مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



السبت، 14 سبتمبر 2013

امنيات العشق علي عتبات المقام .. الجزء الثاني




( 12 )
إنـــي أتـنـفــس تـحــــت المـاء
إنـــي أغـرق أغـرق أغـرق


الايام رتيبة والحياة خانقة والغضب يتراكم والقرار صعب ، سيأتي يوم افجر هذه الحياة الخانقة وانجو بنفسي منها ، وحتي يأتي ذلك اليوم ساعيش حياتي كما يحلو لي وليفعل هو مايحلو له !!!
اني اتنفس تحت الماء  ، تهمس مها مع صوت عبد الحليم وكلمات نزار ، اني اغرق اغرق اغرق ..
في الشقه الصغيرة التي جعلتها مرسما للوحاتها علي سطوح العقار المملوك لزوجها تختبيء مها من بروده حياتها وسخف ايامها وعجرفته المقيته وتفرغ غضبها وهمها في الاوراق البيضاء الكبيرة ، تتمني لو ترسم بسكين مشحوذ ، تتمني ترسم وجوها تمزقها بريشتها المسنونة علي الاوراق البيضاء ، تحس الاوراق تحاصرها والالوان تقيد روحها ، تري كل شيء ازرق حولها ، السم يخرج من روحها لريشتها فتتسمم كل الاشياء الجدران والاورق والالوان وصوت عبد الحليم وروحها ، واجهي نفسك بوضوح يامها ، هذا الرجل الذي تحملي اسمه ويخنق اصبعك الشمال بخاتمه الماسي الغالي ، هذا الرجل افسد حياتك ، الحق انت التي افسدتي حياتك وقتما قبلتي تتزوجيه وخضعتي لضغوط سعاده السفير المتسلط متجاهله احاسيسك وبوصلة قلبك التي افصحت عن قرب مستحيل ونفور واضح ، انتي التي افسدتي حياتك وقتما فقئت عينيك تجاهلا لتسلط امه وتحكمها فيه وشخصيته الباهته امامها ومعها ، انت التي افسدتي حياتك وقتما قبلت استمرارك في تلك الزيجه رغم كل الفشل والاحباط والحزن الذي تجرعتي مراراتهم قطره قطره ، مالذي كنتي تتمني تثبتيه لنفسك ولابيك وللاخرين ، انك زوجه ناجحه لرجل مرموق والحياة ولااروع ، هاانتي اثبتي واخذتي النيشان والجائزة والرضا الاجتماعي وبعض الحقد علي السياره الفارهه والخاتم الماسي والفيلا الانيقة في الساحل الشمالي ، لماذا لست سعيدة باختياراتك ونتائجها العظيمة ، لماذا تسممت روحك وشاخ قلبك ، تعرفي طبعا لماذا ، لماذا اذن لم تنقذي نفسك ولاتنقذيها ؟؟ اني اغرق اغرق اغرق ................. انقذي نفسك يامها وكفاها منك ماعاشته معاكي ، انقذي نفسك ، السم الازرق مازال يتنشر في الغرفه الضيقه يخرج من روحها لكل الاشياء فتشيخ الحياة وتهرم وتستغيث منها ومن سمها الزعاف .. وتجري ريشتها المشحوذه فوق الاوراق تمزق الوجوه والملامح تصرخ تبكي تتشاجر مع الحياه داكنه مقهورة زرقاء بنفسجية تشبه وجهها وروحها !!! اني اغرق اغرق اغرق !!!! وتتمني تقوي تنقذ نفسها !!! تتمني وتتمني وتتمني .... اني اغرق اغرق اغرق ...

( 13 )
منين بيجي الشجن .. من اختلاف الزمن
ومنين بيجي الهوى .. من ائتلاف الهوى

في الثامنه مساءا دخل قصر الفنون بدار الاوبرا ، توجه للمعرض ، مدينة اعشقها ، يبحث عنها واثقا انه سيجدها وسط جمهورها ، ترتدي بذله بيضاء وقميص حريري ازرق ، شعرها الاسود يتناثر علي كتفيها يزيد سطوع وجهها وجماله ، دار علي اللوحات يتأملها حتي وقف امام " الباستيل " مازالت الظلال الزرقاء والسم يخرجا من عمق اللوحه لروحه ، عاد لمها ينظر لها منهمكه مع ضيوفها في احاديث طويلة ، هذه السيدة مازالت اسيرة رغم كل الصخب الذي تحيط نفسها به ، قميصها بلون الظلال الحبيسة علي السجن العاتي ، بعض الشحوب علي وجهها من لون النور الباهت في لوحتها ، استفزته اكثر واكثر ..
يوسف عبد الحكيم ، قدم نفسه ، اهلا وسهلا نورتني ، ابتسامه متحفظه منحتها له ، ارهاق روحها يقفز من عينيها واضحا جليا ، مازالت ترسل الاشارات لمن سيفهم ، سيحاول اختراق عالمها عله يكون المرسل اليه الذي استغاثت به لينقذها ، همس ، وينقذ نفسه ، عايز من حضرتك ميعاد اعمل معاكي حديث عن المعرض ، حضرتك صحفي في جريده ايه ، كذب ، لا باعمل كتاب عن القاهره في عيون اهلها ، اسم المعرض شدني ، بس انا مابعرفش اتكلم وكل اللي عندي عن القاهره قلت في اللوحات ، يعني مش حينفع نتكلم ، بحزن حقيقي سألها ، لا طبعا ينفع مش قصدي ، قصدي يعني خايفه تضيع وقتك معايا ، ابتسم لا ماتخافيش !! واتفقا يلتقيا بعد يومين في سميراميس ، اختارت هي الفندق ، باحبه لانه عريق ، قصدك كان عريق بادرها ، ضحكت لا ، انا عارفه قصدي كويس ، عريق ، سميراميس اللي باعرفه وبحبه لسه عريق الباقي قشور زائله ، لن يكتب في التاريخ الا عن الفندق العريق وشرفته الساحره و.................. اتفقنا !!!
ليه كدبت عليها يايوسف ، ليه قلت لها انك بتكتب كتاب عن القاهره ، مين عارف ماجايز فعلا اكتب الكتاب ويكون معرضها السبب !!!!

( 14 )
يا بعيد عن العين يا ساكن جوه ارواحنا
وجع البعاد في ليالي الشوق يطوحنا
نحلم نلاقيك .. لكن الريح يسوحنا
هوه احنا نوحنا غير لما الوجع فينا زاد


يتمشي في السوق ، يتفرج علي المشغولات اليدويه الملونه ، علي الجلاليب والطواقي ، علي سجاجيد صغيرة ملونه ، يبتسم ، كل شيء هنا اكيد حيعجبها ، سيتشري سجاده صغيره لغرفه بدر في الفيلا ، نعم ، سيمنح بدر غرفه كبيرة ويزركشها بعرائسها والعابها ويفرش ارضها بالسجاجيد الملونه ، كل هذا سيحدث وقتما يعود !!!
يحدق في ثوب ابيض مشغول بالاحجار والغرز الملونه ، ده توب عرس يافندي ، يبتسم ويهيم خياله بعيدا ، ياتري لو فتح فنجانه اليوم مالذي سيراه فيه ، نصره قويه وفرحه بعد نقطتين ولا طريقك مسدود مسدود مسدود ، يحدق في الثوب ويري مها بجسدها الملفوف البض داخله ، ويري الطرحه المزركشه بالفضه والدلايات المنقوشه تزين رأسها وتجمل وجهها ، سيشتري هذا الثوب قبلما يعود لحياته ، سيطلب من مها تتزوجه ، سيمنحها الثوب ترتديه يوم الفرح ، سيحضرها لهنا ليقضوا شهر العسل ، سيحمهها بنفسه في حمام كليوباترا ويغطس معها في العين الساخنه ويحضنها في العين المثلجه ، ويجفف جسدها بسعف النخيل ويلقمها بلح صغير بلا نوي يزيد رحيقها عسلا ، ومازال يحدق في الثوب ويحبه ، ده توب الصبايا ليله الحنه يافندي ، يبتسم للبائع الصغير ، يقعدوا العمر كله يشتغلوه وفي ليله الحنة يلبسوه ويسيبوه لبناتهم وسلسال عيالهم اثر وذكري ، عاجبك يافندي ، يحدق يوسف في الثوب ، خلق لها ولها فقط !!!
حارجع لك بعدين اشتريه ، ادفع لك عربون دلوقتي ؟؟ عيب يافندي كلمتك عربون والتوب بتاع عروستك ووقت ماترجع حتلاقيه ، يتحرك يوسف ببطء داخل السوق واطلال شالي تتراقص علي جدرانها الظلال واسراب اليمام تحلق فوقها تسبح بحمد ربها ، يتوحد مع بقايا المدينة التي كانت ولم تعد ، ماتبقي منها ومنه اطلال ، يتمني الصحراء ترمم روحه وتقويه ويعود يشتري الثوب لمها ويعيشا ، الثوب سينتظرك حتي تعود ، وماذا عنها ، هل تنتظرني ، هل تنتظريني يامها ؟؟؟

( 15 )
وعد ومكتوب علي ومسطر علي الجبين
لاشرب من الحب حبه
وانزل بحر المحبة
واسكن بحر الاحبة

همست سهام ،  يوسف بقي غريب قوي يارؤوف وانا غلب حماري ومابقيتش عارفه اعمل له اي حاجه ..
مكالمه قصيره فهم رؤوف كل معناها ، يوسف يعيش ازمه طاحنه ويحتاجه ...
في التاسعه صباحا طرق باب الفيلا الخاوية ، سهام في عملها وبدر في الحضانه ويوسف نائم كالعادة ، طرق الباب طرقات متلاحقه حتي فتح له يوسف غاضبا من الصخب النهاري السخيف ، جاي ليه بدري كده يارؤوف ، ازاحه ودخل الصاله المظلمه ، انت عامل في نفسك كده ليه ، اشاح له يوسف ، اترزع هنا علي مااخد دوش واجي افهم ايه اللي جابك من اسكندريه علي ملا وشك كده ؟؟...
جلس رؤوف في الصالون يحدق في صورة ماما صفيه ، الله يرحمك ياغاليه ، دلعتيه لغايه مابقاش عارف يعيش من غيرك ، يتذكر حنانها حبها دفئها الذي اغدقتهم عليه منذ اللحظه الاولي التي شاهدته ، يعود له يوسف وصينيه الشاي في يديه ، خير ياسي زفت ، ايه اللي جابك الفجر كده ، انت استقلت خلاص ، اه ، وبعدين ، حاشوف ، هي سهام اتصلت بيك ؟؟
افرض ، لايمكن حتفهمني ولا تقدر مشاعري ولاتحس بي ، هي فاكراك ولي امري جايباك تعاقبني ، هي فاكراك اخويا الكبير تضربني وتمنع عني المصروف ؟؟ مازال رؤوف هادئا يسمع لحمقه وحديثه الاهوج صامتا مبتسما ، مش فاكراني اي حاجه غير اني صاحبك ، هو انا مش صاحبك ، انت اخويا يارؤوف ، طيب ايه ؟؟ ولا حاجه !!!
انفجر يوسف باكيا ، انا كنت باحب امي طبعا ، الله يرحمها همس رؤوف ، لكن مش فاهم ايه اللي حصل لي بعد ماماتت ، تفتكر حصل لي ايه يارؤوف ، انت اكتر واحد فاهمني وعارفني ، حصل لي ايه ؟؟؟
مش مهم حصل لك ايه ، المهم حنعمل ايه ، سبت شغلك وبعدين حتقضي حياتك نايم وتصحي زي الوطاويط بليل ماتلاقيش حاجه تعملها ، حتدور علي شغل ، حتفتح شركه ، حتعمل ايه ؟؟
حاشوف يارؤوف لسه مش عارف افكر ، انتفض رؤوف غاضبا ، سنتين من موت ماما صفيه وانت بتهبل ، حتفضل تهبل كده لامتي ، فوق يايوسف فوق !!!
وابتسمت ماما صفيه حيث مكانها لان رؤوف " تمرت " فيه الحنية وصار ابنا لها واخا لابنها ويحاول ينقذه من الضياع الذي اختاره قرين الحزن الموجع الذي اجتاحه بعد موتها !!
همست ماما صفيه ، فوق يايوسف فوق !!!
قوم نسافر اسكندريه ، نروح ضريح سيدي ياقوت العرشي ، نصلي ونستغفر ، نسترجاه ينور بصيرتك ويزيح عنك الهم ، قوم ، يحدق فيه يوسف صامتا ، قوم يايوسف نعيط هناك ربنا يزيح عن قلبنا الهم ، قوم ، مش كنت بتسالني جيت ليه ، جيت علشان اخدك ، لاني حافظك وعارف اني لو قلت لك تعالي حتقولي طيب ومش حتيجي ، يالا رجلي علي رجلك ، علي الضريح واسكندريه لعل وعسي ترجع من هناك مجبور الخاطر!!!

( 16 )
لو أني أعـــرف أن البحــر عميق جدّاً
ما أبحـــــرت
لو أني أعــرف خاتمتــي
مــا كـنــت بــــدأت


اتخانقتم تاني ؟؟ يتمني تكذب احساسه ، يتمناها تقول له ان زوجها سافر كعادته وانها ستقضي معهم اياما حتي يعود ، لكنها لاتقول له هذا ، تهز رأسها توافقه ، حنتطلق قصدي ، يقاطعها فلاتكمل كلامها ، يقاطعها منتفضا ، يهدر صوته الوهن في الفضاء الخالي ، ليه يامها ، تتطلقي ليه يامها ؟؟ هو مابيحبنيش وانا مابحبوش ، باستخفاف تجيبه موقنه ان اي اجابه ستقولها لن ترضيه ولن يقبلها ، وهي دي اسباب للطلاق ؟؟ ناس كتير مابيحبوش بعض لكن عايشين حياتهم عادي ، اللي بتقوليه ده ده مش مبرر للطلاق ، مافيش في عيلتنا واحدة اتطلقت قبل كده علشان مابتحبش جوزها !! همس ابيها وكأنه ينبهها للفضيحه التي ستجلبها لاسرتها وله بسبب حمقها واندفاعها الاهوج ..
تقف مرتبكه تتمناه في تلك اللحظه بالذات يرحمها ، لكنه يصمم علي استمرار الحوار اشار لها لتجلس ، اقعدي وفهميني بتقولي ايه ، جلست مها امامه حائرة لاتصدق ماتسمعه تتمني تخبره انها لا تستأذنه ولا تأخذ رايه وانها طلقت فعلا ، لكنها صمتت تمتص غضبه قبل الانفجار الاكبر الذي تتوقعه وقتما يعلم انها طلقت فعلا قبل اخباره بالامر وكأنها " جايه من الشارع ومالهاش اهل " ..
وتحكي ويتشاجر ويتشاجر وتصمت و............... وبعدين !!! تتنهد عميقا متسائلا عما سيحدث ..
بابا ، انا اتطلقت فعلا النهارده الصبح والموضوع انتهي و.......................... لم تسمع شيئا ، صرخ فيها وسعل وكأنه روحه ستغادر جسده ، عروقه نفرت ووجه احتقن ويديه المرتعشتين زادت رعشتهما ، ينتفض في مقعده ، صراخه يصم اذنيها ، و..................... انسحبت لغرفتها تبكي لان ابيها الذي تصورته سيؤازرها ، افسد لحظه حريتها بغضبه ، هي تبكي في غرفتها غاضبه منه ، وهو يبكي في مقعده في الحديقه غاضبا منها لانها تجاهلته ولم تعتبرته في حياتها ولم تطلب مشورته ولم تستعن باشقائها ليأدبوا طليقها الذي استغل وحدتها ليجبرها التنازل عن حقوقها الشرعيه والقانونيه وهو المخطي في تلك الزيجه من اولها لاخرها لانه عديم الشخصيه وابن امه وضيع حظها وتلف املها ، ومازالت تبكي وهو يبكي والايام تخبيء لهما الكثير ....
وتضرب الاعاصير في الحديقه وفي روحها وفي الحياة كلها !!!!

( 17 )
ورماني وسط الرمال
منكاد كسير الفؤاد
اه يا وجع البعاد


يغطس بدنه تحت الماء المثلج البارد ، ينتفض قلبه بين ضلوعه ، يرفع رأسه ويستنشق دفعات متلاحقه من الهواء النقي ، يسري دفئا وحنين للحياة التي كان نسي معناها ، يغطس بدنه ثانيه في قاع البئر ، يفتح عينيه عله يجد امنية ضالة لم تجد يقين لتحقيقها ، يخرج رأسه ويفتح فمه ويسحب الهواء ويكاد يصرخ فرحا منتشيا ، الحياة هنا في تلك البقعه البعيده حقيقيه جدا ، لها معني ، لها قيمه ، كل تفاصيلها تؤكد علي معناها العميق ، اما تعيش واما لاتعيش ، يتذكر مها وضربات ريشتها القويه الشجاعه علي الاوراق تمزقها بخطوط عنيفه عفيه تحكي قصص وحواديت ، هي تعيش الحياه فعلا ، نعم احتجزها الباستيل بضعه وقت و اوهن روحها بعض الوقت، لكنها انتصرت علي القهر والاسر وتمردت وافلحت تعيش ، الدور والباقي عليك انت يايوسف ، عشت علي الضفاف لاتقذف روحك في اليم ولا ترتوي برحقيها فعشت ميت ظمأ ، يغطس بدنه ورأسه تحت الماء البارد وينزلق للقاع ويهوي تحت طبقات الماء الثقيله ، هذه مياه تعمد فيها الاله والملوك والفراعنه العظماء ، امتزجت بارواحهم وبقيت سندا لمن يبحث عن السند ، امتزجت بقوتهم ومنحت قوتها لمن يقوي عليها ، تملك دائما تختار الحياه وتملك الا تعيش وتموت منسيا كما عشت منسيا ، هل تقوي علي الحياه يايوسف ؟؟؟
يسحب جسده من العين البارده ويرمي بدنه تحت الشمس الحارقه تتسلل تحت خلاياه تسحب البروده وتحرق جلده وروحه ، كمثل العيش الشمسي الذي تقدده الشمس بلهيبها فينضج علي مهل ويبقي طويلا ويمنح العافيه لآكليه ، مثله مثل كل شيء صمد في تلك الصحراء العظيمه ، تمنحه الصحراء بعض سحرها واسرارها وغموضها وخشونتها والكثير من الحياه ، الصحراء لاتهزر مع قاطنيها ولامكان بين اعاصيرها وزوابعها وتلالها الرمليه للضعفاء ، الضعفاء هنا يموتون في صمت دون صخب ، روحه ترتوي باشعه الشمس الحارقه ، كأنه منتهي العشق الذي طال شوقه له وامتنع عنه فاقبل عليه فنهل منه فاحرقه بوجوده العظيم ولهيبه !!!!
مازال يحترق تحت الشمس التي صهرت الفولاذ و فاضت علي المعابد والمدن القديمه بسحرها فحمتها وحرستها وحافظت عليها ، مازال يحترق تحت الشمس ويحلم بكتاب يكتب فيه عن الصحراء التي عشقها ويعشقها !!!! ومها تصمم الغلاف بس لازم تيجي الاول تعيش هنا وتفهم معني الصحراء واسرارها ، و............كل يوم يزداد يقينه بانه سيعود يجدها في انتظاره ، فنجانه المقلوب يقول والصحراء تقول وشمس اللهيب تقول والحياه الحقيقيه كلها تقول ، تقول انها تنتظره ، ومدام يفكر فيها فهي تفكر فيه ، مادام يشتاق لها فهي تشتاق له ومادام يشعر خجلا لانه تركها واوجعها فهي صفحت عنه وسامحته والوصل حاضر والقلب اللي عمران بالمحبه مايدفيه الا وليفه اللي قلبه عمران بالمحبه واسألوا الصحرا حتي عن معني الحياه فيها لما تكون بجد ، زي مها وزيي بعد مابقيت !!!! وسابدأ في الكتابه عن طلاسم الصحراء التي اعشقها ومعني الحياه فيها !!!!
ومازالت الشمس تحرق بدنه وتطهر روحه ........ لكن القلب المرتعش لايدفيه الا وليفه !!!!

( 18 )
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استيحاء

في مكان منزوي قصي في اعلي مدرج الكليه المزدحم ، جلس  رؤوف وامامه كراسته واقلامه ، لاحظه يوسف  وسط الزحام ، شكله يختلف عن بقيه الطلاب ، هو البصير الاعمي الغريب وسط الغرباء ، يركز مع الاساتذه ويكتب كل كلماتهم ، وحين تنتهي المحاضرات يبقي في الكافيتريا وحيدا يطالع كتبا وصحفا ومجلات ويقرأ منهكما ويهيم بافكاره محلقا كأنه يختبيء داخل الصفحات والاوراق ، لاحظ يوسف  ان  رؤوف منطويا لايتحدث مع غيره من الطلاب ولا يشاكس الفتيات الجميلات ، قرر يقتحم عالمه ، ببساطه استفزه رؤوف ، سكونه وصمته وغربته الظاهره استفزوه ، قرر يقتحم عالمه ليكتشفه ، وانت مالك ياابو حجاج ، مالي ، قرر يمد يديه للغريب عله ينتشله من هم الغربه وغربه الهم ويمنحه بعضا مما يحتاجه في غربته ليفتح عينيه ويري العالم الجديد الذي يعيشه منكرا وجوده فيه اساسا ....
يوسف  .. انا اسمي يوسف  ، رفع  رؤوف عينيه من اسطر الكتاب ، اهلا وسهلا  يوسف انا  رؤوف  و..................... مشهد ملل رتيب لتعارف بين غريبين سيصبحا طيله حياتهما بعد ذلك اللقاء اقرب الاصدقاء ، انا عايش في بيت خالي اصلي من اسكندريه ، وبسرعه عرف يوسف  قصه  رؤوف وامه التي ماتت وابيه الصارم الذي رباه وحيدا مابين المعارك والحروب والانضباط ومابين المراهقه وجموحها وتمردها كانت حياه  رؤوف وسعاده الجنرال كما يطلق علي ابيه ، ماصدقت جت لي كليه الاعلام علشان اهرب من اسكندريه ومنه ، ينصت يوسف  لرؤوف باهتمام وحب ، انا ابويا كمان ضابط ، ياراجل اه والله ، بس تقريبا مش عايش معانا مشغول بشغله وسايب كل حاجه لامي تتصرف فيها لدرجة اني نسيته او بمعني اصح عمري ماحسيت انه موجود في حياتنا فلما مات حزنت شويه وبس !!! هل نظرة الاسي التي طلت من عين رؤوف هي ماربطت بينه وبين يوسف  في تلك اللحظة ، ربنا يخليها لك ، همس  رؤوف ، الكلام بطيء والمشهد رتيب ولايعبر عن المشاعر المتضاربه التي تعتمل في روح الاثنين ، بقولك ايه ، تعالي قوم نتغدي سوا ، امي حتحبك قوي ، ربنا يخليها لك ، تمتم رؤوف وهما يتحركا صوب الاتوبيس الذي سيقلهما لشارع الهرم والفيلا الصغيرة التي يعيش فيها يوسف  مع عائلته ، وفي الطريق الطويل المزدحم من جامعه القاهره لشارع الهرم ، قص  رؤوف علي يوسف  مشاهد من حياته تكفي يوسف  ليقرر يحتضنه ويوسع له في عائلته مكان ، ربما حنان امه ودفء المنزل يفلح يهون عليه خياته التي قسي عليه فيها الجنرال قسوة بالغه من شده الحب والخوف علي وحيده الذي ماتت امه فجأ في ريعان شبابها وتركته له امانه ثقيله وحمل اثقل !!!
وبسرعه ، نسجت الايام والظروف بينهما مايكفي ليقدم كل منهما روحه فداء الاخر و.................... ماما يا رؤوف  ، ابتسم  رؤوف  وقبلما ينتبه اخذته صفيه في حضنها وكأنه ابنها الغائب فانهمرت دموعه رغما عنه وجعا وشوقا لحضن الام الذي حرم منه وصار له اما عظيمه رغم القدر وقسوته تهون عليه اليتم الذي نحل روحه واوجعها طيله حياته !!!!
وصار بينهما ماصار ، اخوة واكثر ، اصدقاء واكثر ، وكأن صفية انجبتهما من بطن واحدة ، الاول عاش في الاسكندريه والثاني في القاهره حتي التقيا في مدرج كليه الاعلام بجامعة القاهرة ..

( 19 )
وسترجع يوما يا ولدى
مهزوما مكسور الوجدان
وستعرف بعد رحيل العمر
بأنك كنت تطارد خيط دخان

رتب يوسف حقيبته واستعد للرحيل ، اخذ يطوي اوراقه الهامه بدقه و رقة وعناية ، يتأمل اسطرها ويقرأ معانيها وبسرعه يطويها بنظام وشجن فوق بعضها في الصندوق النحاسي العتيق الذي ورثه عن امه ..
يطوي يوسف اوراقه بدقة ورقه فوق بعضها البعض ، يبتسم احيانا والاسطر تتابع وشريط حياته امام عينيه يجري ، يبتسم احيانا ويهوي قلبه لجوف روحه حزنا وقلقا احيانا اخري اكثر..
ساعه من الزمن ماتبقي له ليرحل ، ملابسه في الحقائب واوراقه في الصندوق النحاسي والثلاجه فارغه مفتوحه الباب حتي لايفسد كاوتشها في غيابه الطويل ، نعم الارجح انه سيغيب طويلا ...
ساعه من الزمن ماتبقي له في بيته ليرحل بعدها للمجهول الذي لم يخاف منه ، يلف حول نفسه في الحجرة وكأنه يودعها ، يلف حول نفسه يتأمل الجدران والشقوق والصور الباهته والزجاج المشروخ في النافذه البحرية ، يفتح الادراج ويغلقها ، خاويه من كل ماله قيمه وذكريات ووجع ، اوراقه المطوية في الصندوق النحاسي تسأله هل ستعود يايوسف للبيت ، هل سترحل وتعود ، متي ستعود ، لماذا ترحل ، اسئله كثيرة تطارد رأسه بشواكيشها لايعرف لها اجابات ، كلها اسئله مشروعه من حقه يفكر فيها ويبحث عن اجاباتها لكنه فعلا لايعرفها ولايكترث انه لايعرفها ...
عقارب الساعه القديمه التي تركها ابيها من ضمن ميراثه تتسارع وتجري بوقت البقاء تقتله وتتحرك صوب نهايته ، انتبه يايوسف ، الوقت يجري وكلها اربعون دقيقه ويتعين عليك تفصل مفاتيح الكهرباء وقبلها تغلق محابس المياه والغاز لتخرج من الفيلا  مطمئنا عليها وقت غيابك ، تفكر في الفيلا والطمأنينة يايوسف وهل انت مطئمن علي نفسك ؟؟ لايكترث بالاجابه ويبعد اشباح مخاوفه عن راسه المتعب بجموحه ..
انت في لعبة كبيرة يايوسف  ، تعرف انك تلعب ، تبرر لنفسك مقامرتك بأنك لاتملك ماتخسره ، الا حياتك ، وحياتك ملكك انت ، حتي لوخسرتها وانت تلعب ستكون سعيدا بدلا من كل الركود البغيض الذي عشته وتعيشه !!! يقول لنفسه وربما يأتي صوت صمتها يشرح له نفسه كعادتها معه ...
مازالت عقارب الساعه تقتل بقيه الوقت وتأتي بالنهايه سريعه ، عشره دقائق متبقيه علي ساعه الرحيل ، اغلق الصندوق النحاسي ، فتح الدولاب العتيق ودفن الصندوق بين ملابس امه التي رفض يوزعها صدقه علي روحها واحتفظ بها لابنته التي لم تري جدتها لتتباهي بها ، هاهي الاثواب في الدولاب العتيق تنتظر الحفيده وهاهو الصندوق النحاسي يرقد وسطها ينتظر عتقا حين يعود يوسف  من غيابه الغامض ...
الوقت مازال يمر ، والدقائق تباطئت حتي لاينتهي المشهد بسرعه ، يوسف  يلف في الحجرة يملي نظره وعينيه من حجرة امه ويملأ روحه برائحة حنينها ،وكأن شبحها عاد للغرفه ليطمئنه ويودعه و..... ربنا يكتب لك في كل خطوه سلامه ياابن عمري ، تعيشي ياغاليه ، ترجع لي سالم غانم ، مايحرمنيش ابدا من محبتك ياامي ، صوتها يدوي في قلبه واجاباته تأتيه من ماضي قريب ، فقط الابتسامه لم يملك يرسمها علي وجهه مثلما اعتاد معها وقت دعواتها له ، فقط قبلته الحانية لم يملك يمنحها لكفها الدافء بحب ، شبحها يودعه ولايعود لحياته ، خلي بالك علي نفسك يايوسف  ،حاضر ياامي و.................. يخرج من الغرفه ويطفيء نورها ويتحرك صوب الباب ، يمر علي المرأة الكالحه بقرب الباب ، يلقي نظره سريعه علي شكله ويكاد ينفجر من الضحك ، من هذا الرجل يايوسف  الذي ترتدي ملابسه وشكله وتحاول تتلبس روحه ،كيف قبلت يايوسف  تعيش تلك اللعبه الغريبة ؟؟؟ وترك سؤاله بلا اجابه في صاله البيت وتسلل مسرعا للشارع صوب حياته الجديدة التي اختار يعيشها و........... ترجع لي سالم غانم ياابن عمري ، تعيشي ياامي وودع كل شيء خلف ظهره وبدأت المغامرة الغريبة التي قرر طوعا يكسر رتابه حياته و ركودها بها ويعيشها ...

( 20 )
يا محبوبي
لا تبكيني
يكفيك ويكفيني
فالحزن الأكبر ليس يقال

اطفئت انوار السرادق وانصرف اخر المعزين وبدأ العمال في فك الصوان واخشابه ورفع المقاعد علي السيارات ، رؤوف يقف امام البيت ومعه يوسف ، يتم رؤوف يقهره ويمنحه عيون زجاجيه وملامح متخشبة وضياع مخيف ، يتركه يوسف علي الرصيف ويشكر الجيران والمعزين واهل الشارع ، يحاسب العمال ويدفع الاكراميات ويسحب رؤوف من ذراعه ليصعدا للمنزل ، اليوم مات الجنرال ، مات علي فراشه بعدما خاض كل الحروب التي لم تمنحه شرف الاستشهاد فيها ، مات علي فراشه فجأ ، كأن قلبه الذي تحمل الكثير من الاحزان والهم مل الحياه فكف عن النبض  فرحل الجنرال ، اتصال تليفوني بيوسف في ساعه مبكره من الفجر وبكاء ونهنهة افهمت يوسف ان الهاجس المخيف الذي يعيشه رؤوف منذ فتره طويله قد تحقق وان  الجنرال قد رحل وان رؤوف تعيسا وحيدا يواجه من جديد يتم موجع ولحظه فراق فجرت كل احزانه القديمه ، سافر له ورافقه للمدافن واحتضنه ليداري دموعه عن المعزين وقام بكل مايلزم عليه القيام به و.................... اصبح البيت اكثر بروده والحياه اكثر وجعا ، همس رؤوف ، تعالي نروح بير مسعود وافقه بسرعه يوسف ، بشرط ، نصلي الفجر في مقام سيدي ياقوت ، رغم كل الحزن ابتسم رؤوف ، موافق و............ بعد بضعه ايام عاد يوسف للقاهره بعدما وعده رؤوف ان يلحق به علي عطله نهايه الاسبوع ، وهو وعد لم يفي به رؤوف الا بعد زمن طويل ..

نهاية الجزء الثاني ويتبع بالجزء الثالث



هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

مجدي السباعي

ده ملخص الجزء الثاني

هذه السيدة مازالت اسيرة رغم كل الصخب الذي تحيط نفسها به ، قميصها بلون الظلال الحبيسة علي السجن العاتي ، بعض الشحوب علي وجهها من لون النور الباهت في لوحتها ، استفزته اكثر واكثر .

أسامة جاد يقول...

يظل اهتمامك بالتفاصيل ممتعا، في نسيج يشبه غرزات التطريز، كل غرزة هي إضافة جديدة في بناء المشهد: هذا الاهتمام الأثير ربما يكون أبرز ما يميز مشهدياتك المتقاطعة على خط الزمن (بنوع من الحرية الصارمة) وعلى تقاطعات الشخصيات الرئيسية الأساسية: يوسف - رؤوف - مها .. فيما يظل صوت الراوي العليم حريصا دائما على الظهور في استكناه المعاني وتفسير الأحداث وربطها بالهوية التي تكاد تكون اللب العميق لمعظم تدويناتك .. الهوية التي على تنوعها تتكثف كلها في معنى أصيل ووحيد هو مصر.
ربما أختلف شخصيا مع تدخل الراوي العليم هذا .. ولكنه اختيار فني يرتبط مع مفهوم الحكاية وجوهرها .. وهو الأمر الذي يدفعني لتكرار اقتراحي بتنظيم أمسيات حكي .. ربما نستعيد معها ذكرى الراحل الرائع يحية الطاهر عبد الله الذي حول فن القصة القصيرة إلى حكاية تروى شفاهة .. بعد أن استفادت من كل تقنيات السرد المعاصر ..
ألاحظ أن أسمي يوسف ورؤوف من الأسماء القريبة منك ككاتبة، والتي يمكن الكشف بسهولة عنها في مروياتك، وربما تجد دراسة في الأسلوب أن يوسفك مرتبط بيوسف القرآني ذاته: كونه البطل المركزي في النصوص التي يظهر فيها .. أما رؤوف (والاستنتاج بخصوصه يتطلب بحثا أكثر) فهو لائق جدا لمعاني الصديق المخلص الحميم