذا الوطن يانبيل يستحق ، يستحق نموت من اجله ونتوجع من اجله ، هذا الوطن يانبيل يستحق و............ صمت زين ونبيل يتابع حديثه باسي وحزن ، مصمم انت علي مافي رأسك ، انفجر زين ضاحكا وكأني احدث الحائط لم يسمعني ولايرد علي ، يضحك ويضحك وكأن خوف نبيل علي حياته نكته فجرت بداخله كل السخريه ، يضحك ويضحك ويهمس له ، بقولك ايه ، ماتشغلش بالك ، وبعدين يااخي عمر الشقي بقي !!! ويضحك ويضحك ....
تداهمه الذكريات فيزداد خوفه علي صديقه واخيه وعمره الراقد امامه قليل الحيله بين يدي الله ينتظر مصيره وقدره ، يرجو ربه الا يقهره بزين والا يزين به قوائم الشهداء والا يحرق قلبه عليه ، يراقب الشاشات وقطرات المحاليل ونبضات القلب واختلاجات الوجه وصوت النفس الخافت ، يراقبه ويدعو ويدعو واثقا ان الله سيستجيب لدعاءه وانه سيرأف بحاله ويكرمه في صديقه ولايحرمه منه ..يقترب اكثر من فراشه ، يكاد يلتصق به ، يتمني لو فتح زين عينيه فشاهده بجواره ، يتمني لو فتح زين عينيه فادرك وجوده واطمئن به ، يهمس ، انت سامعني صح ؟؟ واثقا انه يسمعه ، فاكر لما كنت باقولك اوعي تموت ، وانت تقولي انت اناني خايف علي ، فاكر ، طيب انا بجد خايف عليك وعايزك تعيش ، حتقولي تاني انت اناني ، والله العظيم ورحمه ابويا وغلاوتك عندي النهارده بالذات مش خايف عليك علشاني ولاانا اناني ، خايف عليك علشان مصر ، مش انت قلت حتضحي بحياتك علشانها ، طيب هي بقي يازين عايزاك تعيش ، تعيش علشان تحارب وتنتصر برضه علشانها ، بذمتك انهي احسن لمصر ، انك تموت النهارده ولا تخف وتقوم وترجع وحدتك وتكمل الحرب مع كل زمايلك الابطال وتنتصروا ... يصمت نبيل كأنه ينتظر رد زين عليه ورأيه في كلامه ، الحق لاافكر في نفسي ولا فيك ، افكر في مصر ، الاتستحق يازين ان تعيش من اجلها ... انا عارف انك سامعني ، رد علي طيب قولي انك لسه حتحارب ومصمم تنتصر ويلمح نبيل اختلاجه علي وجه زين وكأنه يبتسم ومازالا يتشاركا اخطر ثمانيه واربعين ساعه علي حياه زين ونبيل ، علي حياتهما معا ، ومازالت الساعات بطيئه والطمأنينة بعيده بعيدة ..... 

" نهاية الجزء الخامس ويتبع بالجزء السادس والاخير " 

ليست هناك تعليقات: