مدونة "حكي وحواديت" للكاتبة والروائية أميرة بهي الدين



السبت، 16 يونيو 2012

السطر الناقص في بحث الدكتور منسي ( الجزءالاول )


في هذا الوقت الذي يضطرب فيه الفكر في مصر
ويضطرم بحثا عن شخصيتها ودورها الإنساني والحضاري ،  
فإننا في حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا
لكياننا ومكانتنا, لإمكانياتنا وملكاتنا ، وأيضا لنقائصنا ونقائضنا
بلا تحرج ولا تحيز أو هروب 
(جمال حمدان)



من يشاهدون النيل في تمام فيضانه
يرتعدون خوفا
 
أما الحقول فانها تضحك
وجسور النيل تغمرها المياه
 
ومن ثم تنزل موائد الآلهة
وتشرق وجوه القوم
وتبتهج قلوب الآلهة

المجد لك ايها النيل..
الذي يحمل الخير لمصر
وعندما تفيض يعم الفرح البلاد
انت تجري، فتسقي الحقول
وتنعش القطعان
وتمد الناس بالقوة
اذا تأخرت عطاياك
توقفت حركة الحياة
واذا غضبت.. حل الذعر بالبلاد
بدونك.. لا نجد الأسماك
وبدونك لا ينبت القمح والشعير والذرة
انت الذي تخلق كل جميل

انشودة الفرح بالفيضان ..متون الأهرام



الجزء الاول

( 1 )
ايام سودة

همست السيدة التي تقف داخل المحل فرارا من المظاهره الكبيرة التي تسير في الشارع التجاري الكبير في وسط البلد ، همست بصوت مرتعش مخنوق تسال صاحب المحل الذي يقف علي الباب امامه ، هي الاعلام السوده دي مكتوبه عليها ايه ؟؟ اشاح صاحب المحل بيده ، مكتوب عليها اننا حنشوف ايام سوده !!!
ازداد ذعر السيدة ، هما خلاص مشيوا ولا ايه ؟ عايزة اروح ، همست العامله بجوارها ، لسه بدري ، دول كتار قوي ماتشوفيش اولهم من اخرهم ، ولسه اخر المظاهره بعيد !!!
سالت السيدة صاحب المحل ، هما عايزين ايه؟؟
انتفض صاحب المحل غاضبا ، تصدقي يامدام ، علي الحرام من بيتي ، ولافاهم ، عايزين ايه بالضبط الجماعه دول ،طلباتهم منا ايه ، ولا عارف !!!
وبقنوط رهيب همس لها ، ادينا حنشوف اخرتها ايه ؟؟
سالته السيدة بصوت هامس ، وهي ليها اخر ؟؟
ضحكت البائعه ، طبعا ، كل اخر له اول وكل اول له اخر ، مسيرنا نفهم عايزين ايه الجدعان دول ..
وهنا.......... قرر الكاتب تثبيت الزمن في تلك اللحظة وتصوير كل لقطاتها بكاميرته الفوتغرافيه !!!
لا هذا ليس قرار الكاتب ، الكاتب مغلوب علي امره ، الزمن قرر يثبت ولايتحرك ، فلم يكن امام الكاتب الا الانصياع لحكمه القاهر ، وقتما يثبت الزمن ويُلبس الاحياء ثوب الاموات ويقطع انفاسهم المتلاحقه ، هنا لايملك الكاتب الا تصوير مايراه بعدسه فوتغرافيه ، لايملك الا التقاط صورا متلاحقه تنتظر يتحرك الزمن لتدب فيها الحياه مره اخري ....
صاحب المحل امام بوابته وعلي وجه ملامح مرتبكه ، السيده تجلس علي الكرسي وسط المحل مرتاعه ، البائعه تراقب الشارع بوجه شاحب يفصح عن رعب دفين و...................ثبت الزمن في كل شيء الا  المظاهره الكبيرة التي مازالت تسير بالشارع ترفع اعلامها السوداء ترفرف في السماء ، الزمن لم يثبت عند المتظاهرين الغاضبين الذين يصرخون بصوت عالي ممضوغ بهتافات لم نفهمها بعد !!!ا
ثبت الزمن داخل المحل وفي الشارع وفي المدينة ، وبقي السؤال الحائر علي كل الوجوه الجامدة ، مين دول ؟؟؟؟ مين دول ؟؟؟ مر وقت طويل ومازالوا جامدين والزمن لم يتحرك لانه لم يعثر علي الاجابة بعد!!!!

( 2 )
النادي

شقه كبيرة ، شقتين كبيرتين ، تحولتا من سنوات بعيده وبعد التعديلات المعماريه وهدم الحوائط وفتح النوافذ وتغيير التصميم الداخلي الذي قام بهم الخواجه كريساسي المهندس المعماري الشهير الذي ترك توقيعه علي ابنيه كثيرة من ابنيه تلك المدينه ، تحولت الشقتين  لساحه كبيرة تقع في الدور الرابع والرووف من مبني عتيق في الحي القديم الذي كان ارستقراطيا !!! كان حي ارستقراطي يخشي العامه وابناء الدهماء الاقتراب من شوارعه الواسعه ...حي لايرتاده الا سكانه واصدقائهم من سكان الاحياء الراقيه الاخري ، هكذا كان الحي ، الان صار مثل كل الاحياء بلا ملامح بلا هوية ، طغي عليه القبح المعماري فافسد الابنيه الجميلة وشوه ملامحها الانيقة ، الان ، صار مرتعا للمتسعكين والصعاليك ، يرتادوه للتنفيس عن انفسهم والمشي التائه الذي بلا هدف !!!
في هذا الحي الذي كان ارستقراطي ، يقع النادي في بنايه قديمه عاليا مطلا علي اكبر ميادين الحي والمدينه العريقة .. شقتان تحولتا لساحه كبيرة تحيطها حجرات واسعه ربما خمسه ربما تسعه لااحد يعرف ، فالابواب المغلقه لاتفصح عن عدد الحجرات المختبأه خلفها ، هنا ، كان الخواجات والاجانب يعيشون حياتهم السعيده بعد انتهاء ايام العمل الطويله ، هنا كان يأكلون ويرقصون ويحتسون الخمر ويصاحبوا النساء الجميلات بالاكتاف العاريه والفساتين الواسعه والاحذيه اللامعه بكعوبها العالية !!! هذا مايذكره الخواجه صاحب النادي عن النادي قديما وقتما كان طفل صغير يصاحب ابيه لمقر عمله ..
هل ورث الخواجه المكان عن ابيه الذي ورثه عن ابيه الذي اشتراه وقتما حط علي القاهره من بلاده البعيده مغامرا يبحث عن عمل وفرصه للرزق !!! هذا مايظنه البعض ويرددوه لبعضهم البعض ، لكن احد لايعلم الحقيقه !!!
يقال ان الجد الاكبر كان يهوديا فر من اوربا وافران الغاز ، ويقال ان ذلك القول وهم كبير وان الجد كان مسيحيا يذهب للكنيسه كل يوم احد ، يقال انه كان ارمني هارب من ارمنيا التي احتلها " السوفيت " وانه يحب الكونياك الارمني والشوكولاته الارمنيه والنساء الجميلات الفارات من الجنه ، نساء ارمنيا بشعورهن الحمراء الناعمه واجسادهن القده ، يقال انه كان يوناني عاش في الاسكندريه بضعه سنوات ثم رحل للقاهره المحروسه ام الدنيا وهنا اشتري النادي مكانا للاجانب من اهله وعشيرته وابناء قارته بعدما تبعثروا علي المقاهي المصرية يسمعوا اسطوانات سيد درويش ويشربوا الحلبه الحصي والشاي الصعيدي دون سعاده ودون مزاج ، ويقال انه كان مصري " صايع " ركب البحر وعاش في اوربا سنوات تصعلك هناك كيفا شاء وعاد مرتديا قبعه بيضاء وحذاء ابيض يتحدث العربيه بلكنه معووجه وكأنه انتمي لبلاد الخواجات وقرر وقتما عاد ينشأ النادي علي طراز الانديه التي احبها في ازقه اوربا ، شبابيك كبير واسعه لاتفتح حتي لاتدخل اتربه الشارع ورسومات ونقوش علي الاسقف والجدران ومناضد كبيرةبمفارش بيضاء وبار عالي واكواب كريستال ساطعة وشموع فواحة بعبير الفاكهه علي كل منضده ، يقال انه خلق اجواء اوربا في الميدان الكبير في الحي الارستقراطي الذي كان ولم يعد ، فتوافد الاجانب علي ذلك النادي واحبوا اجواءه و.............صار مكانهم !!! 

( 3 )
الدكتور منسي

سألته زوجته ، لماذا بالذات هذا المكان ؟؟
كانت تساله تستنكر ذهابه المتكرر للنادي ، هناك اماكن كثيرة اجمل من ذلك النادي وطعامها اشهي واكثر اناقه وراحه ، لماذا هذا المكان يامنسي ؟؟
هو رجل سبعيني اشيب الشعر والحاجبين والشنب الكثيف استاذ علم اجتماع ، خرج علي المعاش بعد سنوات طويلة قضاها يدرس للطلاب تعيسي الحظ الذين القاهم مكتب التنسيق علي كليته التي يفخر بالانتماء لها وهم لايفخرون ، سنوات طويلة قضاها يدرس لهم حال وطنهم ومجتمعهم وهم لايفكروا الا في الفرار منه للبلاد التي لايعرفوها بحثا عن ثراء لايمنحه لهم وطنهم الذي يعيش نصف مواطنيه او اقل قليلا تحت خط الفقر ، سنوات طويله يكتب ابحاثا هاما لايقرأها احد ولا يستفيد منها الوطن ولا مسئوليه ، لكن لم ييأس ولم يزهق ولم يكف عن البحث والتأمل ، سيأتي يوما سيستفيد الوطن بكل مااكتبه !! هذا مايقوله لنفسه كلما هم يكتب بحثا اضناه الهم وهو يفكر فيه ...
هو ..الدكتور منسي .. العالم المصري العاشق لوطنه حتي الثمالة ..
وهي زوجته ، فكرية ، طالبته التي احبته اكثر مما تحب علمه وهو استاذها العائد من البعثه التي حصل فيها علي الدكتوراة ، وقعت في حبه من محاضرته الاولي وشاغلته بروحها الجميله وتفوقها العلمي حتي بادلها الغرام وتزوجها وصاحبته رحلة البحث والدراسة والهم وعشق الوطن ، شاركته اوقات الفرحه القليله واوقات الهم والحزن الطويلين ، ومرت سنوات العمر في الدراسه والابحاث وتربيه الاولاد الثلاث..
ابتسم ، وليه نص البلد اساسا يافكرية ؟؟
هزت رأسها لاتعجبها اجابته ، ماانا سألتك الف مره قلت باحبها !!! بجد يامنسي المكان ده محيرني ، اشمعني بتحبه كده ؟؟ ..
ضحك يمازحها ، باحب نص البلد وباحب النادي وباحبك ، والقلب ومايريد يافكريه !!!!
لم تعجبها اجابته واصرت ، لا بجد ليه المكان ده بالذات ؟؟؟
لايجيبها بسرعه ، غائبا في افكاره والبحث الذي اوشك ينتهي منه عن شخصيه مصر ، بالطبع لم يقتبس فيه ماكتبه استاذه جمال حمدان في مؤلفه الفريد ، لم يقتبس ماكتبه الدكتور جمال حمدان ، لكن شخصيه مصر التي وصفها الدكتور جمال تتلبسه وتصول وتجول داخل روحه وترسم ملامح البحث الذي اضناه شهورا طويلا ... تكرر سؤالها ، بجد يامنسي ليه المكان ده بالذات ؟؟
علي وجهها تعبيرات تفضحها ، تغار عليه ، تعرف ان نساء جميلات كثر يتراقصن في ذلك المكان الذي لايصحبها معه في سهراته الطويلة ، تعرف انه لاينظر للنساء ولايكترث بهن ، لكن شيئا ما يوخز صدرها ، تتمناه يريحها ، هو يفهمها ويعرف طريقه تفكيرها ويعرف انها تحبه ، تتمناه يريحها ، تتمناه يغازلها وياخذها في حضنه ويهمس لها مثل الايام البعيده انه لايحب غيرها ولايري نساء غيرها وعليها الا تخاف !! لكنه لايفعل كل هذا ، رأسه مشغول بكل مايحدث حوله ، البلد يموج بالحراك السياسي ، لايكترث بالسياسه لكن الصراع الاجتماعي المحتدم الذي يصاحب الخصومات السياسيه وربما يعبر عن نفسه فيها ، هذا الصراع الاجتماعي هو مايشغله ... يبحث عن شخصيه مصر كيف كانت وكيف اصبحت ، هل تغيرت ؟؟ ولماذا ؟؟ وكيف ستواجه كل مايحدث حولها ؟؟ هذا مايشغله الان ومنذ شهور طويلة ، شخصيه مصر وفقط ، يشغله اكثر من فكريه وهواجسها وغيرتها الحمقاء ، لايمنحها ماتتمناه فتشاكسه وتتمناه يفعل ، بجد يامنسي ليه المكان ده بالذات ؟؟ ...
يرفع راسه من بين اوراقه مبتسما ويهمس تاني يافكرية ؟؟ ويصمت ويغيب مع افكاره !!!

( 4 )
المايسترو

دخل عازف البيانو العجوز بشعره الابيض المتساقط وصلعته اللامعه وبذلته السوداء الانيقه بياقتها الستان البراقه ، دخل من البوابه الكبيرة للعماره العالية التي يقع فيها النادي الذي يعزف فيه علي البيانو الاسود القديم منذ اربعين عام ويزيد !!!
صعد السلم بخطوات بطيئه علي اقدام مرتعشه ، كم مره صعد هذا السلم ، كم مره هرع يجري متأخرا عن ميعاد عمله ، يدخل من الباب يجري صوب البيانو ، يصفق له جمهور الحضور ، يحبوه وموسيقاه الرقيقه ، كم مره غاب عن عمله ، ولا مره ، لايقوي علي قضاء امسياته الا امام ذلك البيانو ، اصابعه السوداء والبيضاء صارت اصابعه هو ، اطراف اعصابه ومراكز احساسه ، يعزف من روحه مقطوعات موسيقيه لاسعاد جمهوره المحب للحياه !!!!
هذه هي حياته ، النادي الليلي والبيانو القديم ومعزوفات الموسيقي الجميله !!!!
كان شابا ارعن احضره والده رغما عن انفه للخواجه ليمنحه الوظيفه ، اطاع والده علي مضض ، لكن البيانو العتيق اسره منذ الليله الاولي التي لمس اصابعه باصابعه !!! وقع في اسره واحبه ونسي احلامه بالسفر والهجره و.......... صارت المايسترو ناجي ، نعم ، الخواجه اطلق عليه لقب المايسترو ومن بعده الجمهور ، هو مايسترو فرقته الكبيرة التي هو والبيانو العتيق اعضاءها الوحيدين ، اليوم ، يصرخ الخواجه بالكلمات العربيه الممضوغه ، اليوم ، المايسترو ناجي سيسعدنا بموسيقاه كمثل كل ليله ، بقعه ضوء تقع علي البيانو ، تنتقل لاصابعه الرابضه فوق الاصابع البيضا السوداء ، تصفيق حاد وتبدأ الموسيقي !!!
هل مازال في العمر بقيه ياناجي لتعزف الموسيقي التي تحبها ولاتعرف غيرها حبا ولا وظيفه !!!
هل مازال في العمر بقيه ؟؟؟؟

( 5 )
ابراهيم باشا

اصغي ابراهيم باشا لوالده الوالي وهو يكلفه بقيادة حملة عسكرية ثالثة لشبة الجزيرة العربية ليقضي علي المتمردين  !! هناك سيثأر لشقيقه طوسون وهزيمته في الصفراء وهزيمته الثالثة في تربة  !!! هناك سيثأر للجنود المصريين ممن قتلتهم الاوبئة الفتاكة التي انتشرت في صفوفهم وقتما قطع المتمردين طرق المواصلات بين مكه والمدينه !!! هناك سينتصر عليهم ويحول بين فصل الحجاز عن جسم الدولة العثمانية وهناك سيقضي عليهم وينهي استئثارهم بالحرمين الشريفين .... اصغي ابراهيم باشا للوالي محمد علي جيدا ووعده بالانتصار الساحق عليهم و........... امتطي حصانه ورفع اصبعه يتوعدهم وكاد يتحرك صوب ساحه القتال ............ووقف الزمن وثبت فكان تمثاله الشهير في ميدان الاوبرا الخديوية في قلب قاهرة المعز ....
سنوات طويلة ربما قرون وهو ثابت فوق حصانه واصبعه مرفوع يتوعد ويهدد !!!
هكذا شاهد الملايين من العابرين المنشغلين بحياتهم وهمومهم تمثاله الشهير دون انتباه لمعناه وقيمته ، شاهده الملايين ولم يسألوا نفسهم من هذا الرجل ولماذا يمتطي حصانه والاما يستعد ؟؟؟ فقط الدكتور منسي همس لفكرية ، ده بيشاور علي الاوبرا يافكرية !!
يقفا معا في شرفة منزلهما ، يسكنا في بناية عتيقة عريقه في وسط القاهره تطل علي شوارعها وميادينها وتماثيلها العظيمة ، منذ تزوجا وهما يقطنا تلك البنايه ، رفض منسي طلبات ابيها للسكن في الضواحي الجديده للعاصمه ، رفض مصر الجديده ورفض مدينه الاوقاف ورفض العجوزه ،احياء جديده بلا شخصية بلا روح ، لو يملك لاخذها وعاش في الغورية او خان الخليلي ، لكن ابيها لن يقبل ولا هي ، اختار بنايه عريقه في وسط البلد وصمم عليها ، هنا في تلك البنايه هو في حضرة التاريخ يعيش لحظاته بمنتهي الاستمتاع الواعي ، تشبث برايه ولم يكترث برفضها للسكن في وسط العاصمه وشوارعها المخيفة ليلا بعدما ينصرف الاطباء من عياداتهم والمحامين من مكاتبهم وبعدما تنطفيء الانوار البيضاء من شبابيك البنايات المجاورة وبعدما تغلق المحلات التجاريه ابوابها وتطفيء دور السينما لافتتاها المضيئه ، وقتها لايبقي في وسط البلد الا الليل الموحش ، تشبث منسي برأيه فخضعت فكريه وابيها في النهايه لشطحاته العلميه واعتبرت فكريه ان قبولها السكن في وسط البلد تضحيه لصالح المستقبل العلمي لزوجها الذي لايشغله الا دراساته الاجتماعيه عن مصر وشخصيتها والعاصمه وهويتها والروح المصرية التي لايفكر الا فيها ..
يقفا معا في شرفه المنزل ، يتابعا المارة والمحلات والسيارات المكدسه واشارات المرور الخربة والمتسعكون امام المحلات والمقاهي الفارغة ، تكاد تلومه فكريه ، شايف ادي وسط البلد اللي كنت بتقول عليها اشيك حته في مصر ، شايف شكلها بقي عامل ازاي ، لكنها لاتقول له شيئا وتصمت ، تعرف ردوده ، هي ترموتر البلد ، اللي بيحصل في اي حته بيحصل هنا الاول ، تعرف كل ردوده عليها فتصمت بعدما تحدثت طيله الخمسين سنه التي عاشاها معا ولم يمنحها كل تلك السنوات اجابات او ردودا ترضيها!!!
يهمس لها وهما ينظرا لتمثال ابراهيم باشا فوق حصانه ، ده بيشاور علي الاوبرا الخديويه يافكرية !!
القت فكريه نصف جسدها من الشرفة واطالت النظر للتمثال ولم توافقه ، لا يامنسي ، ده بيتوعد الحجازيين اللي كان رايح يحاربهم !!! ضحك منسي ضحكات متلاحقه وهمس ، بيشاور علي الاوبرا يافكريه انت اللي مش واخده بالك وصمت ............ تنتظره يكمل حديثه ، لكنه لم يكمله ..
دخل من الشرفه وجلس علي مقعده الوثير امام مكتبه العريق وهمس لنفسه ، لاانت واخده بالك ولاحد خد باله ، انه قبل مايروح يحارب الحجازيين وهو بيتوعدهم ، وقتها كان بيشاور علي الاوبرا !!!
همس الرجل القابع فوق السحابة البيضاء البعيدة بجوار القمر ، في اذن منسي  ، لكن الاوبرا اتبنت بعد ماانتصر عليهم بسنوات يادكتور !!!
اشاح منسي للانسان البعيد لايعجبه حديثه ، ماهي دي بقي شخصيه مصر ، تشاور علي اللي حيحصل قبل مايحصل ، ابراهيم باشا كان عارف انه مش حينتصر علي الحجازيين الا بالاوبرا الخديوية ، الاوبرا كانت سلاحه السري اللي متأكد انه حيحسم انتصاراته في تلك المعركه وكل المعارك ...
رفع منسي راسه للسماء وابتسم للقابع بعيدا فوق السحابه البيضا ، الاوبرا الخديوية ، الاوبرا الخديوية ولاايه رايك ؟؟ ابتسم الرجل وغطس داخل السحابه وتظاهر بالنوم فلم يرد عليه !!!
فاهماني يافكرية ؟؟ لكن لا فكريه ولا العابرون بلداء تحت التمثال يفهموا شيئا !!!
طيب اشمعني يعني تمثال ابراهيم باشا في قلب القاهره في مصر المحروسة امام دار الاوبرا الخديوية؟؟؟ حد يقدر يقولي ؟؟
لااحد يجيبه .... لكن سؤاله مازال بلا اجابه في راسه ، يبحث عن الاجابه وهو يكتب اسطر كثيره متلاحقه في بحثه المضني ، شخصيه مصر !!!!
يتمني التمثال يبوح له باسراره والاوبرا الخديوية ايضا !!!
يتمني لكن احدا لم ينطق بعد !!!
هل ستنطق الاحجار ذات يوم ؟؟؟ يسأل الدكتور منسي نفسه وينتظر الاجابات كلها دفعه واحده !!!
في السنوات السبع التي ستمطر فيها السماء وتثمر سنابل القمح ، ستأتيه الاجابات دفعه واحده !!!
ايزيس تتابعه وتبكي وتبكي ، تكاد تهمس له ، هانت يادكتور ، لكنها لاتقول ولايسمعها ومازال ينتظر الامطار هو و تمثال ابراهيم باشا !!!
ابراهيم باشا مازال ينتظر لحظه هطول الامطار فوق راسه فتدب فيه الحياه مره اخري ويعود لمعركته الكبري التي انتصر فيها وسينتصر فيها مره ثانيه !!!!
ومنسي مازال ينتظر الامطار لتثمر حقول القمح سنابلها وتنتهي السنوات العجاف !!!
ومازال الزمن واقف ودولابه ثابت .... والجميع ينتظر تعود لهم الحياة !!!

( 6 )
من فوق السحابة البيضاء

رجل اثنين عشرة مائة الف ..
خطوات ثقيله تدب علي الارض ، ثقيلة كأنها تتمني تدك الارض والسماء فوق بعضهما ..
عشرة الاف ربما خمسين الف اكثر اقل
نساء كثر وسط الصفوف
ذقون شعثه وجلاليب بيضاء وملامح قاسيه واصوات تزأر عاليا
اعلام ورايات سوداء ترتفع فوق الرؤوس
علم راية اثنين الف عشره خمسين مائة الف
لو انك تجلس فوق السحابه البيضاء البعيده بجوار وجه القمر فوق المحروسة ، لشاهدت عاصفه سوداء تحجب الشمس والقمر فوق عاصمتها تلوح براياتها فوق الرؤوس في الشارع الطويل ..
لو انك تجلس فوق السحابة البيضاء البعيدة ، لسألت نفسك مثل الملايين ، من هؤلاء ؟؟؟!!!
من هؤلاء الذي تخلوا ملامحهم من العيون الفرعونية الكحيله والانف الرومانية والوجنتين النوبيتين والعيون الزرقاء التي تركتها حملة لويس التاسع اثرا علي الوجوه المصرية الجميلة ، بشرتهم ليس بيضاء وردية كاحفاد محمد علي ولا سمراء لامعه كاحفاد النوبيين ولا قمحيه مثل الفلاحيين الطيبين ولا سمرا عفية مثل الصعايدة اصل الوطن !!! 
احدا لايعرف كيف تجمعوا ومن اين اتوا !!
احدا لايذكر متي بدأت تلك التظاهرة الغاضبه !!
احدا لايعرف الي اين تتجه وماذا تريد !!!
لو انك تجلس فوق السحابة البيضاء البعيدة لشاهدت منظر غريب لم تعتاد مشاهدته وانت قابع فوق السحابه منذ قرون طويلة ، ستري تظاهره كبيرة تحمل اعلام سودا تحجب ضوء القمر وتحيل شوارع قاهرة سودا حالكا ، ستري مدينه اشباح متجمدة مكانها وكأن كل شيء ميت عدا تلك التظاهرة ، ستراها تتحرك وتصرخ وتهتف والكل نيام ، والكل موتي !!!
لو انك تجلس فوق السحابه البيضاء البعيدة بجوار وجه القمر ، للمحت دموع ايزيس تتجمع وتتجمع لاتنهمر ولا تتساقط ، دموع ايزيس تجهز لفيضان عاتي سيضرب جنبات المحروسة ، هل سيحطمها وجدرانها ومعابدها ، هل سيروي عطشها للخصوبه والنماء ، لااحد الان يعرف مالذي يحدث !!!
الشيء الوحيد الذي نعرفه جميعا ، انا وايزيس الباكية والانسان القابع فوق السحابه البيضاء ، كل مانعرفه ان المدينه وكأنها ماتت ، وان التظاهره الحاشده باعلامها وراياتها السوداء تتحرك صاخبه وكأن خطواتها تنثر موتا علي المدينه التي عاشت الف عام ولم تموت !!!!
صرخ الانسان القابع فوق السحابه البيضاء ...... الزمن توقف !!!
انتبهت ايزيس وابتسمت وهمست لحورس ........... الزمن توقف !!!
ابتسمت انا واعجبتني اللعبه العابثه التي نلعبها جميعا في عوالم الوهم..... الزمن توقف !!!
ونظرنا جميعا لدولاب الزمن الدائر فلاحظنا ثباته وتوقفه عن الحركة !!!
هذه لحظه خاصه جدا ، قد نعيش ونموت ونبعث ونعيش ولانراها ثانية ..
اللحظه التي توقف فيها الزمن عن الحركه ومات كل شيء !!!!
وسالت نفسي .... لماذا توقف الزمن ؟؟؟؟؟؟؟؟
يوم ارتفعت الاعلام السوداء في سماء قاهرة المعز ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

( 7 )
نوفي

حدقت في المرأة لاخر مره ، تراجع كل التفاصيل ، الكحل ثقيل كما تتمناه والروج لامع مغري ، خصلات شعرها تساقطت وكأنها لاتقصد فوق حواجبها الكثيفه وكأنها توزع عهود الهوي علي المشتاقين ، نظرت لجسدها راجعت كل التفاصيل ، فستانها الاسود ملتصق بجسدها البض ، حذائها الستان نظيف وشرابها الحريري مشدود  ، حمالات الفستان واسعه فتسقط احداهن علي كتفها تزيد اغوائها اغواء والثانيه تبقي لتحمل الفستان الثقيل علي كتفها الاخر ، حدقت في المرآة للمرة الاخيرة وسحبت حقيبه يدها الصغيرة وتأكدت ان مفتاح الشقه في قاع الحقيبه ومعه العازل الطبي الذي لاتنسي ابدا تحمله معها ، قلم الروج وقنينه العطر ومراية صغيره ومطواه قرن غزال  ، محتويات حقيبتها التي لاتستغني عنها ، حدقت في المرآة وكعادتها لوحت لنفسها وكأنها تودعها وبسرعه خرجت من باب الشقه بعدما احكمت اغلاق بالباب..
تسير علي قدميها صوب النادي ، قدميها يعرفا الطريق ، عشرات بل مئات المرات سارت في ذلك الشارع ، من منزلها للنادي ، شارع طويل ستقتل ملله بمشاهده المحلات ، شارع مظلم تنحرف له يمينا ، تتحسس مطواتها تحسبا لاي اعتداء غادر من شاب صايع لم يجد مايقتل به وقته الا التسكع في الشوارع المظلمه ، ميدان مزدحم بالسيارات والماره ، تنتبه وهي تعبره ، خوفا تاتيها سياره مسرعه كما حدث لها من خمس سنوات ، صدمتها والقتها ارضا وكانت ايام سوداء ، تسير علي قدميها صوب النادي او تقودها قدميها للمكان الذي تعرفه واختارته من كل اماكن وسط البلد مقرا لنشاطها !!!
اليوم الخميس والسهره طويله واخرها عميل يرهقها بعدما مني نفسه بليله عابثه مع حوريه من الجنة!!
ضحكت وهو تسمع صوت راسها ، يقولوا عليها في النادي انها حوريه من الجنه ، الكل جرب لياليها الحمراء والكل يشيد بها وببراعتها في فنون الغرام ، سنوات وهي تتردد علي ذلك النادي ، وقتما هربت من اخيها المدمن وركبت القطار ليحملها من بلدتها البعيده للقاهره ، هنا هربت من اهلها وهنا عاشت في الشوارع ونامت فوق الارصفه وهنا تعرفت علي معلمات "الكار" اللاتي علمنها اصول المهنه ، لم تخجل ابدا من مهنتها ، ولماذا تخجل ، هذه هي المهنه التي فرضتها عليها الشوارع ، اما الخدمه في البيوت واما ......... بيع الانبساط !!! طبعا اختارت بيع الانبساط ، لن تكون خادمه ينحي ظهرها وهي تمسح الارض ويعاملها اصحاب البيت معامله كريهه ويغتصبها ابنهم العابث كل ليله ويتقاسمها مع ابيه ان قرر الاب بسطوته ان تصبح تلك الليله التي تغيب فيها زوجته عن المنزل في لقاءها الاسبوعي مع صديقاتها هي ليله استمتاعه بجسدها والعبث به قتلا لوقت الملل حتي تعود زوجته ، لن اكون خادمه وسابيع الانبساط !!! وقد كان ، عانت ليال طويله ثم تعلمت وبسرعه فنون المهنه واسرارها ، لم تختر النادي ، لكن النادي هو الذي اختارها ، صاحبها عميل غريب عن القاهره للمكان ، رقصت وشربت واكلت واشاعت صخبا وبهجه لم يعهدها النادي ورواده العواجيز ، في اليوم التالي ، دخلت النادي وحيده وجله ، امس كانت مع عميلها واليوم تبحث عن عميل جديد ، خافت يطرودها من المكان ، جلست علي منضده بعيده وحين صدحت الموسيقي قررت ترقص وحيده ، تسللت للخشبه التي اعتبروها ساحه للرقص ، ادرك عازف البيانو انها سترقص ، عزف المقطوعات التي ستسمح لها باظهار كل مواهبها ومفاتنها ، رقصت وجله خائفه من ردود افعالهم لكن تصفيقهم العالي وصرخات الاستحسان شجعتها لترقص اكتر واكتر و............... عادت لمنضدتها لتجد العميل الذي تتمناه ينتظرها بكل شوق ، و......... صار النادي مكانها والمنضده البعيده مكتبها الذي تباشر منه عملها و...........منحها الخواجه اسما جديدا بدل الاسم الفلاحي الذي اختارته لها جدتها ، نفيسة  ، مافيش نفيسة ياحبيبي ، ده اسمه صعب تقيل ، اختار ، فيفي ، سوسو ، نوفي !!! صفقت بكفيها فرحه واختارت نوفي!!!

( 8 )
زحام

فجأ ، تنتبه المدينه المزدحمه بسياراتها ومبانيها القبيحه وبائعيها الجائلين وبضاعتهم الرخيصه الملقاه علي الارصفه واصحاب المحلات الخاويه من زبائنها والبنات اللاتي يقتلن الفراغ بمشاهده المحلات والسير وسط الزحام بحثا عن كلمه اعجاب ترفع معنوياتهن والشحاذين والكناسين ببدلهم الخضراء الرثه والنسوة اللاتي ينشرن الغسيل في الشرفات والشباب الكثر الواقفين علي نواصي الشوارع يبحث عن تسليه رخيصه لاتتطلب منهم نقودا عاجزين عن دفعها لانتشار البطاله وباعة الصحف علي الارصفة والبوابين ومنادين السيارات ، فجأ تنتبه المدينه المزدحمه بسكانها الفقراء والاغنياء ، ساكني الاحياء الراقية وساكني العشوائيات ، ساكني الاحياء العريقه وساكني الاحياء الشعبيه ، متوسطي الحال والاثرياء ، النساء في السوق والرجال علي القهوه والاطفال في الحارات الضيقه ، فجأ انتبهوا لصخب غير مألوف ، ضجيج ، هتاف ، انتبه الجميع وفتحوا عيونهم اندهاشا ، اعلام سوداء وهتافات غاضبه و...  مظاهرة .. مظاهره لكنها ليست مثل كل المظاهرات التي عرفوها وسمعوا هتافاتها وصرخوا بمنتهي الحماس خلف متظاهريها بل واندسوا وسطهم يهتفوا معهم ، مظاهره ... مظاهره غير المظاهرات التي اعتادوا يروها ويشاهدوها ويتابعوها !!!
عشرات مئات الاف العيون حدقت في تلك المظاهره واصحابها الغاضين واعلامهم السوداء وهتافاتهم المحتدمة وسالوا انفسهم سؤال لم يعثروا علي اجابته ...
مين دول ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟  
مين دول ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ومازال السؤال حائر يبحث عن اجابته ....
كاد الانسان القابع فوق السحابه البيضاء بجوار وجه القمر ، كاد يبوح للمدينة المندهشة عن ماهية الرجال ذو الاعلام السوداء من هم ومن اين اتوا ولماذا جاءوا ، كان يشرح لهم مايعرفه ، لكن ايزيس القابعه بجواره اشارت له يصمت ، من قال ان الفهم مفيد دائما ، لاتنشر فزعا لاتعرف كيف تداوي اثاره ونتائجه ، لو عرفوا من هؤلاء الرجال لاصابهم الفزع ، لن يصدقوا انهم بقايا الجيوش المنهزمة في المعارك البعيده ، لن يصدقوا انهم عادوا وتمالكوا انفسهم وجمعوا اسلحتهم وقرروا يثأروا من هزائمهم القديمه ، لو عرفوا حقيقتهم لخافوا ، فهم لم يعدوا العدة لانتظارهم لاستقبالهم لقتالهم ، لو عرف اهل المحروسه مالذي يجري في شوارعها لهزموا بغير معركه ، اصمت وانتظر !!!
وافقها علي مضض وصمت ينتظر المفاجأة التي ستصيبه دهشتها وقتما يتمالك اهل المحروسه انفسهم ويستدعوا كل ملوكهم وزعمائهم وقاده جيوشهم ويدافعوا عن انفسهم ووطنهم مثل كل مره سابقه وينتصروا !!!
همست ايزيس ... سينتصروا !!!
هز رأسه نفيا .... لااظن هذه المرة ايضا سينتصروا !!!
ابتسمت وانا انهرهم معا .... فلتصمتوا وتتركونا نستمتع بما نراه ، لاتبددوا متعتنا !!! انصاعا لرغبتي طائعين وبقينا نتفرج معا علي مايحدث في مصر المحروسة !!!
ومازال السؤال حائر يبحث عن اجابته ....
مين دول ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

( 9 )
الاوبرا الخديوية ..

النيران مشتعله في الاوبرا الخديوية !!!!
الامبراطورة اوجيني تجلس في المقصورة الملكية وحولها الضيوف الامراء والملوك والباشوات والباكوات وموسيقي فيردي تصدح عاليه وعايدة تتسلل لمقبرة راداميش لتموت معه !!!
هل تبكي الامبراطورة اوجيني وهي تري عايده تنتحر حبا مع حبيبها ومليكها المحكوم عليه بالاعدام !!!
بالطبع لا ، الامبراطورة لم تبكي ولا اي من الحضور ، فقط بعضهم وخزه قلبه تاثرا بقصه من اجمل قصص الحب البشرية ...
النيران اشتعلت بعد قرابه مائه سنه واكثر من ذلك المشهد !!! فحين اندلعت النيران بسبب ماس كهربائي في المبني التاريخي العريق ، كان خاويا مطفيء الانوار بلاحراسة وكأنه مبني تافه بلا قيمة ...
اندلعت النيران وسرعان ماالتهمت المبني التاريخي وكل اسراره وعظمته وفنونه التي صدحت موسيقاها واغانيها بين الجدران الخشبيه العالية ..
المبني العريق الخشبي يحترق والسنة اللهب تصل للسماء !!!
حلقات واعاصير من دخان اسود تتصاعد للسماء !!!
لكن كل هذا لايتحرك ، لايحدث فعلا ، بل يحدث !!!
الزمن توقف لحظة الحريق ، فبقي الحريق مشتعلا والدخان الاسود يخيم علي سماء القاهرة ..
لم يقف الزمن وقتما كانت تجلس اوجيني في المقصورة الملكية ، ولماذا يقف الزمن وقتها ، كان وقتها سعيدا مبهجا تتألق فيه الارواح وتقاوم موات ثبات الزمن ، لكن الجدران الخشبيه الخاويه والموات الذي احتل مابين ضفافها لم تقوي تقاوم الحريق بل قدمت له نفسها قربانا كمثل عايده وقتما تسللت لمقبره راداميش ، هنا كان الموت وجوبيا للتاريخ والذكريات وقصص الحب والمبني العريق ، هنا قرر الزمن الا يتحرك ، ويحتفظ بلحظة الحزن ابديه فثبت ونشر الموات علي اللحظة!!
من بعيد .....وانت تقف بجوار الاوبرا الخديويه تبكي مثلي .... ستلمح رجل وامرأة يبكيا في شرفة منزلهما ، الدموع ماس يترقرق فوق وجنتيهما لكنه ثابت لاينزلق للارض ، علي الوجه ملامح الم ثابته ، هي لوحة وليست حقيقه !!!
بل هي حقيقه حدثت فعلا ، كانا يبكيا وقتها ، لكنهما الان يفعلا اي شيء اخر لانعلمه ، فمانراه لايحدث الان ، بل حدث منذ سنوات بعيده ، حدث وانتهي ..
لكن الزمن توقف في تلك اللحظه فبقيت امام الناظرين لاتنمحي !!!
لكن من يري ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
من يري ابعد من اصابع كفيه وبوز حذائه !!!
بالطبع احدهم يري وسنسمع صوته وحين سيتكلم سينجلي الغموض ويتحرك الزمن !!
احدهم سيتكلم قريبا ومازلنا ننتظره ونتمني الا يطول انتظارنا !!!

( 10 )
النادل

ناده احد رواد النادي وساله ، ليه فانوس ، ضحك ، علشان انور في الضلمه ، ضحكوا !!!
الاضاءه خافته ، المتر فانوس يجمع الاكواب الفارغه ويرص زجاجات البيرة علي المنضده ، يمني نفسه باكرامية كبيرة ، الدكتور رؤوف كعادته سيجزل له العطاء ....
المتر فانوس اقدم الجرسونات في ذلك المكان ، دخله منذ زمن بعيد ، وقتما كان لايدخل المكان الا الاجانب ، يونايين علي انجليز علي فرنساويين علي المان ومعهم بعض اولاد البشاوات واولاد الحرام !!! يضحك فانوس ، كان صغيرا يجيد بعض الكلمات الاجنبيه ، بنجور بنسوار ، جود مورنج جود نايت ، هاي باي ، تلك الكلمات القليله اهلته ليعمل في نادي الخواجات ، ارتدي الجاكت الابيض ورابطه العنق السوداء والبنطلون الاسود ، كان نوبيا ، تلمع عيناه اندهاشا وتلمع اسنانه الناصعه وسط الليل ، ناداه الخواجه مدير النادي وساله عن اسمه ، قاله له فنسيه بسرعه من اثر الخمر الذي يتلاعب بوعيه ، لمح اسنانه الناصعه وسط الليل مضيئه ، ضحك الخواجه وصرخ ، انت منور ولد ولا فانوس و........... صار اسمه المتر فانوس حتي نسي الناس الاسم الذي منحه له ابيه ، ادريس ، لم يعد ادريس ، صار فانوس ، حتي هو نسي اسمه ولا يرد علي احد لو ناداه به ...
المتر فانوس يعرف كل رواد المكان وزبائنه ، يعرف الدكتور منسي وزملائه ، يأتون للنادي بالملابس الرسمية وكأنهم في اجتماع مع رئيس الوزرا ، بدله وكرافته واخر جدية  ، يجلسوا في طرف بعيد ، يشربوا ويأكلوا في صمت غريب علي طبيعه النادي ورواده ، يلحظ فانوس في بعض الاحيان ان منسي يقضي ليلته يشرب ماءا باردا ، يحتفظ بوعيه طيله السهرة ، يخرج من الجيب الداخلي لجاكتة البدلة مفكره صغيره يدون فيها ملاحظات كثيرة ، مرة تجرأ وساله ، بتكتب ايه يادكتور ، ابتسم منسي ، اللي بشوفه ، لم يفهم فانوس ، ايوه ليه يعني ، شرح له منسي ، علشان ماننساش بنشوف ايه ، علشان نفهم!!! لم يفهم فانوس وترك منسي وزملاءه علي منضدتهم يحس حدقات عيونهم كاميرات تصوير ترصد كل مايحدث في المكان بصمت ودون ازعاج للاخرين ، طيب يادكتورانا موجود لو حضرتك عايز حاجه ،يبتسم منسي فيطمئن فانوس ويعود لعمله ، سنوات طويله يري منسي في النادي ، يأتي كل يوم للنادي حتي صار من معالمه المعروفه ، يحبه فانوس ويشعر الطمأنينة لوجوده ، ويشعر فانوس ان منسي يحبه ،لم يقل له ابدا انه يحبه لكنه يشعر بذلك الحب يجتاحه ويطمئن روحه ، ذات مره سأله فاكر ايه اللي حصل ايام السد يافانوس ، هز فانوس راسه ، طبعا ودي حاجه تتنسي ، طيب مره عايزك تقعد وتحكي لي ، ماشي يادكتور ، مره تكون انت رايق وانا فاضي ونقعد نتكلم !!! نعم لم تأتي تلك اللحظه بعد ، لكن فانوس يعرف ان منسي يهتم لامره ويحبه وسيأتي يوما ويصغي لقصة وجعه هو وكل اهله ...
المتر فانوس يعرف كل رواد المكان وزبائنه ، يعرف مالذي يأكلوه ومالذي يشربوه ، يعرف من يأتي من اجل نوفي ومن يأتي من اجل زجاجه بيره تنسيه ما لايرغب في تذكره ، يعرف الرجلين الغريبين الذين يدخلا النادي وكأنهما متعانقين يتسللا للمناضد الخلفيه في الظلام ، لاحظ فانوس بعض الاشياء الغريبه لكنه لم يكترث ولم يخطر الخواجه بها ، ماليش دعوه ، ثلاثين عاما وانا ماليش دعوه ، هذا الرجل يقبل تلك الفتاه في الظلام ماليش دعوه ، هذا الرجل تتسلل يده تحت المنضده ويعبث بملابس السيدة التي تصطنع الوقار ماليش دعوه ، نوفي تسرق زبونها الذي فقد وعيه من كثره الخمر ، ماليش دعوه ، انا جاي اكل عيش وبس ، وغير كده ماليش دعوه !!!

( 11 )
المنادي

القي رجب ببصره بعيدا ، لاينظر للشارع الذي يقف فيه ، ينظر بعيدا للميدان والشارع الواسع خلفه ، هكذا اعتاد ، لاينظر ابدا تحت قدميه ولا امامه ، ينظر بعيدا ، هو منادي السيارات امام النادي ، زبائن النادي تعاني كثيرا حتي تصل امام بوابته بسبب ازدحام الشوارع ، يراقب الميدان ، يلمح سياره مرتبكه تتعثر في حركتها ، قائدها يبحث عن مكان يتركها  فيه ، متأخر علي ميعاده ، جميعهم يتأخروا علي مواعيدهم ، الشوارع زحمه لحد لايسمع لاحدهم يصل في ميعاده ، السياره عبء رهيب علي قائدها ، لايقوي يطويها ويدسها في جيب جاكتته ، يتمني يصل للنادي ويلقيها بعيدا ، يبحث عن رجب بلهفه كالغريق الذي يبحث عن سباح ماهر ينقذه من الموت ، رجب يراقب الميدان والشارع خلفه ، يراقب السيارات التي تبحث عنه ، لاينتظرحتي تصل اليه ، يجري بسرعه بقدمه الخشبيه وعكازه ، يفتح الباب وهو يحتفي بالعميل ويرحب بسلامته ، انزل ياباشا ، يريحه من العبء ويخلصه من السيارة التي تخنق انفاسه ، هكذا تعلم المهنه من المعلم الكبير الذي اصطحبه وهو سائر علي وجهه في الشوارع غريبا بعدما خرج من منزل ابيه ولم يعرف كيف يعود اليه ، اصطحبه المعلم واوقفه في ذلك المكان ، فتح عينك يارجب ، اطاعه وفتح عينيه ، ومرت سنوات طويله وهو يقف في نفس المكان ، مات المعلم وصار هو المعلم علي كل الصبيان في الحارات الضيقه والشوارع البعيده ، وهو في مكانه ، امام بوابه النادي  ومازال " مفتح " عينيه " قوي قوي " !!!!ا
وقفتي هنا مش اونطه ، هكذا يقول رجب لنفسه ، يعرف سكان المنطقه واسرارهم ، من يعود من عمله متأخرا ومن يكتئب فلايغادر منزله يومين ثلاثه ، يعرف حالتهم المزاجيه ، فتح النوافذ واغلاقها ، شكل الشرفات والغسيل المنشور ، يعرف حالتهم الماليه ، زجاجات الويسكي الفارغه وعظام الفخذ الضاني ، قشر البتنجان واكياس المكرونة الفاضية  الملقاه في سلال قمامتهم ، قشر اللب والمناديل الورقيه تمسح الدموع والهم ، يعرف كل صديقات الرجل العازب في العماره الكبيرة المطله علي الميدان ، احداهن تعطيه بقشيش كتير حتي يخفي سيارتها عن الشارع العمومي ، الثانيه تتسلل من التاكسي وتهرع لمدخل العماره بسرعه تخاف عيون المتلصيين والماره ، الثالثه ، تنزل من سيارتها بعدم اكتراث وسيجارتها مشتعله علي طرف شفتيها ، ترمي له المفتاح بلا اكتراث وكثيرا ما تبيت مع الرجل وتنزل في اليوم التالي ، تاخذ سيارتها صامته كما وصلت صامته ، وقفتي مش اونطه ، يعرف من غير سيارته ومن عاد مخمورا فحطم مقدمتها في الرصيف العالي الذي نسيه بعدما تلاعبت الخمر برأسه ، يعرف من يعيش وحيدا في منزله يتمني ونس ولو كان ونس البواب الذي يقص عليه مشاجرات بائعي الصحف ويعرف من يكره الصخب حتي ينكر وجوده داخل الشقه فلايفتح لزائريه ، يعرف كل سكان المنطقه ، وحين ماتت السيدة العجوز في شقتها ، انتبه رجب اول من انتبه ونبه البواب ان الست بقالها كذا يوم ماظهرتش ، يعرفها رجب وكثيرا ماساعدها وهي عائده لمنزلها مرهقه تحمل اكياسا ثقيله وكم مره داعبها وعرض عليها الزواج بدل الوحده التي تعيش فيها وكم مرة تحمل شتائمها وهي تصبها علي راسه من شرفتها لانه ايقظها من نومها مفزوعه بسبب صراخه في الشارع وكلاكسات السيارات التي يركنها ، وقفتي هنا مش اونطه ، يعرف الدكتور منسي جيدا ، وقتما وقف امام النادي ليركن السيارات شاهد منسي مره واثنين يأتي للنادي سيرا علي قدميه بلا سياره ، انتظر يظهر بسيارته لكن انتظاره طال ، ساله ، فين عربيتك ياباشا ، ضحك منسي ، اولا انا مش باشا ، ثانيا معنديش عربيه ، لاحظ منسي الدهشه ترتسم علي وجه رجب ، ايوه معنديش عربيه ، مابحبش السواقه ، بحب المشي علي رجلي ، بس مش مقامك ياباشا ، تاني باشا ، المدام معاها عربيه لما بنكون رايحين مشوار بعيد بتسوق هي ، انا باحب الشوارع والمشي فيها ، ارتبك رجب وتمني يسأله ، ليه ياباشا غاوي شقي ، لم يسأله خجلا ، ضحك منسي وشرح له دون سؤال ، الشوارع هي الحياه ، طول ماانت ماشي بتشوف وتتفرج علي حاجات عمرك ماتشوفها وانت راكب عربيه ، صح ياباشا بس برضه ، ضحك منسي ، مافيش فايده فيك ، قلت لك انا مش باشا ، رفع رجب يده بالتحيه العسكريه لمنسي ، نورت ياباشا ، فتركه منسي وهو لايكف عن الضحك وصعد السلم في طريقه للنادي وتمني لو وقف علي جانب واخرج مفكرته وكتب سؤال فجره رجب في عقله ، ليه بيضرب تحيه عسكريه مع انه عارف اني مش ضابط ولاباشا ؟؟؟ لكنه لم يفعل واكمل صعوده علي السلم ، وبقي السؤال في راسه ، ليه صحيح ؟؟؟؟

( 12 )
النادي

اذا تسللت من الباب الكبير خلسة ، ستجد اغرب مشهد امامك ...
مناضد كثيرة ، مفارش بيضاء وشموع لايتراقص لهيبها ، فهو ايضا ساكن مثل كل شيء حوله !!!
هنا كانت حياة وبشر وموسيقي وضحكات صاخبه ..
لكن الزمن توقف .. فثبت كل شيء علي حاله !!!
لهيب الشموع ثبت مكانه ، بعض اللهب يمينا والبعض يسار !!!
السيدة التي ترقص علي ساحه الرقص الخشبية ، تميل بجذعها للخلف وثبتت علي حالها ، لم يمنحها الزمن قبلما يثبت فرصه ليعود ظهرها مستقيما ، النادل الذي يصب الماء في الكوب امام الدكتور منسي تراه في اغرب مشهد ، الماء متجمد مابين الزجاجه التي في يده ومابين الكوب التي في يد الدكتور منسي وابتسامه مرسومه تزين الوجهين ، نوفي تميل برأسها علي كتف رجل لانعرفه وهو يكاد يحتضنها ، لكن رقبه نوفي مالت علي كتفه ولم تعود وذراعه تعلق في الهواء لم يصل لكتفها ... اصابع المايسترو ناجي متيبسه فوق اصابع البيانو التي يرتفع بعضها وينخفض الاخر والنغمات الموسيقيه مبعثره في الهواء ثابته مكانها لم تصل لاذان المستمعين فتطربهم ، بعض اللمبات الصغيره مضاءه والبعض الاخر مظلم ، عقود اللمبات الصغيره تزين الشبابيك العالية ، بعضها يشتعل والبعض الاخر ينطفي ، وحين ثبت الزمن ، ثبت اللمبات علي حالها ... نسمات الهواء التي دخلت من النوافذ العاليه ، ثبتت في مكانها ، بعضها اخذ الستاره الحريرية وتحرك بها وثبت وثبتت وبعضها ازاح خصلات الشعر البنية من علي جبهه السيدة الجميله التي تجلس بعيدا عن ساحه الرقص تنظر في ساعتها ، تحرك الخصلات بعيدا عن جبهتها وثبتت ومازال عنقها ملتوي وهي تنظر للساعه التي ثبتت عقاربها كلها حتي عقرب الثوان ....
مالذي حدث لهذا المكان ، مالذي حدث لهؤلاء البشر ؟؟؟هل وقف الزمن داخله فقط ويتحرك في بقيه الدنيا ، هل وقف الزمن في الدنيا كلها فشمل المكان ورواده؟؟
 نحن الان لانعرف مالذي يحدث ، لكننا بالقطع سنعرفه وبسرعه !!!!
مالذي حدث لهؤلاء البشر ؟؟؟ هل رش في المكان غازا اشل حركتهم ، غازا خصص للبشر لتجميدهم كالتماثيل الصماء ، لكن لهيب الشمعه ثبت مكانه واصابع البيانو ونسمه الهواء والماء المسكوب والنغمات الموسيقي التي خرجت من اصابع البيانو واوتاره ولم تصل اذان المستمعين !! كل شيء ثبت وتجمد في ذلك المكان ، الزمن ثبت فماتت كل الاشياء وهي حية !!!! ماتت لاتتحرك لاتتنفس لاتنبض قلوبها ولا تتحرك ذراتها ، لكنها حية مازالت حية ، حين يتحرك الزمن ، ستعود الحياه لكل الاشياء ، ستعود الحياه للحياة !!!!
هل هذا المشهد الغريب فقط داخل النادي وبين رواده !!!!
يبدو هذا ...
كيف عرفنا ، لان ، الصوت الغاضب الهادر العالي للمظاهره الحاشده التي سارت تحت الشرفه البحريه الكبيرة للنادي مازال عاليا يصم الاذان ، نعم ابتعدت المظاهره عن الميدان ودخلت احد الشوارع الكبيرة بعيدا عن النادي ، لكنها مازالت تسير في طريقها ومازالت اعلامها السوداء عاليه ترفرف ومازال صراخها يحتل سماء العاصمه المذعورة ........
الزمن ثبت في النادي وخيم بموته فوق رؤوس رواده !!!!
لكن المظاهره مازالت تتحرك في طريقها لم يثبت زمنها ولم يتجمد روادها ومازالت تصرخ والاعلام السوداء فوق رأسها !!!!
تسائل احدهم ولماذا ثبت الزمن في النادي ؟؟؟
فاجابه احدهم ولماذا نام اهل الكهف ثلثمائه سنه داخل الكهف ؟؟؟
انتفض الاول غاضبا ، وهل تشبه اهل الكهف برواد النادي ؟؟
ابتسم الثاني ببرود ، من قال اني اشبه هؤلاء بهؤلاء ، فقط الزمن ثبت هنا وهناك ، هذا وجه الشبه ولعل هناك حكمه ما من خلف ذلك التشابه و...................... مالهم رواد النادي ، تتحدث عنهم وكأنهم تسبهم ؟؟؟ نظر له الاول نظره حانقة ولم يرد عليه ...
مازال الزمن ثابت والوقت لايتحرك والحياه متجمده وكأنها ماتت و............. بدأت الحكاية التي يعرفها الجميع ولايعرفوها !!!!
احكي لنا ايها الزمن ، لماذا رحلت بحياتك من النادي وبين رواده وتركت المظاهره باعلامها السوداء تتحرك في طريقها وكأنها منحازا لها ولروادها !!!
ضحك الزمن ضحكات شريره متتالية وصرخ في وجوه الاحياء والاموات ، اغبياء كنتم ومازلتم ، لاتفهموا عاجزين عن الفهم والتفسير ، ربما اسوقهم لحتفهم وانقذكم !!!!
ضحكات شريرة عاليه متلاحقه ، هي الموسيقي التصويرية الصاخبه لتلك الحكايه !!!
من قال هذا ؟؟
الموسيقي التصويرية الصاخبه لتلك الحكايه مزيج من ضحكات شريره عاليه متلاحقه ومابين هتافات صاخبه عاليه و............. صوت مخروس محبوس وسط صدور وحلوق اصحابه الذي حرمهم الزمن مؤقتا من الحياه وقتما اوقف عقارب ساعاته وثبتها و........... جمد المشهد !!!!

( 13 )
الاسود الاربع

همست الاسود الاربع علي ضفتي الكوبري ، لازم نتحرك !!!
من تحت اقدامهم مرت التظاهرة براياتها السوداء ، تخترق المدينه وتتجه لنص البلد ، هناك المباني التي بناها ابو السباع ، هناك المنمنمات الانيقة والزينة البديعة تزركش الشرفات والنوافذ ، هناك الجمال والتاريخ ستدهسه تلك التظاهرة ، سيصبوا الشمع السائل فوق رؤوس التماثيل والمنحوتات البديعة ، تمثال طلعت باشا حرب سينزعوه من مكانه وتمثال ابراهيم باشا سيرفعوه من فوق حصانه ونحن ، نحن سنغطي بالشمع لتضيع ملامحنا وعنفواننا وقوتنا ونتحول لكتل حمقاء بلا روح يبصق عليها العابرون !!
لازم نتحرك .... همست الاسود الرابع علي ضفتي الكوبري !!!
وتسللت الاسود الاربع من فوق منصاتها وتركت الكوبري غريبا مثل بقيه المدينه وسارت صوب الاوبرا الخديوية ، هناك سنختبيء حتي تمر عواصف الرياح الرملية التي تحتل سماء المحروسة ، هناك سنختبيء ولن يقوا يقتحموا المكان ويغمرونا بالشمع القذر ولا يكسروا قوتنا ، هناك ، سنختبيء حتي تصحو السماء وتسطع زرقتها فرحا فوق المدينه العريقة ، سنتحرك صوب الاوبرا الخديوية !!!
صاح احدهم ، لن نختبيء ، بل سنحمي الاوبرا الخديويه من العواصف الرمليه واعاصير البلاده ، سنحميها حتي تنتهي الزوابع وتبقي شامخه ، وقتها سنعود لمكاننا علي ضفه النهر المقدس وعتبات المدينة القاهرة ..
تحركت الاسود الاربع ببطيء وكأنها خيالات لايراها الماره البلداء في الشوارع المكتظة بهم ، من يري الاسود تسير بجواره لايصدق عينه ويخاف يخبر رفاقه بما يراه ، سيتهموه بالجنون ، سيسخروا منه ، يختار الصمت ويقرر ان الاسود الاربع لاتسير بجواره و.. ينغمس اكثر داخل نفسه فارا من كل مايحدث وكأنه لايحدث !!!

نهاية الجزء الاول
يتبع بالجزئين الثاني والثالث


هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

مزيج من الحياة المعتادة ..والرتيبة لا يقطعه فى نهاية هذا الجزء غير قرار الأسود بالدفاع عن مكان إختبائها عن الأوبرا ...ولكن التفصيلات ...تتسلل بين الأحداث تعبر عن ..رغبة فى استرجاع زمن الملكية والحرية ..

أسامة جاد يقول...

تنتبه المدينه المزدحمه بسياراتها ومبانيها القبيحه وبائعيها الجائلين وبضاعتهم الرخيصه الملقاه علي الارصفه واصحاب المحلات الخاويه من زبائنها والبنات اللاتي يقتلن الفراغ بمشاهده المحلات والسير وسط الزحام بحثا عن كلمه اعجاب ترفع معنوياتهن والشحاذين والكناسين ببدلهم الخضراء الرثه والنسوة اللاتي ينشرن الغسيل في الشرفات والشباب الكثر الواقفين علي نواصي الشوارع يبحث عن تسليه رخيصه لاتتطلب منهم نقودا
وانت تقف بجوار الاوبرا الخديويه تبكي مثلي .... ستلمح رجل وامرأة يبكيا في شرفة منزلهما ، الدموع ماس يترقرق فوق وجنتيهما لكنه ثابت لاينزلق للارض ، علي الوجه ملامح الم ثابته ، هي لوحة وليست حقيقه !
تركه منسي وهو لايكف عن الضحك وصعد السلم في طريقه للنادي وتمني لو وقف علي جانب واخرج مفكرته وكتب سؤال فجره رجب في عقله ، ليه بيضرب تحيه عسكريه مع انه عارف اني مش ضابط ولاباشا ؟؟؟ لكنه لم يفعل واكمل صعوده علي السلم ، وبقي السؤال في راسه ، ليه صحيح ؟؟
تسللت الاسود الاربع من فوق منصاتها وتركت الكوبري غريبا مثل بقيه المدينه وسارت صوب الاوبرا الخديوية ، هناك سنختبيء حتي تمر عواصف الرياح الرملية التي تحتل سماء المحروسة ، هناك سنختبيء

ربما كانت المونولوجات الشعر/ نثرية المقتبسة هنا شواهد كافية على جمالية السرد فنيا في هامش اللغة الصرف .. بينما يأتي اهتمامك بالتفاصيل المشهدية دالا على جمالية التصوير المشهدي الذي تبنين عليه سردياتك .. المشهدية السينمائية التي تجمع اللون والصوت والحركة .. مضافا لها الملمس وارائحة والطعم .. تجعلين قارئك "ينغمس" بالمعنى التام للتعبير في المشاهد .. شخصياتك أيضا على نمطيتها السينمائية إلا أنها لهذا السبب ذاته حية ومحسوسة .. ربما هو الاتكاء المقصود على الذاكرة السينمائية .. غير أن لعبة المونتاج المدهشة في تجميد المشاهد جزئيا .. وتحريك مشاهد أخرى .. ومراقبة حورس وإيزيس والراوي العليم للمشاهد من مستوى فراغي مختلف خارج المشهد ومطل عليه .. تشي بوعي بنائي مختلف يكسر دائما حاجز الإيهام الفني في حرصك على تأصيل ملامح الوعي بمنطقة المشهد وظرفيته ... ممتع لأقصى حد